الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لذلك. فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج. وقد جاء من ذلك نمط صالح في الصحيح. كحديث «1» أبرص وأقرع وأعمى، وحديث «2» جريج العابد، ووفاة موسى «3» . وجمل من قصص الأنبياء، عليهم السلام، والأمم قبلنا، مما لا ينبني عليه عمل. ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآنيّ. وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب. فهو خادم للأمر والنهي، ومعدود في المكملات لضرورة التشريع فلم يخرج بالكلية عن القسم الأول. والله أعلم.
11- قاعدة في أنه: هل في القرآن مجاز أم لا
؟
قال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في كتاب «الإيمان» :
فإن قيل: ما ذكر من تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد في كلام الله ورسوله وكلام كلّ أحد، بيّن ظاهر لا يمكن دفعه. لكن نقول: دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز،
فقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون- أو بضع وسبعون- شعبة. أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»
مجاز. وقوله «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله
…
إلى آخره» حقيقة. وهذا عمدة المرجئة، والجهمية، والكرامية، وكلّ من لم يدخل الأعمال في اسم الإيمان. ونحن نجيب بجوابين:
أحدهما كلام عامّ في لفظ الحقيقة والمجاز، والثاني ما يختص بهذا الموضع.
فبتقدير أن يكون أحدهما مجازا، ما هو الحقيقة من ذلك من المجاز؟ هل الحقيقة هو المطلق أو المقيّد؟ أو كلاهما حقيقة؟ حتى يعرف أنّ لفظ الإيمان إذا أطلق، على ماذا يحمل؟ فيقال أولا: تقسيم الألفاظ الدالة على معانيها إلى حقيقة ومجاز،
(1)
أخرج البخاري في الأنبياء، حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل. عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم
…
إلخ» الحديث.
[.....](2)
أخرج البخاري في العمل في الصلاة، باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نادت امرأة ابنها، وهو في صومعة، قالت: يا جريج. قال: اللهم، أمي وصلاتي. قالت: يا جريج. قال: اللهم أمي وصلاتي. قالت: يا جريج. قال: اللهم، أمي وصلاتي.
قالت: اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجه المياميس. وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم. فولدت. فقيل لها: ممن هذا الولد؟ قالت: من جريج. نزل من صومعته. قال جريج: أين هذه التي تزعم أن ولدها لي؟ قال: يا بابوس، من أبوك؟ قال: راعي الغنم.
(3)
أخرج البخاري في الأنبياء، باب وفاة موسى: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام. فلما جاءه صكه
…
إلخ الحديث.
أو تقسيم دلالتها، أو المعاني المدلول عليها، إن استعمل لفظ الحقيقة والمجاز في المدلول أو في الدالة، فإنّ هذا كلّه قد يقع في كلام المتأخرين. ولكنّ المشهور أنّ الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ. وبكلّ حال، فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة. لم يتكلم به أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم: كمالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأبي حنيفة والشافعيّ، بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو: كالخليل، وسيبويه، وأبي عمرو بن العلاء
…
ونحوهم.
وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز، أبو عبيدة معمر بن المثنّى في كتابه.
ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى، بمجاز الآية، بما يعبّر به عن الآية. ولهذا، قال: من قال من الأصوليين كأبي الحسين البصريّ وأمثاله: إنه يعرف الحقيقة من المجاز بطرق: منها نص أهل اللغة على ذلك، بأن يقولوا: هذا حقيقة وهذا مجاز- فقد تكلم بلا علم. فإنه ظنّ أنّ أهل اللغة قالوا هذا. ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها. وإنما هذا اصطلاح حادث، والغالب أنّه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين. فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول من جرّد الكلام في أصول الفقه، ولم يقسم هذا التقسيم، ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز. وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنيّة على العربية كلام معروف في الجامع الكبير وغيره، ولم يتكلم بلفظ الحقيقة، والمجاز. وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلّا في كلام أحمد بن حنبل، فإنه قال في كتاب «الردّ على الجهمية» في قوله: إنّا، ونحن، ونحو ذلك في القرآن:
هذا من مجاز اللغة. يقول الرجل: إنا سنعطيك، إنا سنفعل، فذكر أن هذا من مجاز اللغة. وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال: إن في القرآن مجازا: كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الخطاب، وغيرهم. وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون في القرآن مجاز: كأبي الحسن الجزريّ، وأبي عبد الله بن حامد، وأبي الفضل التميميّ بن أبي الحسن التميميّ. وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز، محمد بن جرير مندار وغيره من المالكية، ومنع منه داود بن عليّ، وابنه أبو بكر، ومنذر بن سعيد البلّوطي وصنف فيه مصنفا. وحكى بعض الناس عن أحمد- في ذلك- روايتين. وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم، ولا من قدماء أصحاب أحمد: إنّ في القرآن مجازا- لا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة. فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجا
إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة، وما علمته موجودا في المائة الثانية. اللهم إلا أن يكون في أواخرها. والذين أنكروا أن يكون أحمد أو غيره نطقوا بهذا التقسيم قالوا: إن معنى قول أحمد «من مجاز اللغة» أي: مما يجوز في اللغة، أي يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان: نحن فعلنا كذا أو نفعل كذا ونحو ذلك. قالوا: ولم يرد أحمد بذلك أنّ اللفظ استعمل في غير ما وضع له.
وقد أنكر طائفة أن يكون في اللغة مجاز، لا في القرآن ولا غيره. كأبي إسحاق الأسفرائينيّ. وقال المنازعون له: النزاع معه لفظيّ، فإنه إذا سلم أن في اللغة لفظا مستعملا في غير ما وضع له لا يدل على معناه إلّا بقي منه. فهذا هو المجاز، وإن لم تسمه مجازا. فيقول من ينصره: إن الذين قسموا اللفظ إلى حقيقة ومجاز، قالوا:
الحقيقة هو اللفظ المستعمل في ما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له- كلفظ الأسد والحمار، إذا أريد بهما البهيمة، أو أريد بهما الشجاع والبليد- وهذا التقسيم والتحديد يستلزم أن يكون اللفظ قد وضع أولا لمعنى، ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه، وقد يستعمل في غير موضوعه. ولهذا كان المشهور عند أهل التقسيم، أن كلّ مجاز فلا بد له من حقيقة، وليس لكل حقيقة مجاز. فاعترض عليهم بعض متأخريهم، وقال: اللفظ الموضوع قبل للاستعمال لا حقيقة ولا مجاز. فإذا استعمل في غير موضوعه فهو مجاز لا حقيقة له. وهذا كله إنما يصح أنْ لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان، ثم بعد ذلك استعملت فيها، فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال. وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية، فيدّعي أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا، وهكذا بكذا، ويجعل هذا عاما في جميع اللغات. وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن الجبائيّ. فإنه وأبا الحسن الأشعريّ، كلاهما قرأ على أبي علي الجبائي. لكن الأشعريّ رجع عن مذهب المعتزلة، وخالفهم في القدر والوعيد، وفي الأسماء والأحكام، وفي صفات الله تعالى. وبيّن من تناقضهم وفساد قولهم ما هو معروف عنه. فتنازع الأشعريّ وأبو هاشم. وقال الأشعريّ: هي توقيفية. ثم خاض الناس بعدهما في هذه المسألة، فقال آخرون:
بعضها توقيفيّ، وبعضها اصطلاحيّ. وقال فريق رابع: بالوقف.
