الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالقرآن وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدّعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة. إلا أن ذلك لم يكن. فدل على أنه غير موجود عندهم. وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا. نعم! تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره.
أمّا أن فيه ما ليس من ذلك فلا، وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وقوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ونحو ذلك، وبفواتح السور، وهي مما لم يعهد عند العرب، وبما نقل عن الناس فيها. وربما حكي من ذلك عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء.
فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد. أو المراد بالكتاب في قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية. وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا كعدد الجمل الذي تعرّفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير. أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ولم يدّعه أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوه. وما ينقل عن عليّ أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار، في الاستعانة على فهمه، على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة. فيه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه، والله أعلم وبه التوفيق.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومنها- أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم. فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه
في فهم الشريعة. وإن لم يكن ثمّ عرف، فلا يصح أن يجري في فهمها ما لا تعرفه.
وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب. مثال ذلك: أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني، وإن كانت تراعيها أيضا، فليس أحد الأمرين عندها بملتزم، بل قد تبنى على أحدهما مرّة، وعلى الآخر أخرى، ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته. والدليل على ذلك أشياء:
أحدها: خروجها في كثير من كلامها على أحكام القوانين المطّردة، والضوابط المستمرة، وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها، وإن لم يكن بها حاجة، وتركها لما هو أولى في مراميها. ولا يعد ذلك قليلا في كلامها، ولا ضعيفا، بل هو كثير قويّ، وإن كان غيره أكثر منه.
والثاني: أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها، ولا يعدّ ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى المقصود على استقامة. والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف. وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير. وقد استمر أهل القراآت على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم، مما وافق المصحف، وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال، وإن كانت بين القراءتين ما يعده الناظر ببادي الرأي اختلافا في المعنى، لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة، لا تفاوت فيه، بحسب مقصود الخطاب: كمالك وملك، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يخادعون إلا أنفسهم. لنبوئنهم من الجنة غرفا لنبوئنهم من الجنة غرفا. إلى كثير من هذا، لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب، وهذا كان عادة العرب.
ألا ترى ما حكى ابن جنّيّ عن عيسى بن عمر، وحكى عن غيره أيضا، قال: سمعت ذا الرمة ينشد:
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن
…
عليها الصبا واجعل يديك لها سترا
فقلت: أنشدتني: من بائس، فقال: يابس وبائس واحد. فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس، لمّا كان موضع البيت قائما على الوجهين، وصوابا على كلتا الطريقتين. وقد قال في رواية أبي العباس الأحول: البؤس واليبس واحد. يعني بحسب قصد الكلام، لا بحسب تفسير اللغة. وعن أحمد بن يحيى، قال: أنشدني ابن الأعرابيّ:
وموضع زير لا أريد مبيته
…
كأني به من شدة الروع آنس
فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا، أنشدتنا «وموضع ضيق» فقال: سبحا