الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، ورقّاه في مراتب البلاغة إلى مقام لو اجتمعت الجن والإنس على معارضته لم يقدروا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. فسبحان من أوضح لنا به معالم الدين، وأبان بمشارق أنواره مناهج الأدلة للمجتهدين. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأستعينه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، بملة حنيفية، وشرعة قويمة عليّة، وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا مقاصد التنزيل فحصّلوه، وأسسوا قواعده وفصّلوه، وجالت أفكارهم في آياته، واعملوا الجد في تحقيق مبادئه وغاياته، وعلى من اقتفى أثرهم، ممن لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم.
أما بعد، فإن أكرم ما تمتد إليه أعناق الهمم، وأعظم ما تتنافس فيه الأمم، العلم الذي هو حياة القلب، وصحة اللب وأجلّ أصنافه وأرفعها، وأكمل معالمه وأنفعها، هي العلوم الشرعية، والمعارف الدينية. إذ بها انتظام صلاح العباد، واغتنام الفلاح في المعاد. وعلم التفسير، من بينها، أعلاها شأنا، وأقواها برهانا، وأوثقها بنيانا، وأوضحها تبيانا. فإنه مأخذها وأساسها، وإليه يستند اقتناصها واقتباسها، بل هو، كما وصف به، رئيسها ورأسها. كيف لا وموضوعه، وهو الكتاب المجيد، كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر. وإنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. فلا جرم، لزم من رام الاطلاع على كليات الشريعة الغراء، وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها النجباء، أن يتخذه سميره وأنيسه، ويجعله على المدى، نظرا وعملا، جليسه.
فيوشك أن يفوز بالبغية، ويظفر بالطّلبة، ويجد نفسه من السابقين، وفي الرعيل الأول
المهتدين، ويشرق في قلبه نور الإيقان، وتطلع في بصيرته شمس العرفان، ويتبوأ في الدنيا والآخرة مكانا عليا، وتدرج النبوة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا.
وإني كنت حركت الهمة إلى تحصيل ما فيه من الفنون، والاكتحال بإثمد مطالبه لتنوير العيون، فأكببت على النظر فيه، وشغفت بتدبر لآلئ عقوده ودراريه.
وتصفحت ما قدر لي من تفاسير السابقين، وتعرفت، حين درست، ما تخللها من الغث والسمين. ورأيت كلّا، بقدر وسعه، حام حول مقاصده. وبمقدار طاقته، جال في ميدان دلائله وشواهده. وبعد أن صرفت في الكشف عن حقائقه شطرا من عمري. ووقفت على الفحص عن دقائقه قدرا من دهري. أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر. قبل أن تبلى السرائر وتفنى العناصر. وأكون بخدمته موسوما، وفي حملته منظوما. فشحذت كليل العزم، وأيقظت نائم الهم. واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده، وتفسير مقاصده. في كتاب اسمه بعون الله الجليل:«محاسن التأويل» ، أودعه ما صفا من التحقيقات، وأوشّحه بمباحث هي المهمات. وأوضح فيه خزائن الأسرار. وأنقد فيه نتائج الأفكار، وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف الغابر. وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر. وزوائد استنبطتها بفكري القاصر. مما قادني الدليل إليه. وقوي اعتمادي عليه. وسيحمد السابح في لججه، والسانح في حججه، ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان، وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان، وبدائعه الباهرة للأذهان، فإنها لباب اللباب، ومهتدى أولي الألباب. ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات، بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات. اللهم إلا إذا قابلت فرسان مضمار الحق جولة الباطلات، فهنالك تصوّب أسنّة البراهين نحو نحور الشبهات.
ولا يخفى أن من القضايا المسلمة، والمقدمات الضرورية، أنه مهما تأنق الخبير في تحبير دقائقه السميّة، فما هو إلا كالشرح لشذرة من معانيه الظاهرة، وكالكشف للمعة يسيرة من أنواره الباهرة، إذ لا قدرة لأحد على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب، وما تضمنه من لباب اللباب، لأنه منطو على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة لا يكشفها بالتحقيق إلا من اجتباه مولاه، ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقى عن خيرته ومصطفاه.
هذا وقد حليت طليعته بتمهيد خطير، في مصطلح التفسير. وهي قواعد فائقة، وفوائد شائقة، جعلتها مفتاحا لمغلق بابه، ومسلكا لتسهيل خوض عبابه، تعين المفسر على حقائقه، وتطلعه على بعض أسراره ودقائقه.
فدونك أيها الباحث عن مطالب أعلى العلوم، التائق لأسنى نتائج الفهوم، المتعطش إلى أحلى موارده، المنقب عن مصادر مقاصده، ينبوعا لمعاني الفرقان، وعقدا ضمّ درر التبيان، وقف بك من الطريق السابلة على الظهر، وخطب لك عرائس الحكم ثم وهب لك المهر، فقدّم قدم عزمك فإذا أنت بحول الله قد وصلت، وأقبل على ما قبلك منه فها أنت قد فزت بما حصلت. وفارق وهد التقليد راقيا إلى يفاع الاستبصار، وتسنّم أوج التحقيق في مطالع الأنظار. والبس التقوى شعارا، والاتّصاف بالإنصاف دثارا. واجعل طلب الحق لك نحلة، والاعتراف به لأهله ملة. ولا ترد مشرع العصبية، ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية، أنفة ذوي النفوس العصية. فذلك مرعى لسوّامها وبيل، وصدود عن سواء السبيل.
وكان شروعي في هذه النية الحميدة، بعد استخارته تعالى أياما عديدة في العشر الأول من شوال في الحول السادس عشر بعد الثلاثمائة وألف. نفعنا الله بما يجري منه على يدينا، ولا جعله حجة علينا، ونحن نستغفر الله مما تعاطيناه من الأمر العظيم، واقتحمناه من الخطر الجسيم، ونستعيذ به من الوقوع في حبائل العدوّ الرجيم، ونسأله توفيقا يقف بنا على جادة الاستقامة، ويصرفنا عن عمل ما يعقبه ملام أو ندامة، ونرجو من فضله تعالى حياة طيبة وعزما تنحط من دونه المصاعب، وعونا على إكمال هذا المأرب تبيضّ به وجوه المطالب. وهداية قدسية إلى الطريقة المثلى، وعناية لدنيّة نقوى بها على تأييد كلمة الحق الفضلى، فهو وليّ الأنعام، في البدء والختام.