«والمقصود هنا: أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب، بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع. وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما
عنوه بها من المعاني. فإن ادعى مدّع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل، فإن هذا لم ينقله أحد من الناس. ولا يقال نحن نعلم ذلك بالدليل، فإنه- إن لم يكن اصطلاح متقدم- لم يمكن الاستعمال. قيل: ليس الأمر كذلك، بل نحن نجد أن الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض، وقد سمي ذلك منطقا وقولا في قول سليمان: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16]، وفي قوله: «قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل: 18]، وفي قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] . وكذلك الآدميون، فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه، أو من يربيه، ينطق باللفظ، ويشير إلى المعنى، فصار يفهم أن ذلك اللفظ يستعمل في ذلك المعنى- أي أراد المتكلم به ذلك المعنى- ثم هذا يسمع لفظا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم. بل ولا فقهوه على معاني الأسماء. وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأشياء فيوقف عليها. كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معاني ألفاظها، وإن باشر أهلها مدة، علم ذلك بلا توقيف من أحد. نعم، قد يضع الناس الاسم لما يحدث، مما لم يكن من قبلهم يعرفه فيسميه، كما يولد لأحدهم فيسميه اسما إما منقولا أو مرتجلا. وقد يكون المسمّي واحدا لم يصطلح مع غيره. وقد يستوون فيما يسمونه. وكذلك قد يحدث الرجل آلة من صناعة، أو يصنّف كتابا، أو يبني مدينة. ونحو ذلك فيسميه باسم، لأنه ليس من الأجناس المعروفة حتى يكون له اسم في اللغة العامة. وقد قال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 1- 4]، قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] ، وقال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 2- 3] وهو سبحانه يلهم الإنسان المنطق كما يلهم غيره. وهو سبحانه، إذا كان قد علّم آدم الأسماء كلها، وعرض المسميات على الملائكة- كما أخبر بذلك في كتابه-. فنحن نعلم أنه لم يعلّم آدم جميع اللغات التي يتكلم بها جميع الناس إلى يوم القيامة، وأن تلك اللغات اتصلت إلى أولاده فلا يتكلّمون إلا بها
…
فإن دعوى هذا كذب ظاهر
…
! فإن آدم، عليه السلام، إنما ينقل عنه بنوه. وقد أغرق الله، عام الطوفان، جميع ذريته إلا من في السفينة. وأهل السفينة انقطعت ذريتهم إلا أولاد نوح. ولم يكونوا يتكلّمون بجميع ما تكلمت به الأمم بعدهم. فإن اللغة الواحدة: كالفارسية، والعربية، والرومية، والتركية.. فيها من الاختلاف والأنواع ما لا يحصيه إلا الله. والعرب أنفسهم، لكلّ قوم لغات لا يفهمها غيرهم. فكيف يتصور
أن ينقل هذا جميعه عن أولئك الذين كانوا في السفينة؟ وأولئك جميعهم لم يكن لهم نسل، وإنما النسل لنوح، وجميع الناس من أولاده، وهم ثلاثة: سام وحام ويافث. كما قال تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] فلم يجعل باقيا إلا ذريته. وكما
روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أولاده ثلاثة» رواه أحمد وغيره.
ومعلوم أن الثلاثة لا يمكن أن ينطقوا بهذا كله، ويمتنع نقل ذلك عنهم! فإن الذين يعرفون هذه اللغة لا يعرفون هذه. وإذا كان الناقل ثلاثة منهم قد علّموا أولادهم، وأولادهم قد علّموا أولادهم، ولو كان كذلك لاتصلت. ونحن نجد بني الأب الواحد يتكلم كل قبيلة منهم بلغة لا تعرفها الأخرى. والأب الواحد لا يقال إنه علم أحد ابنيه لغة، وابنه الآخر لغة، فإن الأب قد لا يكون له إلا ابنان، واللغات في أولاده أضعاف ذلك. والذي أجرى الله عليه عادة بني آدم، أنهم إنما يعلمون أولادهم لغتهم التي يخاطبونهم بها، أو يخاطبهم بها غيرهم. فأما لغات لم يخلق الله من يتكلم بها فلا يعلّمونها أولادهم، وأيضا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها آدم قولان معروفان عن السلف:
أحدهما: أنه إنما علمه أسماء من يعقل، واحتجّوا بقوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [البقرة: 31] قالوا: وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل. وما لا يعقل يقال فيها: علمها. ولهذا قال أبو العالية: «علّمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة، ولم يكن له ذرية، ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية» . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «علّمه أسماء ذريته» . وهذا يناسب
الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته، فرآهم، فرأى فيهم من يبص، فقال: يا ربّ! من هذا؟
قال: ابنك داود» «1» .
فيكون قد أراه صور ذريته، أو بعضهم، أو أسماءهم. وهذه أسماء أعلام لا أجناس.
الثاني: أنّ الله علمه أسماء كل شيء. وهذا قول الأكثرين كابن عباس وأصحابه. قال ابن عباس: «علمه حتى الفسوة والفسيّة والقصعة والقصيعة» أراد أسماء الأعراض والأعيان مكبّرها ومصغّرها. والدليل على ذلك، ما
ثبت في
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة الأعراف.
الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الشفاعة «1» : «إن الناس يقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وعلمك أسماء كل شيء»
. وأيضا قوله: «الأسماء كلّها» . لفظ عام مؤكد، فلا يجوز تخصيصه بالدعوى.
وقوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ لأنه اجتمع من يعقل ومن لا يعقل، فغلب من يعقل. كما قال: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور: 45] . قال عكرمة: «علّمه أسماء الأجناس دون أنواعها، كقولك: إنسان، وجن، وملك، وطائر» . وقال مقاتل بن السائب. وابن قتيبة: «علّمه أسماء ما خلق في الأرض من: الدواب، والهوامّ، والطير» .
