الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليجتنب، فبيّن صريحا ما حرّم عليهم- مما كان المشركون يستحلّونه ويحرّمون غيره- وأفهم حلّ ما عداه، وأنه كثير جدا ليزداد المخاطب شكرا، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 173]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وهي في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة- إما في الفاعل أو في المفعول- فدخل فيها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية، والنطيحة، وما عدا عليها السبع.
قال ابن كثير: وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر، لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة: 96] ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحديث العنبر في الصحيح.
وفي المسند، والموطّأ، والسنن: قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» «1» .
وروى الشافعيّ وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر «2» : أحلت لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان الحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال. وَالدَّمَ وهو المسفوح أي: الجاري، كما صرّح بذلك في الآية الأخرى- والمفسّر قاض على المبهم- وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد. وفي القاموس وشرحه: والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في معى من فصد عرق البعير، ويشوى، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة. ويحكى: أنه بات رجلان عند أعرابيّ فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى فقال: ما قريت وإنما فصد لي. فقال لم يحرم من فصد له- بسكون الصاد- فجرى ذلك مثلا لمن نال بعض المقصد، وسكّن الصاد تخفيفا، أي: لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها. ويروى: من فزد له- بالزاي بدل الصاد- وبعضهم يقول: من قصد له- بالقاف- أي: من أعطى قصدا أي قليلا. وكلام العرب بالفاء. وقال يعقوب: تأويل هذا أنّ الرجل كان يضيف الرجل في
(1) أخرجه أبو داود في: الطهارة، 41- باب الوضوء بماء البحر، حديث 83.
(2)
أخرجه ابن ماجة في: الأطعمة، 31- باب الكبد والطحال، حديث 3314.
شدّة الزمان، فلا يكون عنده ما يقريه، ويشحّ أن ينحر راحلته، فيفصدها، فإذا خرج الدم سخّنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إيّاه. وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه: إمّا تغليبا أو لأنّ اللحم يشمل ذلك لغة، لأنه ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده. وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر. وهو هنا على أصله في اللغة. وإمّا بطريق القياس على رأي، لأنّه إذا حرّم لحمه الذي هو المقصود بالأكل- وهو أطيب ما فيه- كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم. ولمّا حرّم ما يضرّ الجسم ويؤذي النفس، حرّم ما يرين على القلب، فقال وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي: ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له. وأصل (الإهلال) رفع الصوت أي: رفع به الصوت للصنم ونحوه، وذلك كقول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزّى.
وذكر القرطبيّ عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنّه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها، فنحرت فيه جزورا، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم. وذكر أيضا عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عمّا يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم.
والقصد سدّ ما كان مظنّة للشرك.
قال النوويّ في (شرح مسلم) : فإن قصد الذابح- مع ذلك- تعظيم المذبوح له، وكان غير الله تعالى- والعبادة له، كان ذلك كفرا. فإن كان الذابح مسلما. قبل ذلك، صار بالذبح مرتدّا. ذكره في الكلام على
حديث «1» عليّ رضي الله عنه: لعن الله من ذبح لغير الله.
قال الحراليّ: وذكر الإهلال إعلام بأنّ ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشدّ المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر.
وروى البخاريّ «2» عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا
(1)
أخرجه مسلم في: الأضاحيّ، حديث 43 ونصه: عن أبي الطفيل، عمر بن واثلة قال: كنت عند عليّ بن أبي طالب، فأتاه رجل فقال: ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسرّ إليك؟ قال فغضب وقال: ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسرّ إليّ شيئا يكتمه الناس. غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. قال فقال: ما هن، يا أمير المؤمنين؟ قال: قال «لعن الله من لعن والده. ولعن الله من ذبح لغير الله. ولعن الله من آوى محدثا. ولعن الله من غيّر منار الأرض»
. (2) أخرجه البخاريّ في: الذبائح والصيد، 21- باب ذبيحة الأعراب ونحوهم.