الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأكثرون على أن الفاتحة مكية، وأنها سبع آيات.
وأصل معنى «السورة» لغة: المنزلة من منازل الارتفاع. ومن ذلك سور المدينة للحائط الذي يحويها، وذلك لارتفاعه على ما يحويه. ومنه قول نابغة بني ذبيان:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة
…
ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
أي منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك.
وأما «الآية» فإمّا بمعنى: العلامة- لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدلّ به عليه- وإمّا بمعنى: القصّة- كما قال كعب بن زهير:
ألا أبلغا هذا المعرّض آية:
…
أيقظان قال القول، إذ قال، أم حلم
أي رسالة مني، وخبرا عني- فيكون معنى الآيات «القصص» قصة تتلو قصة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
قال الإمام ابن جرير: إن الله، تعالى ذكره، وتقدست أسماؤه، أدّب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل- ما أدّبه به من ذلك، وعلّمه إياه- منه لجميع خلقه: سنّة يستنّون بها، وسبيلا يتبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر، من قول القائل: بسم الله، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء مقتضية فعلا يكون لها جالبا، فإذا كان محذوفا يقدّر بما جعلت التسمية مبدأ له. والاسم هنا بمعنى التسمية- كالكلام بمعنى التكليم، والعطاء بمعنى الإعطاء- والمعنى: أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. واللَّهِ علم على ذاته، تعالى وتقدس. قال ابن عباس: هو الذي يألهه كلّ شيء ويعبده وأصله «إلاه» بمعني مألوه أي معبود، فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفا لكثرته في الكلام، وبعد الإدغام فخّمت تعظيما- هذا تحقيق اللغويين.
والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الجوهريّ: هما اسمان مشتقان من الرحمة. ونظيرهما في اللغة «نديم وندمان» وهما بمعنى. ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد، كما يقال: جادّ مجدّ إلّا أن الرَّحْمنِ اسم مخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره. ألا ترى أنه قال: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره.
وقد ناقش في كون الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بمعنى واحد، العلّامة الشيخ محمد عبده المصريّ في مباحثه التفسيرية قائلا: إن ذلك غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها- ثم قال: - وأنا لا أجير لمسلم أن يقول، في نفسه أو بلسانه: إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود. والجمهور: على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها. وبعضهم يقول: إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم، والرحيم المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين. وكل هذا تحكم باللغة مبنيّ على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقا، فصيغة الرَّحْمنِ تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه، سواء كان جليلا أو دقيقا.
وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا، فهو غير معنيّ ولا مراد، وقد قارب من قال: إن معنى الرَّحْمنِ المحسن بالإحسان العام. ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين، ولعل الذي حمل من قال: إن الثاني مؤكد للأول- على قوله هذا- هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة، مع عدم التفطّن لما هو أحسن منه، ثم قال: والذي أقول: إن لفظ «رحمن» وصف فعليّ فيه معنى المبالغة- كفعّال- ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة- كعطشان وغرثان وغضبان- وأما لفظ «رحيم» فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس- كعليم وحكيم وحليم وجميل- والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربيّ البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين، فلفظ الرَّحْمنِ يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان، ولفظ الرَّحِيمِ يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة، وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثاني مؤكّدا للأول. فإذا سمع العربيّ وصف الله جلّ ثناؤه ب الرَّحْمنِ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما- لأن الفعل قد