ومما يدل على أن هذه اللغات ليست متلقّاة عن آدم، أن أكثر اللغات ناقصة عن اللغة العربية. ليس عندهم أسماء خاصة للأولاد والبيوت والأصوات وغير ذلك مما يضاف إلى الحيوان. بل إنما يستعملون في ذلك الإضافة. فلو كان آدم عليه السلام علمه الجميع لعلمها متناسبة. وأيضا، فكل أمة، ليس لها كتاب، ليس في لغتها أيام الأسبوع، إنما يوجد في لغتها اسم اليوم والشهر والسنة، لأن ذلك عرف بالحس والعقل، فوضعت له الأمم الأسماء، لأن التعبير يتبع التصوّر. وأما الأسبوع فلم يعرف إلا بالسمع، لم يعرف- أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش- إلا بأخبار الأنبياء الذين شرع لهم أن يجتمعوا في الأسبوع يوما يعبدون الله فيه، ويحفظون به الأسبوع الذي بدأ الله فيه خلق هذا العالم. ففي لغة العرب والعبرانيين ومن تلقى عنهم أيام الأسبوع، بخلاف الترك ونحوهم، فإنه ليس في لغتهم أيام الأسبوع لأنهم لم يعرفوا ذلك فلم يعبّروا عنه.
فعلم أن الله تعالى ألهم النوع الإنسانيّ أن يعبّر عما يريده ويتصوّره بلفظه.
وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم، وهم علموا كما علّم، وإن اختلفت اللغات. وقد أوحى الله إلى موسى بالعبرانية، وإلى محمد بالعربية، والجميع كلام الله. وقد بيّن الله من ذلك ما أراد من خلقه وأمره، وإن كانت هذه اللغة ليست الأخرى، مع أن العبرانية من
(1)
أخرج البخاري في التوحيد، باب قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة
…
» إلخ.
أقرب اللغات إلى العربية، حتى إنها أقرب إليها من لغة بعض العجم إلى بعض.
فبالجملة: نحن ليس غرضنا إقامة الدليل على عدم ذلك، بل يكفينا أن يقال:
هذا غير معلوم وجوده، بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة.
وإذا سمّي هذا توقيفا، فليسمّى توقيفا، وحينئذ فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس، فقد قال ما لا علم به، وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال.
ثم هؤلاء يقولون: تتميّز الحقيقة من المجاز بالاكتفاء باللفظ، فإذا دل اللفظ بمجرّده فهو حقيقة، وإذا لم يدل إلا مع القرينة فهو مجاز. وهذا أمر متعلق باستعمال اللفظ في المعنى لا بوضع متقدم.
ثم يقال ثانيا: هذا التقسيم لا حقيقة له، وليس لمن فرّق بينهما حدّ صحيح يميز به بين هذا وهذا. فعلم أن هذا التقسيم باطل، وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول: بل يتكلم بلا علم، فهم مبتدعة في الشرع، مخالفون للعقل. وذلك أنهم قالوا: الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو المستعمل في غير ما وضع له، احتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال. وهذا يتعذّر. ثم هم يقسمون الحقيقة إلى: لغوية وعرفية، وأكثرهم يقسمها إلى ثلاث: لغوية وشرعية وعرفية. فالحقيقة هي ما صار اللفظ فيها دالا على المعنى بالعرف لا باللغة. وذلك المعنى يكون تارة أعمّ من اللغويّ، وتارة أخصّ، وتارة لا يكون مباينا له، لكن بينهما علاقة استعمل لأجلها. (فالأول) مثل لفظ: الرقبة والرأس ونحوهما. كان يستعمل في العضو المخصوص، ثم صار يستعمل في جميع البدن. (والثاني) مثل:
الدابة ونحوها. كان يستعمل في كل ما دبّ، ثم صار يستعمل، في عرف بعض الناس، في ذوات الأربع. وفي عرف بعض الناس، في الفرس. وفي عرف بعضهم، في الحمار. و (الثالث) مثل لفظ: الغائط، والظعينة، والراوية، والمزادة. فإن الغائط- في اللغة- هو المكان المنخفض من الأرض. فلما كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم، سمّوا ما يخرج من الإنسان باسم محلّه. والظعينة اسم للدابة، ثم سموا المرأة التي تركبها باسمها، ونظائر ذلك. والمقصود: أن هذه الحقيقة العرفية لم تصر حقيقة لجماعة تواطؤوا على نقلها، ولكن تكلم بها بعض الناس وأراد بها ذلك المعنى العرفيّ. ثمّ شاع الاستعمال فصارت حقيقة عرفية بهذا الاستعمال. ولهذا زاد، من زاد منهم، في حد الحقيقة: في اللغة التي بها التخاطب، ثم هم يعلمون ويقولون: إنه قد يغلب
الاستعمال على بعض الألفاظ، فيصير المعنى أشهر فيه، ولا يدل عند الإطلاق إلا عليه، فتصير الحقيقة العرفية ناسخة للحقيقة اللغوية. واللفظ مستعمل في هذا الاستعمال الحادث العرفيّ، وهو حقيقة من غير أن يكون لما استعمل فيه ذلك تقدم وضع. فعلم أن تفسير الحقيقة بهذا لا يصح، وإن قالوا: يعني، بما وضع له، ما استعملت فيه أولا. فيقال: من أين يعلم أن هذه الألفاظ التي كانت العرب تتخاطب بها عند نزول القرآن وقبله، لم تستعمل قبل ذلك في معنى شيء آخر؟ وإذا لم يعلموا هذا النفي، فلا تعلم أنها حقيقة، وهذا خلاف ما اتفقوا عليه. وأيضا فيلزم من هذا أن لا يقطع بشيء من الألفاظ أنه حقيقة، وهذا لا يقوله عاقل. ثم هؤلاء الذين يقولون هذا نجد أحدهم يأتي إلى ألفاظ لم يعلم أنها استعملت إلّا مقيّدة، فينطق بها مجردة عن جميع القيود، ثمّ يدعي أنّ ذلك هو حقيقتها من غير أن يعلم أنها نطق بها مجرّدة، ولا وضعت مجرّدة. مثل أن يكون حقيقة العين هو العضو المبصر، ثم سميت به عين الشمس، والعين النابعة، والعين الذهب، للمشابهة. لكنّ أكثرهم يقولون: إنّ هذا من باب المشترك، لا من باب الحقيقة والمجاز، فيمثل بغيره مثل لفظ الرأس. يقولون: هو حقيقة في رأس الإنسان. ثم قالوا: رأس الدرب- لأوّله-، ورأس العين- لمنبعها-، ورأس القوم- لسيدهم-، ورأس الأمر- لأوله-، ورأس الشهر، ورأس الحول
…
وأمثال ذلك على طريق المجاز. وهم لا يجدون قط أنّ لفظ الرأس استعمل مجردا، بل يجدون أنه استعمل بالقيود في رأس الإنسان، كقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6]، ونحوه. وهذا القيد يمنع أن يدخل فيه تلك المعاني. فإذا قيل: رأس العين، ورأس الدرب، ورأس الناس، ورأس الأمر....، فهذا المقيد غير ذاك المقيد، ومجموع اللفظ الدال هنا غير مجموع اللفظ الدال هناك، لكن اشتركا في بعض اللفظ كاشتراك كل الأسماء المعرّفة في لام التعريف. ولو قدر أن الناطق باللغة نطق بلفظ رأس الإنسان أولا، لأن الإنسان يتصور رأسه قبل غيره، والتعبير أولا هو عما يتصوره أولا. فالنطق بهذا المضاف أولا لا يمنع أن ينطق بمضاف إلى غيره ثانيا، ولا يكون هذا من المجاز كما في سائر المضافات. فإذا قيل: ابن آدم، أولا، لم يكن قولنا، ابن الفرس وابن الحمار، مجازا.
