الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنقولة بالآحاد. كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد. وهو أضعف. وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع إليه، أو دينا يدان الله به، فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم.
فصل في أقسام العلوم المضافة إلى القرآن
قال الشاطبيّ: العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام:
قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه، كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها وعلم القراآت والناسخ والمنسوخ وقواعد أصول الفقه وما أشبه ذلك. فهذا لا نظر فيه هنا. ولكن قد يدعي فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة. فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ وعلم الأسباب وعلم المكّي والمدنيّ وعلم القراآت وعلم أصول الفقه معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن. وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا. ولا يكون كذلك. كما تقدم في حكاية الرازيّ في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] . وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه ب (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) أن علوم الفلسفة مطلوبة. إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها.
ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة. وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم. هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع. بتحققهم بفهم القرآن. يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير. فلينظر امرؤ أين يضع قدمه.
وثمّ أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور ولا ينبئك مثل خبير. فأبو حامد ممن فتل هذه الأمور خبرة وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه.
وقسم هو مأخوذ من جملته، من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو. وذلك ما فيه من دلالة النبوة. وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ
منه الأحكام الشرعية. إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما. وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله. وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء، ولا سورة دون سورة، ولا نمط منه دون آخر. بل ماهيته هي المعجزة له حسبما نبه عليه
قوله عليه السلام: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر. وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»
فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه السلام. وفيها عجز الفصحاء اللسن والخصماء اللّدّ عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه. ووجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع. لأنه كيما تصور الإعجاز به، فماهيته هي الدالة على ذلك. فإلى أي نحو منه ملت دلّك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا وموضعه كتب الكلام.
وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله وخطاب الخلق به ومعاملته لهم بالرفق والحسنى، من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم مع أنه المنزه القديم.
وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات. وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم. وينبني صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد. وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله. ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية والمحاسن الأدبية.
فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد. فمن ذلك عدم المؤاخذة قبل الإنذار.
ودلّ على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] فجرت عادته في خلقه أن لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل.
فإذا قامت الحجة عليهم. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولكل جزاء مثله، ومنها الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق. فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه. وزاد على يدي رسوله عليه السلام من المعجزات ما فيه بعض الكفاية.
ومنها ترك الأخذ من أول مرة بالذنب، والحلم عن تعجيل المعاندين بالعذاب، مع تماديهم على الإباية والجحود، بعد وضوح البرهان، وإن استعجلوا به.
ومنها تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحي من ذكره في عادتنا. كقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] .
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ [التحريم: 12] . وقوله:
كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به، فلا بد منه. وإليه الإشارة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26] وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] .
ومنها التأني في الأمور والجري على مجرى التثبت والأخذ بالاحتياط، وهو المعهود في حقنا فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في عشرين سنة، حتى قال الكفار: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] . فقال الله:
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. وقال: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] . وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف والصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة وإلى كل محتاج إليه.
وحين أبى من أبى من الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر، بدءوا بالتغليظ بالدعاء. فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا. حكمة بالغة وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان. حتى إذا كمل الدين ودخل الناس فيه أفواجا ولم يبق لقائل ما يقول، قبض الله نبيه إليه، وقد بانت الحجة ووضحت الحجة واشتد أسّ الدين وقوي عضده بأنصار الله. فلله الحمد كثيرا على ذلك.
ومنها كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء. فقد بيّن مساق القرآن آدابا استقرئت منه. وإن لم ينص عليها بالعبارة، فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير. فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن، في الغالب، إلا ب (يا) ، المشيرة إلى بعد المنادى. لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء. فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة. منها إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه، فدل على استشعار الراغب هذا المعنى إذ لم يأت في الغالب إلا: ربنا ربنا كقوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا [البقرة: 286] رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: 127]، رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي [آل عمران: 35] ، رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260] .
ومنها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضى للقيام بأمور العباد وإصلاحها.
فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان قائلا: يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتمّ لنا ذلك بكذا. وهو مقتضى ما يدعو به. وإنما أتى
(اللهم) في مواضع قليلة، ولمعان اقتضتها الأحوال.
ومنها: تقديم الوسيلة بين يدي الطلب كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 5- 6] الآية رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا [آل عمران: 16] رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ [آل عمران: 53] رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ [آل عمران: 191]، رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً [يونس: 88] الآية.
رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ إلى قوله: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نوح: 21]، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: 127] إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير.
والحاصل أن القرآن احتوى، من هذا النوع، من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية، على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار، ويصححها نصوص الآيات والأخبار.
وقسم هو المقصود الأول بالذكر، وهو الذي نبه عليه العلماء وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب، منطوقها ومفهومها، على حسب ما أداه اللسان العربيّ فيه.
وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول.
أحدها- معرفة المتوجّه إليه وهو الله المعبود، سبحانه.
والثاني- معرفة كيفية التوجه إليه.
والثالث- معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه.
وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود الذي عبر عنه قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فالعبادة هي المطلوب الأول. غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود. إذ المجهول لا يتوجّه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها. فإذا عرف، ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناه وطالب للعباد بقيامهم بحقه، توجه الطلب. إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد، فجيء بالجنس الثاني. ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات، وكان مآل الأعمال عائدا على العاملين بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية، وانجرّ، مع ذلك، التبشير والإنذار في ذكرها- أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف، وأن الدنيا ليست بدار إقامة، وإنما الإقامة في الدار الآخرة.
فالأول- يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال. ويتعلق بالنظر في
الصفات أو في الأفعال، النظر في النبوءات لأنها الوسائط بين المعبود والعباد، وفي كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا. ويتكمل بتقرير البراهين والمحاجة لمن جادل من خصماء المبطلين.
والثاني- يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات وما يتبع كل واحد منها من المكملات. وهي أنواع فروض الكفايات.
وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به.
والثالث- يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن: الموت وما يليه، ويوم القيامة وما يحويه، والمنزل الذي يستقر فيه. ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب. ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم وما أداهم إليه حاصل أعمالهم. وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما.
وقد حصرها الغزاليّ في ستة أقسام: ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة. وثلاثة هي توابع ومتممة.
فأما الثلاثة- فهي تعريف المدعوّ إليه، وهو شرح معرفة الله تعالى، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة والتزكية عن الأخلاق الذميمة وتعريف الحال عند الوصول إليه. ويشتمل على ذكر حالي النعم (النعيم) والعذاب، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة.
وأما الثلاثة الأخر- فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة. وذلك قصص الأنبياء والأولياء. وسرّه الترغيب. وأحوال الناكبين. وذلك قصص أعداء الله. وسرّه الترهيب. والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائفة. وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه، وذكر النبيّ عليه السلام بما لا يليق به. وادّكار عاقبة الطاعة والمعصية. وسرّه في جنبة الباطل التحذير والإفضاح، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح. والتعريف بعمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الأهبة والزاد. ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات.
وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة، وهي: ذكر الذات، والصفات، والأفعال، والمعاد، والصراط المستقيم، وهو جانب التحلية والتزكية، وأحوال الأنبياء، والأولياء، والأعداء، ومحاجة الكفار، وحدود الأحكام.