الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْخَوْفِ
أي خوف العدو والإرجاف به وَالْجُوعِ أي الفقر، للشغل بالجهاد، أو فقد الزاد، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله. وقد كان يتفق لهم ذلك أياما يتبلغون فيها بتمرة وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ أي لانقطاعهم بالجهاد عن عمارة بساتينهم، أو لافتقاد بعضها بسبب الهجرة، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها وَالْأَنْفُسِ بقتلها شهيدة في سبيل الله، أو ذهاب أطرافها فيه وَالثَّمَراتِ أي بأن لا نغلّ الحدائق كعادتها، للغيبة عنها في سبيل الله، وفقد من يتعاهدها، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر، لا سيما في وقت نزول هذه الآيات. وهو أول زمان الهجرة. فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد: 31] . قال الراغب: هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها: أي إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها، بما يدل عليه سابقه.
ثم بيّن تعالى ما للصابرين عنده بقوله وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ مكروه، اسم فاعل من أصابته شدة: لحقته. أي كهذه البلايا قالُوا إِنَّا لِلَّهِ أي ملكا وخلقا، فلا ينبغي أن نخاف غيره، لأنه غالب على الكل. أو نبالي بالجوع، لأن رزق العبد على سيده، فإن منع وقتا، فلا بد أن يعود إليه. وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له، فله أن يتصرف فيها بما يشاء وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ في الدار الآخرة.
فيحصل لنا عنده ما فوّته علينا. لأنه لا يضيع أجر المحسنين. فالمصاب يهون عليه خطبه، إذا تسلّى بقوله هذا، وتصور ما خلق له، وأنه رجع إلى ربه، وتذكر نعم الله عليه. ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما أسترده منه. قال الراغب: وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئا.
وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله والقصد له، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه. فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه.
(ثم قال) إن قيل: ولم قلت: إن الأمر بالصبر يقتضي العلم؟ قيل: الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 157]
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
أُولئِكَ إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
قال الراغب: الصلاة، وإن كانت في الأصل الدعاء، فهي من الله البركة على وجه، والمغفرة على وجه. وقال الرازيّ: الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم. قال الراغب: وإنما قال صَلَواتٌ على الجمع، تنبيها على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقا وإرشادا، وفي الآخرة ثوابا ومغفرة وَرَحْمَةٌ عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ أي إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته.
(تنبيه) ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند المصائب، وفي أجر الصابرين، أحاديث كثيرة. منها ما
في صحيح مسلم «1» عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها.
قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: من خير من أبي سلمة: صاحب رسول الله؟
ثم عزم الله لي فقلتها. قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد «2» عن الحسين بن عليّ عليهما السلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها، فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها.
وروى الإمام أحمد «3» بسنده عن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي. وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولانيّ) فأخرجني وقال: ألا أبشرك؟ قال قلت:
بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى الأشعريّ قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم. قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع. قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.
ورواه الترمذيّ
وقال: حسن غريب.
وروى البخاري «4» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يصب منه.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في: الجنائز، حديث 4- 5.
(2)
أخرجه الإمام أحمد 1/ 201 حديث رقم 1734.
(3)
أخرجه الإمام أحمد 4/ 415، والترمذيّ في: الجنائز، 36- باب حدثنا سويد بن مضر.
(4)
أخرجه البخاريّ في: المرضى، 1- باب ما جاء في كفارة المرض.
وروى الشيخان «1» عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه.
ورويا «2» أيضا عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته. كما تحط الشجرة ورقها.
والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة.
وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام، رحمة الله تعالى، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا. قال عليه الرحمة: للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس.
أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.
والثاني: معرفة ذلة العبودية وكسرها. وإليه الإشارة بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156] ، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.
والثالثة: الإخلاص لله تعالى إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه. ولا معتمد في كشفها إلا عليه وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام: 17]، فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] .
الرابعة: الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ [الزمر: 8] .
الخامسة: التضرع والدعاء وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا [يونس: 12] ،
(1) أخرجه البخاريّ في: المرضى، 1- باب ما جاء في كفارة المرض. ومسلم في: البر والصلة والآداب، حديث رقم 52.
(2)
أخرجه البخاريّ في: المرضى، 3- باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول (ثم الأمثل فالأمثل) ونصه: حديث 2241: عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك. فقلت: يا رسول الله! إنك توعك وعكا شديدا. قال «أجل. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قلت: ذلك أن لك أجرين. قال «أجل. ذلك كذلك. ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» .
وأخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث رقم 45.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] . بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ، وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ [الأنعام: 41] . قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأنعام: 63] .
السادسة: الحلم ممن صدرت عنه المصيبة إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114]، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر: 53] . إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة «1» . وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم.
السابعة: العفو عن جانيها وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] . فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو.
الثامنة: الصبر عليها. وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146]، إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] ، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر «2» .
التاسعة: الفرح بها لأجل فوائدها.
قال عليه الصلاة والسلام «3» : والذي نفسي بيده! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء
. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: حبذا المكروهان الموت والفقر. وإنما فرحوا بها إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها، مع تجرعه لمرارتها.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في: الإيمان، حديث 25- 26 من حديث طويل لما قدم أناس من عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله للأشج، أشج عبد القيس.