وكذلك إذا قيل: بنت الإنسان، لم يكن قولنا بنت الفرس- مجازا. وكذلك إذا قيل:
رأس الإنسان أولا، لم يكن قولنا رأس الفرس- مجازا. وكذلك في سائر المضافات، إذا قيل: يده أو رجله. فإذا قيل: هو حقيقة فيما أضيف إلى الحيوان. قيل: ليس جعل هذا هو الحقيقة بأولى من أن يجعل ما أضيف إلى رأس الإنسان، ثم يضاف
إلى ما يتصوره أكثر الناس من الحيوانات الصغار التي لم يخطر ببال عامّة الناطقين باللغة. فإذا قيل: إنه حقيقة في هذا، فلماذا لا يكون حقيقة في رأس الجبل، والطريق، والعين؟ وكذلك سائر ما يضاف إلى الإنسان من أعضائه وأولاده ومساكنه، يضاف مثله إلى غيره، ويضاف ذلك إلى الجمادات، فيقال: رأس الجبل، ورأس العين، وخطم الجبل- أي أنفه- وفم الوادي، وبطن الوادي، وظهر الجبل، وبطن الأرض وظهرها، ويستعمل مع الأنف، وهو لفظ الظاهر والباطن في أمور كثرة.
والمعنى في الجميع: أنّ الظاهر لما ظهر فتبيّن، والباطن لما بطن فخفي.
وسمي ظهر الإنسان ظهرا لظهوره، وبطن الإنسان بطنا لبطونه، فإذا قيل: إن هذه حقيقة، وذاك مجاز، لم يكن هذا أولى من العكس. وأيضا من الأسماء ما تكلم به أهل اللغة مفردا، كلفظ الإنسان ونحوه. ثم قد يستعمل مقيدا بالإضافة- كقولهم:
إنسان العين، وإبرة الذراع، ونحو ذلك- وبتقدير أن يكون في اللغة حقيقة ومجاز، فقد ادعى بعضهم أن هذا من المجاز، وهو غلط، فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا، وهذا لم يستعمل اللفظ بل ركب مع لفظ آخر، فصار وضعا آخر بالإضافة، فلو استعمل مضافا في معنى، ثم استعمل بتلك الإضافة في غيره، كان مجازا. بل إذا كان (بعلبك وحضرموت ونحوهما) مما يركب تركيب مزج- بعد أن كان الأصل فيه الإضافة- لا يقال: إنه مجاز، فما لم ينطق به إلّا مضافا أولى أن لا يكون مجازا. وأما من فرّق بين الحقيقة والمجاز، بأن الحقيقة: ما يفيد المعنى مجردا عن القرائن، والمجاز: ما لا يفيد ذلك المعنى إلا مع قرينة أو قال: الحقيقة ما يفيده اللفظ المطلق، والمجاز ما لا يفيد إلا مع التقييد. أو قال: الحقيقة هو المعنى الذي يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، والمجاز ما لا يسبق إلى الذهن. أو يقال:
المجاز ما صح نفيه، والحقيقة ما لم يصح نفيها. فإنه يقال: ما تعني بالتجريد عن القرائن، والاقتران بالقرائن؟ إن عنى بذلك: القرائن اللفظية، مثل كون الاسم يستعمل مقرونا بالإضافة، أو لام التعريف، ويقيد بكونه فاعلا ومفعولا ومبتدأ وخبرا، فلا يوجد قط في الكلام المؤلف اسم إلا مقيدا. وكذلك الفعل، إن عنى بتقييده أنه لا بد له من فاعل. وقد يقيد بالمفعول به، وظرفي الزمان والمكان، والمفعول له ومعه، والحال، فالفعل لا يستعمل قط إلا مقيدا، وأما الحرف فأبلغ، فإن الحرف أتى به لمعننى في غيره. ففي الجملة لا يوجد قط- في كلام تام- اسم ولا فعل ولا حرف إلا مقيدا بقيود تزيل عنه الإطلاق. فإن كانت القرينة ما يمنع الإطلاق عن كل قيد، فليس في الكلام الذي يتكلم به جميع الناس لفظ مطلق عن كل قيد، سواء كانت
الجملة اسمية أو فعلية. فلهذا كان لفظ الكلام والكلمة في لغة العرب- بل وفي لغة غيرهم- لا تستعمل إلا في المقيد وهو الجملة التامة- اسميّة كانت أو فعلية أو ندائية- إن قيل إنها قسم ثالث. فأما مجرّد الاسم والفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، فهذا لا يسمي في كلام العرب قط كلمة، وإنما تسمية هذا (كلمة) اصطلاح نحويّ- كما سمّوا بعض الألفاظ (فعلا) وقسّموه إلى فعل ماض ومضارع وأمر- والعرب لم تسمّ قط اللفظ فعلا، بل النحاة اصطلحوا على هذا فسمّوا اللفظ باسم مدلوله: فاللفظ الدال على حدوث فعل في زمن ماض سمّوه فعلا ماضيا
…
وكذلك سائرها. وكذلك حيث وجد في الكتاب والسنة، بل وفي كلام العرب- نظمه ونثره- لفظ كلمة، فإنما يراد به المفيد التي تسمّيها النحاة جملة تامة، لقوله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 4- 5] ، وقوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [التوبة: 40] ، وقوله تعالى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64]، وقوله وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] ، وقوله: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الفتح: 26] .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل» «1»
،
،
وقوله: «إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظنّ أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» «3» ، وقوله:«لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته» «4» .
وإذا كان كل اسم وفعل وحرف يوجد في الكلام فإنه مقيّد لا مطلق لم يجز أن يقال: اللفظ الحقيقة ما دلّ مع الإطلاق والتجرّد عن كل قرينة تقارنه.
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية.
(2)
أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ.
(3)
أخرجه الترمذي في الزهد، باب في قلة الكلام.
(4)
أخرجه مسلم في الذكر، حديث 79.
