الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ التفات إلى خطاب المذكورين، مبنيّ على إيراث ما عدّد من قبائحهم السابقة، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع.
والاستفهام إنكاريّ بمعنى إنكار الواقع. واستبعاده، والتعجيب منه، لأن معهم ما يصرف عن الكفر، ويدعو إلى الإيمان وَكُنْتُمْ أَمْواتاً أجساما لا حياة لها عناصر، وأغذية، ونطفا، ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة- وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية، إمّا حقيقة- بناء على أنّ الميت عادم الحياة مطلقا. كما في قوله تعالى: بَلْدَةً مَيْتاً [الفرقان: 49] ووَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ [يس: 33] .
أو استعارة، جريا على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. فَأَحْياكُمْ بخلق الأرواح، ونفخها فيكم. وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه، غير متراخ عنه، بخلاف البواقي ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند ما تقضى آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالنشور، والبعث، للحساب والجزاء ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- بعد الحشر- فيجازيكم بأعمالكم: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه
…
!
فإن قيل: إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنّه يحييهم ثم إليه يرجعون، فيكف نظم ما ينكرونه، من الإحياء الأخير والرجع، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول والإماتة
…
؟
قلت: تمكّنهم من العلم بهما- لما نصب لهم من الدلائل- منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر. سيّما وفي الآية تنبيه على ما يدلّ على صحتهما. وهو أنّه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا، قدر على أن يحييهم ثانيا. فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته..! أو الخطاب، مع أهل الكتابين. وإنكار اجتماع الكفر- مع القصة التي ذكرها الله تعالى- إمّا لأنها مشتملة على آيات بيّنات تصرفهم عن الكفر، أو على نعم جسام حقّها أن تشكر ولا تكفر. أو لإرادة الأمرين جميعا. فإنّ ما عدّده آيات، وهي- مع كونها آيات- من أعظم النعم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 29]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى، فإنّها خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد أخرى. وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم، ويتمّ به معاشهم. ومعنى لَكُمْ لأجلكم، ولانتفاعكم. وفيه دليل على أنّ الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل. ولا فرق بين الحيوانات وغيرها. مما ينتفع به من غير ضرر. وفي التأكيد بقوله جَمِيعاً أقوى دلالة على هذا. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قال أبو العالية الرياحي: استوى إلى السماء أي: ارتفع. نقله عنه البخاريّ في صحيحه «1» ، ورواه محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن الربيع بن أنس.
وقال البغويّ: قال ابن عباس وأكثر المفسّرين: ارتفع إلى السماء. وقال الخليل ابن أحمد في ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: ارتفع. رواه أبو عمرو ابن عبد البر في شرح الموطأ، نقله الذهبيّ في كتاب العلوّ-. وقد استدل بقوله: ثُمَّ اسْتَوى على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء، وكذلك الآية التي في (حم السجدة) . وقوله تعالى في سورة (والنازعات) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] إنما يفيد تأخّر دحوّها، لا خلق جرمها، فإنّ خلق الأرض وتهيئتها- لما يراد منها- قبل خلق السماء. ودحوّها بعد خلق السماء. والدحوّ هو البسط، وإنبات العشب منها، وغير ذلك. مما فسّره قوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها [النازعات: 31] الآية- وكانت قبل ذلك خربة وخالية. على أنّ «بعد» تأتى بمعنى «مع» كقوله «عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] أي: مع ذلك، فلا إشكال. وتقديم الأرض- هنا- لأنها أدل لشدّة الملابسة والمباشرة. فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي: صيّرهن، كما في آية أخرى فَقَضاهُنَّ [فصلت: 12] .
(تنبيه) قال بعض علماء الفلك: السموات السبع- المذكورة كثيرا في القرآن- هي هذه السيارات السبع. وإنما خصّت بالذكر- مع أن السيارات أكثر من ذلك- لأنها أكبر السيارات وأعظمها، على أنّ القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد- على سبيل الحصر- فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع.
وقال بعض علماء اللغة: إن العرب تستعمل لفظ سبع، وسبعين، وسبعمائة للمبالغة في الكثرة. فالعدد إذن غير مراد. ومنه آية سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة: 261] وآية وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: 27] وآية سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة: 80]
(1) أخرجه البخاري في: التوحيد، 22- باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم.
والله أعلم.
وذهب بعض علماء الفلك إلى أن الحصر في السبع حقيقيّ، وأن المراد به العالم الشمسيّ وحده دون غيره. وعبارته: إن قيل: إن كلّ ما يعلو الأرض- من الشمس والقمر والكواكب- هو سماء، فلماذا خصّص تعالى عددا هو سبع؟
فالجواب: لا شكّ أنه يشير إلى العالم الشمسيّ- الذي أحطنا الآن به علما- وأنّ حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع، لأن القول بذلك، يخرج تطبيق القرآن على الفلك، لأنّ العلم أثبتها سبعا كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة- لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها- حتى يمكن أن يقال: إنّ سبعا للمبالغة- كسبعين وسبعمائة- ولا يصحّ أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جدا بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين- مثل العالم الشمسيّ- ويؤيد الحصر في هذا العدد آية أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 15- 16] فأخرج الشمس لأنها مركز وأخرج القمر لأنه تابع للأرض، ولم يبق بعد ذلك إلا سبع..!
قال: وبذلك تتجلّى الآن معجزة واضحة جليّة. لأنه في عصر التقدّم والمدنية العربية، حينما كان العلم ساطعا على الأرض بعلماء الإسلام، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلّا خمسا- بأسمائها العربية إلى اليوم- وهي: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل. وكانوا يفّسرونها بأنها هي السموات المذكورة في القرآن. ولمّا لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد. مع أنّ القرآن يصرّح بأنّ السموات السبع غير الشمس والقمر. وذلك في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد: 2] ، فلفظ «وسخر» دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السموات. ولذلك كان المفسّرون- الذين لا يعرفون الهيئة- لا يرون أن تعدّ الشمس سماء، ولا القمر، لعلمهم أن السموات السبع مسكونة. وأمّا الشمس فنار محرقة. فذهبوا- في تفسير السموات- على تلك الظنون. ولمّا اكتشف بعد (بالتلسكوب) سيّار لم يكن معلوما، دعوه «أورانوس» ثم سيّر آخر سمّوه «نبتون» - صارت مجاميع السيارات سبعا، فهذا الاكتشاف- الذي ظهر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بألف ومائتي سنة- دلّ على معجزة القرآن، ونبوّة المنزل عليه صلى الله عليه وسلم.