الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف. ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير. فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القول أقرب يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم. لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم، ومجامع الأخلاق الحميدة، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة وَيُزَكِّيكُمْ أي يطهركم من الشرك وأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وهو القرآن. وهذا ليس بتكرار. لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم وَالْحِكْمَةَ وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها. ولذلك قال الشافعيّ رضي الله عنه: الحكمة هي سنة الرسول. وقوله وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ تنبيه على أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل، وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم. فبعث الله تعالى النبيّ بالحق.
حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم. فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة. وذلك من أعظم أنواع النعم. قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران: 164] الآية. وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إبراهيم: 28] ، قال ابن عباس يعني، بنعمة الله، محمدا صلى الله عليه وسلم. ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره. وقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 152]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ قال ابن جرير: أي اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم. وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح. وقال القاشانيّ: اذكروني بالإجابة والطاعة، أذكركم بالمزيد والتوالي. وهي بمعنى ما قبله. وقوله وَاشْكُرُوا لِي قال ابن جرير: أي اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته. وقوله وَلا تَكْفُرُونِ أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم.
قال السمرقنديّ: أي اشكروا نعمتي: أن أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو
عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة. ولا تجحدوا هذه النعمة، ويقال: النعمة، في الحقيقة. هي العلم. وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة.
وليس بنعمة. والعلم لا يملّ منه صاحبه. بل يطلب منه الزيادة. فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة، وهي نعمة بعثه رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة. كما قصه الحراليّ. ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم، جعل، تعالى ذكره، لهم عوض ما كانوا يذكرون. كما جعل كتابه عوضا من أشعارهم. وهزّ عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1»
«يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي حين يذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا.
وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا. فإن أتاني يمشي أتيته هرولة. صحيح الإسناد أخرجه «2» البخاريّ أيضا.
وروى مسلم «3» عن أبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة: أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده.
والآثار في فضل الذكر متوافرة، ويكفي فيه هذه الآية الكريمة.
(تنبيه) قال النوويّ رحمه الله تعالى: اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما. بل كل عامل لله تعالى بطاعة، فهو ذاكر لله تعالى.
كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه، وغيره من العلماء. وقال عطاء رحمه الله: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام. كيف تشتري وتبيع. وتصلى وتصوم، وتنكح وتطلّق. وأشباه هذا. وقال النوويّ أيضا: إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها. واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع، لا عارض. وقد صنف، في عمل اليوم والليلة، جماعة من الأئمة كتبا نفيسة. ومن أجمعها للمتأخرين (كتاب
(1) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، 2/ 251 ورقم 7416.
(2)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 15- باب قول الله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، حديث رقم 2599.
(3)
أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 39.
الأذكار للنوويّ) وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد) . وقال في طليعة ذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل.
بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه. وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله. وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له.
وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكرا منه له. وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له. وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه. فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله. وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا، وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه ومسيره، ونزوله وظعنه وإقامته. انتهى.
وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة، سماع الكف والدف، فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر الأكابر من أئمة الدين، يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى. ولا يعدّونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة. حتى قال الشافعيّ: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغيير) يصدّون به الناس عن القرآن. وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك. ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا. ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم. ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله، كان نصيب الشيطان فيه أكثر. فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية. وهو سماع المشركين. قال الله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] ، قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وغيرهما من السلف: التصدية، التصفيق باليد.
والمكاء مثل الصفير. فكان المشركون يتخذون هذا عبادة. وأما النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر نحو ذلك، والاجتماعات الشرعية.
ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط. لا بكف ولا بدف ولا تواجد وكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذا اجتمعوا، أمروا واحدا منهم أن يقرأ. والباقون يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعريّ: ذكرنا ربنا. فيقرأ وهم يستمعون. ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ
فقال له «1» : مررت بك
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث 236 ونصه: عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود»
. وقال الحافظ في الفتح عند الكلام على الحديث 2097 ما نصه: كذا وقع عنده مختصرا من طريق بريد. وأخرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة بلفظ (وساق نصه، كما أمر) .
البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك. فقال: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا
. أي لحسنته لك تحسينا. كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم «1» : زينوا القرآن بأصواتكم.
وقال صلى الله عليه وسلم «2» : لله أشد أذنا (أي استماعا) إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به، من صاحب القينة إلى قينته.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم «3»
«أقرأ عليّ» قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال «نعم» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41]، قال: حسبك الآن. فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مريم: 58] . وقال تعالى في أهل المعرفة وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 83]، ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23]، وقال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2] ، فخلاف هذا السماع، من الباطل الذي نهى عنه.
ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أكابر المشايخ.
فليفق من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره. وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره. وليداو جراحات اجتراح بدعته، باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته.
(1)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 52- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم «الماهر بالقرآن مع البررة الكرام وزينوا القرآن بأصواتكم» .
وقال الحافظ في الفتح: هذا الحديث من الأحاديث التي علقها البخاريّ ولم يصلها في موضع آخر من كتابه. وقد أخرجه في كتاب (خلق أفعال العباد) من رواية عبد الرحمن ابن عوسجة عن البراء بهذا. وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائيّ وابن ماجة والدارميّ، وابن خزيمة وابن حبان، في صحيحهما من هذا الوجه.
(2)
أخرجه ابن ماجة في: إقامة الصلاة والسنة فيها، 176- باب في حسن الصوت بالقرآن، حديث 1340، عن فضالة بن عبيد.
(3)
أخرجه البخاريّ في: فضائل القرآن، 33- باب قول المقرئ للقارئ: حسبك. حديث رقم 1990.