فإن قيل: أريد بعض القرائن دون بعض. قيل له: اذكر الفصل بين القرينة التي يكون معها حقيقة، والقرينة التي يكون معها مجاز، ولن تجد إلى ذلك سبيلا تقديره على تقسيم صحيح معقول. ومما يدلّ على ذلك، أن الناس اختلفوا في العام إذا خصّ هل يكون استعماله فيما بقي حقيقة أو مجازا؟ وكذلك لفظ الأمر إذا أريد به الندب هل يكون حقيقة أو مجازا؟ وفي ذلك قولان لأكثر الطوائف: لأصحاب أحمد قولان، ولأصحاب الشافعيّ قولان، ولأصحاب مالك قولان. ومن الناس من ظنّ أنّ هذا الخلاف يطرد في التخصيص المتصل- كالصفة والشرط والغاية والبدل- وجعل يحكي في ذلك أقوال من يفصل، كما يوجد في كلام طائفة من المصنّفين في أصول الفقه، وهذا مما لم يعرف أن أحدا قاله، فجعل اللفظ العام المقيد في الصفات والغايات والشروط مجازا. بل لما أطلق بعض المصنفين أن اللفظ العام إذا خصّ يصير مجازا، ظنّ هذا الناقل أنه عنى التخصيص المتصل، وأولئك لم يكن في اصطلاحهم عام مخصوص إلّا إذا خصّ بمنفصل، وأما المتّصل فلا يسمّون اللفظ عاما مخصوصا، فإنه لم يدلّ إلّا متصلا، والاتصال منعه العموم. وهذا اصطلاح كثير من الأصولين، وهو الصواب. لا يقال لما قيد بالشرط والصفة ونحوهما: أنه داخل فيما خصّ من العموم، ولا في العام المخصوص، لكن يقيد، فيقال: تخصيص متصل، وهذا المقيّد لا يدخل في التخصيص المطلق.
وبالجملة فيقال: إذا كان هذا مجازا فيكون تقييد الفعل المطلق بالمفعول به، وبظرف الزمان والمكان- مجازا. وكذلك بالحال، وكذلك كلّ ما قيّد بقيد، فيلزم أن يكون الكلام كلّه مجازا، فأين الحقيقة؟
فإن قيل: يفرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة، فما كان مع القرينة المتصلة فهو حقيقة، وما كان من المنفصلة كان مجازا. قيل: تعني بالمتصل ما كان في اللفظ أو ما كان موجودا حين الخطاب؟ فإن عنيت الأول أن يكون ما علم من حال المتكلم أو المستمع أولا- قرينة منفصلة. فما استعمل بلام التعريف لما يعرفانه كما يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم. وهو عند المسلمين رسول الله، أو قال الصديق وهو عندهم أبو بكر. وإذا قال الرجل لصاحبه: اذهب إلى الأمير أو القاضي أو الوالي- يريد ما يعرفانه أن يكون مجازا. وكذلك الضمير يعود إلى معلوم غير مذكور كقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ [الدخان: 3] وقوله حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] وأمثال ذلك- أن يكون هذا مجازا. وهذا لا يقوله أحد.
وأيضا فإذا قال لشجاع: هذا الأسد فعل اليوم كذا. أو لبليد: هذا الحمار قال اليوم كذا. أو لعالم، أو جواد: هذا البحر جرى منه اليوم كذا- أن يكون حقيقة، لأن قوله هذا قرينة لفظية، فلا يبقى قط مجازا. وإن قال: المتصل أعم من ذلك. وهو ما كان موجودا حين الخطاب. قيل له: فهذا أشد عليك من الأول. فإن كلّ متكلم بالمجاز لا بد أن يقترن به حال الخطاب ما بيّن مراده، وإلا لم يجز التكلم به. فإن قيل: أنا أجوّز تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقف الحاجة. قيل: أكثر الناس لا يجوزون أن يتكلم بلفظ يدل على معنى، وهو لا يريد ذلك المعنى إلّا إذا بيّن. وإنما يجوزون تأخير بيان ما لم يدل اللفظ عليه كالمجملات. ثم نقول: إذا جوزت تأخير البيان، فالبيان قد يحصل بجملة تامة، وبأفعال من الرسول وبغير ذلك. ولا يكون البيان المتأخر إلا مستقلا بنفسه. لا يكون مما يجب اقترانه بغيره. فإن جعلت هذا مجازا لزم أن يكون ما يحتاج في العمل إلى بيان مجازا. كقوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103]، ثم يقال: هب أن هذا جائز عقلا، لكن ليس واقعا في الشريعة أصلا، وجميع ما يذكر من ذلك باطل كما قد بسط في موضعه. فإن الذين قالوا: الظاهر الذي لم يرد به ما يدل عليه ظاهره قد يؤخر بيانه، احتجوا بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] ، وادعوا أنها كانت معيّنة، وأخّر بيان التعيين. وهذا خلاف ما استفاض عن السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من أنهم أمروا ببقرة مطلقة. فلو أخذوا بقرة من البقر فذبحوها أجزأ عنهم. ولكن شددوا فشدد الله عليهم. والآية نكرة في سياق الإثبات، فهي مطلقة. والقرآن يدل سياقه على أن الله ذمّهم على السؤال بما هي؟ ولو كان المأمور به معينا لما كانوا ملومين. ثم إن مثل هذا لم يقطع قط في أمر الله ورسوله أن يأمر عباده بشيء معين ويبهمه عليهم مرة بعد مرة، ولا يذكره بصفات تختص به ابتداء.
واحتجوا بأن الله أخر بيان لفظ الصلاة والزكاة والحج. وأن هذه ألفاظ لها معاني في اللغة. بخلاف الشرع. وهذا غلط. فإن الله إنما أمرهم بالصلاة بعد أن عرفوا ما المأمور به. وكذلك الصيام. وكذلك الحج. ولم يؤخر الله قط بيان شيء من هذه المأمورات. ولبسط هذه المسألة موضع آخر. وأما قول من يقول: إن الحقيقة ما يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، فمن أفسد الأقوال. فإنه لا يقال: إذا كان اللفظ لم ينطق به إلا مقيدا فإنه يسبق إلى الذهن في كل موضع منه ما دل عليه ذلك الموضع.
وأما إذا أطلق فهو لا يستعمل في الكلام مطلقا قط. فلم يبق له حال إطلاق محض، حتى يقال: إن الذهن يسبق إليه أم لا. وأيضا، فأي ذهن؟ فإن العربيّ الذي يفهم
كلام العرب يسبق إلى ذهنه من اللفظ ما لا يسبق إلى ذهن النبطيّ الذي صار يستعمل الألفاظ في غير معانيها. ومن هنا غلط كثير من الناس. فإنهم قد تعودوا ما اعتادوه. إما من خطاب عامتهم، وإما من خطاب علمائهم، باستعمال اللفظ في معنى. فإذا سمعوه في القرآن والحديث ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى، فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة. وهذا مما دخل به الغلط على طوائف. بل الواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل به القرآن والسنة، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ. فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله. لا بما حدث بعد ذلك. وأيضا، فقد بيّنا في غير هذا الموضع أن الله ورسوله لم يدع شيئا من القرآن والحديث إلا بين معناه للمخاطبين ولم يحوجهم إلى شيء آخر. كما قد بسطنا القول فيه في غير هذا الموضع. فقد بين أن ما يدعيه هؤلاء من اللفظ المطلق من جميع القيود لا يوجد إلا مقدّرا في اللسان. لا موجودا في الكلام المستعمل. كما أن ما يدعيه المنطقيون من المعنى المطلق من جميع القيود، لا يوجد إلا مقدّرا في الذهن. لا يوجد في الخارج شيء موجود خارج عن كل قيد. ولهذا كان ما يدعونه من تقسيم العلم إلى تصور وتصديق وإن التصور هو تصور المعنى الساذج الحالي عن كل قيد- لا يوجد.