(2)
أخرجه البخاريّ في: الزكاة، 50- باب الاستعفاف عن المسألة ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم. ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده. فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم. ومن يستعفف يعفه الله. ومن يستغن يغنه الله. ومن يتصبر يصبره الله. وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر. حديث رقم 781.
(3)
أخرجه ابن ماجة في: الفتن، 23- باب الصبر على البلاء، حديث 4024 ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يوعك. فوضعت يدي عليه. فوجدت حرّه بين يديّ، فوق اللحاف. فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك. يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء. قلت: يا رسول الله! ثم من؟
قال: ثم الصالحون. إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحوّيها. وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء.
[.....]
العاشرة: الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها. كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه، المانع من شهواته، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء.
الحادية عشرة: تمحيصها للذنوب والخطايا وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلّا كفر به من سيئاته «1» .
الثانية عشرة: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم. فالناس معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية «2» . وإنما يرحم العشاق من عشق.
الثالثة عشرة: معرفة نعمة العافية والشكر عليها. فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.
الرابعة عشرة: ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.
الخامسة عشرة: ما في طيّها من الفوائد الخفية فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء: 19] . وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 216] . إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور: 11] .
ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم «3» كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر.
(1) أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث 52.
(2)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الكلام، حديث 8. إنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم. فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب. وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد. فإنما الناس مبتلى معافى. فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.
(3)
أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 8- باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. حديث 1113.
ونصه: عن أبي هريرة قال: لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات. ثنتين منهن في ذات الله عز وجل. قوله: إني سقيم. وقوله: بل فعله كبيرهم هذا. وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة. فقيل له: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة قال: يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك.
وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذّبيني. فأرسل إليها. فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ. فقال: ادعي الله ولا أضرك. فدعت الله فأطلق. ثم تناولها الثانية: فأخذ مثلها
فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين. فأعظم بذلك من خير كان في طيّ تلك البلية، وقد قيل:
كم نعمة مطوية لك بين أثناء المصائب وقال آخر:
رب مبغوض كريه فيه لله لطائف السادسة عشرة: إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر، فإن نمرود، لو كان فقيرا سقيما، فاقد السمع والبصر، لما حاجّ إبراهيم في ربه، لكن حمله بطر الملك على ذلك. وقد علل الله سبحانه وتعالى محاجته بإتيانه الملك، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] . وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة: 74]، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6- 7] . وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27]، وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ [هود: 116] .
لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16] . وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [سبأ: 34] .
والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء. ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء «1» . ثم الأمثل فالأمثل. نسبوا إلى الجنون إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] والسحر قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52]، والكهانة فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور: 29] . واستهزئ بهم وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر: 11] . وسخر منهم وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: 10]، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام: 34] . وقيل لنا أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] .
أو أشد. فقال: ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأطلق. فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، إنما أتيتموني بشيطان. فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي. فأومأ بيده: مهيا. قالت:
رد الله كيد الكافر (أو الفاجر) وأخدم هاجر
. قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء!
(1)
أخرجه البخاري في: المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] ، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آل عمران: 186] .
كالّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم. وكثر عناهم. واشتدّ بلاهم، وتكاثر أعداهم. فغلبوا في بعض المواطن، وقتل منهم بأحد «1» وبئر معونة «2» من قتل. وشجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكسرت رباعيته. وهشمت البيضة على رأسه.
وقتل أعزاؤه ومثّل بهم. فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه. وابتلوا يوم الخندق «3» . وزلزلوا زلزالا شديدا. وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. وكانوا في خوف دائم وعرى لازم. وفقر مدقع. حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع. ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز برّ في يوم مرتين. وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب «4» أهله إليه. ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة «5» وطليحة والعنسي «6» . ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة «7» ما لقوه. ومات ودرعه «8» عند يهوديّ على آصع من شعير. ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت (يبتلى الرجل «9» على قدر دينه فإن كان صلبا في دينه شدد في بلائه. ولقد كان أحدهم يوضع «10» المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه) .
وقال عليه الصلاة والسلام. «مثل
(1) أخرجه البخاريّ في المغازي، 17- باب غزوة أحد، إلى 26- باب من قتل من المسلمين يوم أحد.
(2)
أخرجه البخاريّ في المغازي، 28- باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة
…
إلخ.
(3)
أخرجه البخاريّ في المغازي، 29- باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب.
(4)
أخرجه البخاريّ في المغازي، 34- باب حديث الإفك.
(5)
أخرجه البخاريّ في المغازي، 70- باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، وفيه قدوم مسيلمة الكذاب، و 71- باب قصة الأسود العنسي.
(6)
أخرجه البخاريّ في المغازي، 71- باب قصة الأسود العنسي.
(7)
أخرجه البخاريّ في المغازي، 71- باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة.
(8)
أخرجه البخاريّ في: الجهاد، 89- باب ما قيل في درع النبيّ صلى الله عليه وسلم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعا من شعير.
(9)
أخرجه الترمذيّ في: الزهد، 57- باب ما جاء في الصبر على البلاء. عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. فيبتلى الرجل على حسب دينه. فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه. وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه.
فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه من خطيئة
. [.....](10) أخرجه مسلم في قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، في الزهد، حديث رقم 73.