الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفريقين. وربما يقع في مثل هذا من التعريض بخصوصيات الحادثة ما يبلغ حدّ الكثرة. فيجب أن يذكر شرح الحادثة مختصرا ليتضح سوق الكلام على القارئ.
القسم الثاني: أن يتم معنى الآية بعمومها من غير احتياج إلى العلم بالحادثة التي هي سبب النزول. والحكم لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وقد ذكر قدماء المفسرين تلك الحادثة بقصد الإحاطة بالآثار المناسبة للآية، أو بقصد بيان ما صدق عليه العموم. وليس ذكر هذا القسم من الضروريات.
وقد تحقق عند الفقير، أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون: نزلت الآية في كذا وكذا، وكان غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها، سواء تقدمت القصة أو تأخرت، إسرائيليّا كان ذلك أو جاهليّا أو إسلاميّا، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها والله أعلم.
فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا، وللقصص المتعددة هنالك سعة. فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية، انتهى كلامه.
5- قاعدة في الناسخ والمنسوخ
قد تقرر أن النسخ في الشرائع جائز، موافق للحكمة وواقع. فإن شرع موسى نسخ بعض الأحكام التي كان عليها إبراهيم. وشرع عيسى نسخ بعض أحكام التوراة.
وشريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السابقة. لأن الأحكام العملية التي تقبل النسخ، إنما تشرع لمصلحة البشر. والمصلحة تختلف باختلاف الزمان، فالحكيم العليم يشرع لكل زمن ما يناسبه.
وكما تنسخ شريعة بأخرى، يجوز أن تنسخ بعض أحكام شريعة بأحكام أخرى في تلك الشريعة. فالمسلمون كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس في صلاتهم، فنسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين. ولكنّ هناك خلافا في نسخ أحكام القرآن ولو بالقرآن. فقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهانيّ المفسر الشهير: ليس في القرآن آية منسوخة، وهو يخرّج كل ما قالوا إنه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص أو التأويل.
وظاهر أن مسألة القبلة ليس فيها نسخ للقرآن، وإنما هي نسخ لحكم، لا ندري
هل فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم باجتهاده، أم بأمر من الله تعالى غير القرآن، فإن الوحي غير محصور في القرآن.
ولكن الجمهور على أن القرآن ينسخ بالقرآن، بناء على أنه لا مانع من نسخ حكم آية مع بقائها في الكتاب، يعبد الله تعالى بتلاوتها، وتذكر نعمته، بالانتقال من حكم كان موافقا للمصلحة ولحال المسلمين في أول الإسلام، إلى حكم يوافق المصلحة في كل زمان ومكان. فإنه لا ينسخ حكم إلا بأمثل منه، كالتخفيف في تكليف المؤمنين بقتال عشرة أمثالهم، والاكتفاء بمقاتلة الضعف بأن تقاتل المائة مائتين. واتفقوا على أنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين من آيات الأحكام العملية، وعلم تاريخهما، فعند ذلك يقال: إن الثانية ناسخة للأولى. أما آيات العقائد والفضائل والأخبار فلا نسخ فيها.
وقال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى: مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة- وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد مطلق. وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه. حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد. فالنسخ، عندهم وفي لسانهم، هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه. ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر.
انتهى.
وقال وليّ الله الدهلويّ في الفوز الكبير: من المواضع الصعبة في فن التفسير التي ساحتها واسعة جدّا، والاختلاف فيها كثير، معرفة الناسخ والمنسوخ، وأقوى الوجوه الصعبة اختلاف اصطلاح المتقدمين والمتأخرين، وما علم في هذا الباب، من استقراء كلام الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يستعملون النسخ بإزاء المعنى اللغويّ الذي هو إزالة شيء بشيء، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى، إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا، أو تخصيص عام، أو بيان الفارق بين المنصوص وما قيس عليه ظاهرا، أو إزالة عادة الجاهلية، أو الشريعة السابقة، فاتسع باب النسخ عندهم وكثر جولان العقل هنالك، واتسعت دائرة الاختلاف. ولهذا بلغ عدد الآيات المنسوخة خمسمائة.
وإن تأملت، متعمقا، فهي غير محصورة. والمنسوخ باصطلاح المتأخرين عدد قليل. لا سيما بحسب ما اخترناه من التوجيه. انتهى.
وقال الإمام الشاطبيّ في الموافقات: الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم، في الإطلاق، أعم منه في كلام الأصوليين. فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم، بدليل متصل أو منفصل، نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعيّ، بدليل شرعيّ متأخر، نسخا. لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد. وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به. وهذا المعنى جاء في تقييد المطلق.
فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ.
وكذلك العامّ مع الخاص. إذ كان ظاهر العام شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ.
فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ. إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم، كالمقيد مع المطلق. فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني، لرجوعها إلى شيء واحد. ولا بد من أمثلة تبين المراد: فقد روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] أنه ناسخ لقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الشورى: 20] وهذا، على التحقيق، تقييد لمطلق. إذ كان قوله نُؤْتِهِ مِنْها مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة، وهو قوله في الأخرى لِمَنْ نُرِيدُ وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.
وقال في قوله وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى قوله: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [الشعراء: 224- 226] هو منسوخ بقوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً.. [الشعراء: 227] الآية، قال مكيّ- وقد ذكر عن ابن عباس، في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء، أنه قال: منسوخ- قال:
وهو مجاز لا حقيقة. لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه، بيّنه حرف الاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول، والناسخ منفصل من المنسوخ، رافع
لحكمه، وهو بغير حرف. هذا ما قال. ومعنى ذلك: أنه تخصيص للعموم قبله، ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص.
وقال في قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] أنه منسوخ بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ.. [النور: 29] الآية. وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء. غير أن قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ يثبت في الآية الأخرى أنما يراد بها المسكونة.
وقال في قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41]، أنه منسوخ بقوله:
ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] ، والآيتان في معنيين. ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع.
وقال في قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1] منسوخ بقوله:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ.. [الأنفال: 41] الآية، وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله: لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
وقال في قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أنه منسوخ بقوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها..
الآية. وآية الأنعام خبر من الأخبار، والأخبار لا تنسخ ولا تنسخ.
وقال في قوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ.. [النساء: 8] الآية: أنه منسوخ بآية المواريث. وقال مثله الضحاك والسدي وعكرمة. وقال الحسن: منسوخ بالزكاة. وقال ابن المسيّب: نسخه الميراث والوصية.
والجمع بين الآيتين ممكن، لاحتمال حمل الآية على الندب، والمراد بأولي القربى من لا يرث. بدليل قوله: وَإِذا حَضَرَ كما ترى الرزق بالحضور، فإن المراد غير الوارثين. وبيّن الحسن أن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم.
وقال هو وابن مسعود في قوله: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 284] أنه منسوخ بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] بدليل أن ابن عباس فسر الآية بكتمان الشهادة، إذ تقدم قوله وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ثم قال: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