وكذلك ما يدعونه من البسائط التي تتركب منها الأنواع. وأنها أمور مطلقة عن كل قيد- لا توجد. وما يدعونه من أن واجب الوجود هو وجود مطلق عن كل أمر ثبوتيّ- لا يوجد. فهذه الصفات المطلقات عن جميع القيود ينبغي معرفتها لمن ينظر في هذه العلوم. فإنه بسبب ظن وجودها ضلّ طوائف في العقليات والسمعيات.
بل إذا قال العلماء: مطلق ومقيّد، إنما يعنون به مطلق من ذلك القيد ومقيّد بذلك القيد. كما يقولون:«الرقبة» مطلقة في آية كفارة اليمين، ومقيدة في آية القتل. أي مطلقة عن قيد الإيمان. وإلا فقد قيل فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة: 3] ، فقيدت بأنها رقبة واحدة. وأنها هي موجودة. وأنها تقبل التحرير. والذين يقولون بالمطلق المحض يقولون هو الذي لا يتصف بوحدة ولا كثرة، ولا وجود ولا عدم، ولا غير ذلك. بل هو الحقيقة من حيث هي هي. كما يذكره الرازيّ تلقيا له عن ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة. وقد بسطنا الكلام في هذا الإطلاق والتقييد والكليات والجزئيات في مواضع غير هذا. وبينا من غلط هؤلاء في ذلك ما ليس هذا موضعه.
وإنما المقصود هنا الإطلاق اللفظيّ. وهو أن يتكلم باللفظ مطلقا عن كل قيد. وهذا لا وجود له. وحينئذ فلا يتكلم أحد إلا بكلام مؤلف مقيد مرتبط بعضه ببعض.
فتكون تلك القيود ممتنعة الإطلاق.
فتبين أنه ليس لمن فرق بين الحقيقة والمجاز فرق معقول يمكن التمييز بين نوعين. فعلم أن هذا التقسيم باطل. وحينئذ فكل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله، فإنه مقيّد بما يبين معناه. فليس في شيء من ذلك مجاز. بل كله حقيقة.
ولهذا لما ادعى كثير من المتأخرين أن في القرآن مجازا، وذكروا ما يشهد لهم، رد عليهم المنازعون جميع ما ذكروه. فمن أشهر ما ذكروه قوله تعالى: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77]، قالوا: والجدار ليس بحيوان والإرادة إنما تكون للحيوان.
فاستعمالها في ميل الجدار مجاز.
فقيل لهم: لفظ الإرادة قد استعمل في الميل الذي يكون معه شعور. وهو ميل الحيّ. وفي الميل الذي لا شعور فيه. وهو ميل الجماد. وهو من مشهور اللغة. يقال:
هذا السقف يريد أن يقع. وهذه الأرض تريد أن تحرث. وهذا الزرع يريد أن يسقى.
وهذا الثمر يريد أن يقطف وهذا الثوب يريد أن يغسل. وأمثال ذلك. واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعدا، فإما أن يجعل حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، أو حقيقة فيما يختص به كل منهما فيكون مشتركا اشتراكا لفظيا، أو حقيقة في القدر المشترك بينهما. وهي الأسماء المتواطئة وهي الأسماء العامة كلها. وعلى الأول يلزم المجاز. وعلى الثاني يلزم الاشتراك. وكلاهما خلاف الأصل. فوجب أن يجعل من المتواطئة. وبهذا يعرف عموم الأسماء العامة كلها. وإلا فلو قال قائل في ميل الجماد:
حقيقة، وفي ميل الحيوان: مجاز، لم يكن بين الدعويين فرق، إلا كثرة الاستعمال في ميل الحيوان. لكن يستعمل مقيدا بما يبين أنه أريد ميل الجماد. والقدر المشترك بين مسميات الأسماء المتواطئة أمر كلّي عام. لا يوجد كليّا عاما إلا في الذهن. وهو مورد التقسيم بين الأنواع. لكن ذلك المعنى العام الكليّ كان أهل اللغة لا يحتاجون إلى التعبير عنه. لأنهم إنما يحتاجون إلى ما يوجد في الخارج. وإلى ما يوجد في القلوب في العادة. وما لا يكون في الخارج إلا مضافا إلى غيره، لا يوجد في الذهن مجردا. بخلاف لفظ الإنسان والفرس، فإنه لما كان يوجد في الخارج غير مضاف تعودت الأذهان، ومسمى الفرس بخلاف تصور مسمى الإرادة، ومسمى العلم ومسمى القدرة ومسمى الوجود المطلق العام. فإن هذا لا يوجد في اللغة لفظ مطلق يدل عليه. بل لا يوجد لفظ الإرادة إلا مقيدا بالمريد. ولا لفظ العلم إلا مقيدا بالعالم، ولا لفظ القدرة إلا مقيدا بالقادر. بل وهكذا سائر الأعراض، لمّا لم توجد إلا في محالها مقيدة بها، لم يكن في اللغة لفظ إلا كذلك. فلا يوجد في اللغة لفظ
السواد والبياض والطول والقصر إلا مقيدا بالأسود والأبيض والطويل والقصير. ونحو ذلك. لا مجردا عن كل قيد. وإنما يوجد مجردا في كلام المصنفين في اللغة. لأنهم فهموا من كلام أهل اللغة ما يريدون به من القدر المشترك.
ومنه قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112]، فإن من الناس من يقول: الذوق حقيقة في الذوق بالفم. واللباس مما يلبس على البدن.
