الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 8]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
أصل ناس أناس، حذفت همزته تخفيفا، وحذفها مع لام التعريف كاللازم.
ويشهد لأصله إنسان، وأناس، وأناسيّ، وإنس. وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون- كما سمي الجن لاجتنانهم- ولذلك سموا بشرا. وقيل: اشتقاقه من الأنس- ضدّ الوحشة- لأن الإنسان مدنيّ بالطبع. والأوّل أظهر.
واعلم أن صفات المنافقين إنما نزلت في السور المدنية. لأن مكّة لم يكن فيها نفاق، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب. وبها اليهود- من أهل الكتاب- وهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع- حلفاء الخزرج- وبنو النّضير وبنو قريظة- حلفاء الأوس- فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلّ من أسلم من اليهود- إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا، لأنه لم يكن للمسلمين، بعد، شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة- من أحياء العرب حوالي المدينة-. فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعزّ الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول- وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان ابن سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخبر، وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله. فلما كانت وقعة بدر، قال: هذا أمر قد توجّه. فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف- ممن هو على طريقته ونحلته- وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثمّ وجد النفاق في أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
قال القاشانيّ: المخادعة استعمال الخدع من الجانبين، وهو إظهار الخير، واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله، لقوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] . فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان
الكفر والعداوة. وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم، وإجراء أحكام الإسلام عليهم. بحقن الدماء وحصن الأمول وغير ذلك. وادّخار العذاب الأليم، والمآل الوخيم، وسوء المغبّة لهم، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم. لكن الفرق بين الخداعين: أن خداعهم لا ينجح إلّا في أنفسهم. بإهلاكها، وتحسيرها، وإيراثها الوبال والنكال- بازدياد الظلمة، والكفر، والنفاق، واجتماع أسباب الهلكة، والبعد والشقاء، عليها- وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشد إيباق، كقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: 54] ، وهم- من غاية تعمّقهم في جهلهم- لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو (وما يخادعون) بالألف.
قال ابن كثير: نبه الله سبحانه على صفات المنافقين، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض- من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفّار في نفس الأمر- وهذا من المحذورات: أن يظنّ بأهل الفجور خير. ثم إن قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين- إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان «1» في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا- في غزوة تبوك- الذين همّوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفّروا به الناقة، ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة.
فأما غير هؤلاء، فقد قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] الآية. وقال تعالى:
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا ففيها دليل على أنه لم يغربهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كان تذكر له صفاتهم، فيتوسمها في بعضهم، كما قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [محمد: 30] . وقد كان من أشهرهم بالنفاق، عبد الله بن أبيّ بن سلول.
واستند- غير واحد من الأئمة- في الحكمة عن كفّه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، بما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه «أكره أن يتحدّث العرب أنّ
(1) أخرجه الإمام مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث 9 و 10 و 11.