الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حاصرهم، على حكم الله،
وقال فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا
…
؟
ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك
…
فتأمّل، كيف فرّق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذا لما كتب الكاتب- بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا. ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وقال مالك: لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به، يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام. وما كانوا يجترءون على ذلك. وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسنا.
ولمّا نهاهم سبحانه عن متابعة العدوّ، ذمّهم بمتابعته، مع أنه عدوّ، من غير حجة، بل بمجرد التقليد للجهلة، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الردّ عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا أي: وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا أي: من عبادة الأصنام والأنداد.
فقال مبكّتا لهم أَوَلَوْ أي: أيتّبعون آباءهم ولو كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً أي: من الدين وَلا يَهْتَدُونَ للصواب إذ جهلوه؟
قال الحراليّ: فيه إشعار بأنّ عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوّة الدين. ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم.
إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك. فإنكم، أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك.
فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» .
قال الرازيّ: معنى الآية: إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة. فهم قالوا: لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا. فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد. وأجاب الله تعالى عنهم بقوله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ
…
إلى آخره.
ثم قال: تقرير هذا الجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال للمقلّد: هل تعترف بأنّ شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقّا أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده إلّا بعد أن تعرف كونه محقّا، فكيف عرفت أنه محقّ؟ وإن عرفته بتقليد آخر، لزم التسلسل وإن عرفته بالعقل، فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد..! وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كوّنه محقّا
…
فإذن قد جوّزت تقليده وإن كان مبطلا..! فإذن أنت- على تقليدك- لا تعلم أنّك محقّ أو مبطل..!
وثانيها: هب أنّ ذلك المتقدم كان عالما بهذا الشيء إلا أنّا لو قدرنا أنّ ذلك المتقدم ما كان عالما بذلك الشيء قط، وما اختار فيه البتة مذهبا فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه، كان لا بدّ من العدول إلى النظر، فكذا هاهنا.
وثالثها: أنك إذا قلّدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا بتقليد؟ فإن عرفته بتقليد، لزم إمّا الدور وإمّا التسلسل. وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدّم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد لأنّك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل- مع أن ذلك المتقدّم طلبه بالدليل لا بالتقليد- كنت مخالفا له. فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلا.
ثم قال الرازي عليه الرحمة: إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
وقال الإمام الراغب: ذمّهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية، وركّب فيه من المعارف. وذلك أن الله ميّز الإنسان بالفكر ليعرف به الحقّ من الباطل في الاعتقاد. والصدق من الكذب في الأقوال. والجميل من القبيح في الفعل. ليتحرى الحقّ والصدق والجميل. ويتجنب أضدادها. وجعل له من نور العقل