وإنما استعير هذا وهذا. وليس كذلك بل قال الخليل: الذوق في لغة العرب هو وجود طعم الشيء. والاستعمال يدل على ذلك. قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السجدة: 21]، وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] ، وقال: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها [الطلاق: 9]، وقال: قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: 30]، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: 37] ، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] ، لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ: 24- 25] ،
وقال النبي: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا» «1»
وفي بعض الأدعية: أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك. فلفظ الذوق يستعمل في كل ما يحس به ويجد ألمه أو لذته، فدعوى المدعى اختصاص لفظ الذوق بما يكون بالفم- تحكم منه. لكن ذاك مقيد. فيقال: ذقت الطعام وذقت هذا الشراب. فيكون معه من القيود ما يدل على أنه ذوق بالفم. وإذا كان الذوق مستعملا فيما يحسّه الإنسان بباطنه أو بظاهره، حتى الماء الحميم، يقال: ذاقه. فالثوب إذا كان باردا أو حارا، يقال: ذقت حره وبرده. وأما لفظ اللباس، وهو مستعمل في كل ما يغشى الإنسان فيلتبس به. قال تعالى:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً [النبأ: 10]، وقال: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26]، وقال: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] . ومنه يقال: لبس الحق بالباطل، إذا خلط به حتى غشاه فلم يتميز. فالجوع الذي يشمل ألمه جميع الجائع، نفسه وبدنه، وكذلك الخوف الذي يلبس البدن، لو قيل: فأذاقها الله الجوع والخوف، لم يدل ذلك على أنه شامل بجميع أجزاء الجائع. بخلاف ما إذا قيل: لباس الجوع والخوف. ولو قال: فألبسهم- لم يكن فيه ما يدل على أنهم ذاقوا ما يؤلمهم، إلا بالعقل. من حيث إنه يعرف الجائع الخائف يألم. بخلاف لفظ ذوق الجوع والخوف. فإن هذا اللفظ يدل على الإحساس بالمؤلم. وإذا أضيف إلى الملذ دلّ على
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 56.
الإحساس به.
كقوله صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا» .
فإن قيل: فلم لم يصف نعيم الجنة بالذوق؟ قيل: لأن الذوق يدل على جنس الإحساس. ويقال: ذاق الطعام لمن وجد طعمه وإن لم يأكله. وأهل الجنة نعيمهم كامل تام لا يقتصر فيه على الذوق. بل استعمل لفظ الذوق في النفي. كما قال عن أهل النار: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً [النبأ: 24] أي لا يحصل لهم من ذلك ولا ذوق. وقال عن أهل الجنة: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] .
وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن: لفظ المكر والاستهزاء والسخرية المضاف إلى الله. وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله، عن طريق المجاز. وليس كذلك. بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلما له.
وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجنيّ عليه، عقوبة بمثل فعله- كانت عدلا. كما قال تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] ، فكاد له كما كادت إخوته، لما قال له أبوه: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف: 5] .
وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق: 15- 16]، وقال:
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل: 50- 51]، وقال: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] . ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلا يستحق هذا الاسم. كما روي عن ابن عباس: أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار فيسرعون إليه فيغلق. ثم يفتح لهم باب آخر فيسرعون إليه فيغلق. فيضحك منهم المؤمنون. قال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 34- 36] . وعن الحسن البصريّ: إذا كان يوم القيامة خمدت النار لهم كما تخمد الإهالة. فيمشون. فيخسف بهم. وعن مقاتل: إذا ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فيبقون في الظلمة. فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. وقال بعضهم: استهزاؤه استدراجه لهم. وقيل: إيقاع استهزاء بهم وردّ خداعهم ومكرهم عليهم. وقيل: إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة. وقيل: هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه. وهذا كله حق. وهو استهزاء بهم حقيقة. وفي بعض الآثار: أن الله سبحانه يأمر بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا رأوها وشاهدوا ما فيها من الكرامة، قال الله لملائكته: اصرفوهم عنها. لا
حظّ لهم فيها. قالوا: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون في عذابنا. قال الله: ذلك أردت بكم. إذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين متواضعين، وإذا خلوتم بارزتموني بالعظائم. أجللتم الناس ولم تجلّوني. وعظمتم الناس ولم تعظموني. وخفتم الناس ولم تخافوني. فاليوم أذيقكم أليم عذابي كما حرمتكم جزيل ثوابي. ذكره ابن أبي الدنيا وغيره.
ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] المراد به أهلها. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فقيل لهم: لفظ القرية والمدينة والنهر والميراث وأمثال هذه الأمور التي فيها الحال والمحل، وكلاهما داخل في الاسم، ثم قد يعود الحكم على الحال، وهو السكان.
وتارة على المحل، وهو المكان، وكذلك في النهر يقال: حفرت النهر، وهو المحل.
وجرى النهر، وهو الماء. ووضعت الميزاب، وهو المحل. وجرى الميزاب، وهو الماء. وكذلك القرية. قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [النحل: 112] وقوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الأعراف: 4- 5]، وقال في آية أخرى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ [الأعراف: 97] فجعل القرى هم السكان. وقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [محمد: 13]، وهم السكان. وكذلك قوله:
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف: 59]، وقال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة: 259] ، فهذا المكان، لا السكان. لكن لا بد أن يلحظ أنه كان مسكونا. فلا يسمى قرية إلا إذا كان قد عمر للسكنى. فمأخوذ من القرى وهو الجمع. ومنه قولهم: قريت الماء في الحوض، إذا جمعته فيه. ونظير ذلك لفظ الإنسان يتناول الجسد والروح. ثم الأحكام يتناول هذا تارة وهذا تارة لتلازمهما. فكذلك القرية، إذا عذب أهلها خربت. وإذا خربت كان عذابا لأهلها. فما يصيب أحدهما من الشر ينال الآخر. كما ينال البدن والروح ما يصيب أحدهما. فقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]، مثل قوله: قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [النحل: 112] ، فاللفظ هنا يراد (به) السكان من غير إضمار ولا حذف. فهذا بتقدير أن يكون في اللغة مجاز، فلا مجاز في القرآن.
بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث. لم ينطق به السلف.
والخلف فيه على قولين. وليس النزاع فيه لفظيا. بل يقال نفس هذا التقسيم باطل.
لا يتميز هذا عن هذا. ولهذا كان كل ما يذكرونه من الفروق يبين أنها فروق باطلة.
وكلما ذكر بعضهم فرقا أبطله الثاني. كما يدعي المنطقيون أن الصفات القائمة بالموصوفات تنقسم اللازمة لها إلى داخل في ماهيتها الثابتة في الخارج وإلى خارج عنها لازم للماهية ولازم خارج للوجود. وذكروا ثلاثة فروق كلها باطلة. لأن هذا التقسيم باطل لا حقيقة له. بل ما يجعلونه داخلا يمكن جعله خارجا وبالعكس.
كما قد بسط في موضعه. وقولهم: اللفظ إن دل بلا قرينة فهو حقيقة، وإن لم يدل إلا معها فهو مجاز- قد تبين بطلانه، وأنه ليس في الألفاظ الدالة ما يدل مجردا عن جميع القرائن. ولا فيها ما يحتاج إلى جميع القرائن. وأشهر أمثلة المجاز لفظ الأسد والحمار والبحر ونحو ذلك، مما يقولون: إنه استعير للشجاع والبليد والجواد. وهذه لا تستعمل إلا مؤلفة مركبة مقيدة بقيود لفظية. كما تستعمل الحقيقة. كقول أبي بكر الصديق عن أبي قتادة «1» ، لما طلب غيره سلب القتيل: لاها الله، إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه. فقوله: تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله، وصف له بالقوة بالجهاد في سبيله. وقد عيّنه تعينا أزال اللبس. وكذلك
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خالدا سيف من سيوف الله، سلّه الله على المشركين» «2»
وأمثال ذلك. وإن قال القائل: القرائن اللفظية موضوعة، ودلالتها على المعنى حقيقة، لكن القرائن الحالية مجاز. قيل: اللفظ لا يستعمل قط إلا مقيدا بقيود لفظية موضوعة والحال حال المتكلم والمستمع، لا بد من اعتباره في جميع الكلام. فإنه إذا عرف المتكلم، فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يعرف. لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه. واللفظ إنما يدل إذا عرف لغة المتكلم التي بها يتكلم. وهي عادته وعرفه التي يعتادها في خطابه. ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية إرادة اختيارية. فالمتكلم يريد دلالة اللفظ على المعنى. فإذا اعتاد أن يعبر باللفظ عن المعنى كانت تلك لغة. ولهذا كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها، عرف عادته في خطابه. وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره. ولهذا ينبغي أن يقصد، إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث، أن يذكر نظائر ذلك اللفظ ماذا عنى بها
(1) أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلا فله سلبه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده. حديث 43، أن أبا بكر عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم العبد وأخو العشيرة خالد بن الوليد، وسيف من سيوف الله، سلّه الله عز وجل على الكفار والمنافقين.
الله ورسوله. فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث وسنة الله ورسوله التي يخاطب بها عباده. وهي العادة المعروفة من كلامه. ثم إذا كان لذلك نظائر في كلام غيره، وكانت النظائر كثيرة، عرف أن تلك العادة واللغة مشتركة عامة. لا يختص بها هو صلى الله عليه وسلم. بل هي لغة قومه. ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده في الخطاب، لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه. كما يفعله كثير من الناس.
وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه. ولهذا كان استعمال القياس في اللغة، وإن جاز في الاستعمال، فإنه لا يجوز في الاستدلال. فإنه قد يجوز للإنسان أن يستعمل هو اللفظ في نظير المعنى الذي استعملوه فيه، مع بيان ذلك، على ما فيه من النزاع.
لكن لا يجوز أن يعمد إلى ألفاظ قد عرف استعمالها في معاني فيحملها إلى غير تلك المعاني، ويقول: إنهم أرادوا تلك بالقياس على تلك. بل هذا تبديل وتحريف. فإذا قال: «الجار أحق بسقبه» «1» فالجار هو الجار. ليس هو الشريك. فإن هذا لا يعرف في لغتهم، لكن ليس في اللفظ ما يقتضي أنه يستحق الشفعة. لكن يدل على أن البيع له أولى. وأما الخمر فقد ثبت بالنصوص الكثيرة والنقول الصحيحة أنها كانت اسما لكل مسكر. لم يسم النبيذ خمرا بالقياس. وكذلك النباش كانوا يسمونه سارقا. كما قالت عائشة: سارق موتانا كسارق أحيانا. واللائط عندهم كانوا أغلظ من الزاني بالمرأة. ولا بد، في تفسير القرآن والحديث، من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ. وكيف يفهم كلامه. فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه. وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني. فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب. فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دالّ عليه. ولا يكون الأمر كذلك. ويجعلون هذه الدلالة حقيقة وهذه مجازا. كما أخطأ المرجئة في اسم الإيمان. جعلوا لفظ الإيمان حقيقة في مجرد التصديق. وتناوله للأعمال مجازا.
فيقال: إن لم يصح التقسيم إلى حقيقة ومجاز، فلا حاجة إلى هذا. وإن صح فهذا لا ينفعكم. بل هو عليكم لا لكم. لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة.
والمجاز إنما يدل بقرينة. وقد تبين أن لفظ الإيمان، حيث أطلق في الكتاب والسنة.
دخلت فيه الأعمال. وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد. وهذا يدل على أن
(1) أخرجه البخاري في الحيلة، باب احتيال العامل ليهدى له.
الحقيقة
قوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة» «1»
وأما حديث «2» جبريل فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام فهو كذلك. وهذا هو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم قطعا. كما أنه لما ذكر الإحسان، أراد الإحسان مع الإيمان والإسلام. لم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام. ولو قدّر أنه أريد بلفظ الإيمان مجرد التصديق، فلم يقع ذلك إلا مع قرينة. فيلزم أن يكون مجازا. وهذا معلوم بالضرورة. لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث. بخلاف كون لفظ الإيمان في اللغة مرادفا للتصديق. ودعوى أن الشارع لم يغيره ولم ينقله، بل أراد به ما كان يريده أهل اللغة بلا تخصيص ولا تقييد- فإن هاتين المقدمتين لا يمكن الجزم بواحدة منهما. فلا يعارض اليقين.
كيف؟ وقد عرف فساد كل واحدة من المقدمتين وأنها من أفسد الكلام. وأيضا.
فليس لفظ الإيمان في دلالته على الأعمال المأمور بها، بدون لفظ الصلاة والصيام والزكاة والحج، وفي دلالته على الصلاة الشرعية والصيام الشرعيّ والحج الشرعيّ- سواء. قيل: إن الشارع نقله، أو زاد الحكم دون الاسم. أو زاد الاسم وتصرف فيه تصرف أهل العرف أو خاطب الاسم مقيدا لا مطلقا. فإن قيل: الصلاة والحج ونحوهما، لو ترك بعضها بطلت. بخلاف الإيمان فإنه لا يبطل عند الصحابة وأهل السنة والجماعة بمجرد الذنب. قيل: إن أراد بالبطلان أنه لا تبرأ الذمة منها كلها فكذلك الإيمان الواجب، إذا ترك منه شيئا لم تبرأ الذمة منه كله. وإن أريد به وجوب الإعادة فهذا ليس على الإطلاق. فإن في الحج واجبات، إذا تركها لم يعد. بل تجبر بدم. وكذلك في الصلاة عند أكثر العلماء إذا تركها سهوا أو مطلقا وجبت الإعادة.
فإنما يجب إذا أمكنت الإعادة. وإلا فما تعذرت إعادته مطالبا به كالجمعة ونحوها.
وإن أريد بذلك أنه لا يثاب على ما فعله، فليس كذلك. بل قد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته أنه إذا لم يتمها يثاب على ما فعل، ولا يكون بمنزلة من لم يصلّ. وفي عدة أحاديث أن الفرائض تكمل يوم القيامة من النوافل. فإذا كانت الفرائض مجبورة بثواب النوافل دل على أنه يعتدّ له بما فعل منها. فكذلك الإيمان، إذا ترك منه شيئا كان عليه فعله. إن كان محرّما تاب منه. وإن كان واجبا فعله. فإذا لم يفعله لم تبرأ ذمته منه. وأثيب على ما فعله كسائر العبادات. وقد دلت النصوص
(1)
أخرج مسلم في الإيمان، حديث 57، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» .
(2)
أخرجه البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة. [.....]