الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصار هذا من النمط الأول.
ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقّا. كحكايته عن الأنبياء والأولياء. ومنه قصة ذي القرنين، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام، وقصة أصحاب الكهف. وأشباه ذلك.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ولا طّراد هذا الأصل اعتمده النظار. فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ
…
[المدثر: 43- 44] الآية، إذ لو كان قولهم باطلا لردّ عند حكايته.
واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم وإنهم خمسة سادسهم كلبهم، أعقب ذلك بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف: 22] ، أي ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن.
ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا، ولما حكى قولهم سبعة وثامنهم كلبهم لم يتبعه بإبطال، بل قال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف: 22]، دلّ المساق على صحته دون القولين الأولين. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم. ورأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260]، فقيل له: أكان شاكّا حين سأل ربه أن يريه آية؟ فقال: لا، وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان. ألا تراه قال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى [البقرة: 260] ، فلو علم منه شكا لأظهر ذلك، فصح أن الطمانينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان. بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا [الحجرات: 14] فإن الله تعالى رد عليهم بقوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] .
ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن، عرف مداخلها وما هو منها حق مما هو باطل. فقد قال تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] ، إلى آخرها، فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل، فظاهرها حق وباطنها كذب، من حيث كان إخبارا عن المعتقد، وهو غير مطابق، فقال تعالى:
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون: 1] تصحيحا لظاهر القول. وقال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ إبطالا لما قصدوا فيه. وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67] الآية، وسبب نزولها ما
خرجه الترمذيّ وصححه عن ابن عباس، قال: مر يهوديّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حدثنا يا يهودي! فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه (وأشار الراوي بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام) فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وفي رواية أخرى: جاء يهودي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وفي رواية فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا
. والحديث الأول كأنه مفسر لهذا، وبمعناه يتبين معنى قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فإن الآية بينت أن كلام اليهوديّ حق في الجملة، وذلك قوله: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك- والله أعلم- لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه، وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه، فقال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61] أي يسمع الحق والباطل، فرد الله عليهم فيما هو باطل وأحق الحق، فقال: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة: 61] الآية، ولما قصدوا الأذيّة بذلك الكلام قال تعالى:
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61] . وقال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: 47] فهذا منهم امتناع عن الإنفاق بحجة، قصدهم فيها الاستهزاء، فرد عليهم بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس: 47] لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر. وجواب «أنفقوا» أن يقال: «نعم أو لا» وهو الامتثال أو العصيان. فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض، انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا. إذ حاصلهم أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة، لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق، فكأنهم قالوا: كيف يشاء الطلب منا، ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم، وهذا عين الضلال في نفس الحجة. وقال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: 78] إلى قوله: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً
وَعِلْماً
فقوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ [الأنبياء: 79] تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك، الحكم-، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع، قال: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 79] وهذا من البيان الخفيّ فيما نحن فيه.
قال الحسن: والله! لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين لرأيت أن القضاة قد هلكوا. فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده. والنمط هنا يتسع، ويكفي منه ما ذكر، وبالله التوفيق.
ثم اعلم أن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص، وإنما هي عبرة للناس. كما قال تعالى في سورة هود، بعد ما ذكر موجزا من سيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ
…
[هود: 120] إلخ، ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب، ولا تستقصى فيذكر منها الطمّ والرمّ، ويؤتى فيها بالجرّة وأذن الجرة، كما في بعض الكتب، التي تسميها الملل الأخرى مقدسة. وللعبرة وجوه كثيرة. وفي تلك القصص فوائد عظيمة، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشريّ، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية. وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الحجر: 13] . وقوله: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر: 85] . يذكر أمثال هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه، والغرور بما أوتوا، ونحو ذلك.
فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم، وجمودهم على عاداتهم وتقاليدهم.
والآية الثانية: جاءت في سياق محاجّة الكافرين والتذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء. وبعد الأمر في السير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القوية ذات القوة والآثار في الأرض، وكيف هلكوا بعد ما دعوا إلى الحق والتهذيب فلم يستجيبوا، لما صرفهم من الغرور بما كانوا فيه، ولم ينفعهم إيمانهم عند ما نزل بهم بأس الله وحلّ بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى. وليس المراد، بنفي كون قصص القرآن تاريخا، أنّ التاريخ شيء باطل ضارّ ينزه القرآن عنه. كلا. إن قصصه شذور من التاريخ تعلم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ.
فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعيّ م