الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحيث يتعمقون في كل مهم، ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم.
اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصّا، لأناس خاصة. فذاك كالكنايات الغامضة، والرموز البعيدة التي تخفى عن الجمهور، ولا تخفى عمن قصد بها. وإلا كان خارجا عن حكم معهودها. فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف، واشتركت فيه اللغات، حتى كانت قبائل العرب تفهمه. وأيضا فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط. لأن الضعيف ليس كالقويّ، ولا الصغير كالكبير، ولا الأنثى كالذكر، بل كل له حد ينتهي إليه في العبارة الجارية. فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه، وألزموه ذلك من طريقهم بالحجة القائمة والموعظة الحسنة، ونحو ذلك، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون، ولكلفهم بغير قيام حجة، ولا إتيان ببرهان، ولا وعظ ولا تذكير، ولطوّقهم فهم ما لا يفهم، وعلم ما لا يعلم، فلا حجر عليه في ذلك، فإن حجة الملك قائمة قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: 149] لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا، وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا، وغدوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم، ويقوى به ضعيفهم، وتنتهض به عزائمهم، من الوعد تارة، والوعيد أخرى، والموعظة الحسنة أخرى، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية، والقرون الخالية، إلى غير ذلك مما في معناه. حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين، بل هم مشتركون في مقتضاه، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منّة على تحمله. وزادهم تخفيفا دون الأولين، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.
وقد خرّج الترمذيّ، وصححه عن أبيّ بن كعب، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف
. فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوريّ الذي يسع الأميين، كما يسع غيرهم.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومنها- أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من
أجلها. وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد. والمعنى هو المقصود. ولا أيضا كل المعاني. فإن المعنى الإفراديّ قد لا يعبأ به إذا كان المعنى التركيبيّ مفهوما دونه. كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس ولا يابس، اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم. وأبين من هذا ما في جامع الإسماعيليّ المخرج على صحيح البخاريّ عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ «فاكهة وأبّا» «1» قال: ما الأبّ؟ ثم قال: ما كلفنا هذا. أو قال: ما أمرنا بهذا. وفيه أيضا عن أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: «فاكهة وأبّا» ما الأبّ؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف. ومن المشهور «2» تأديبه لضبيع.
حين كان يكثر السؤال عن المرسلات والعاصفات ونحوهما. وظاهر من هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبيّ معلوم على الجملة، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفيّ، فرأى أن الاشتغال به عن غيره، مما هو أهم منه، تكلف.
ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نبّه عليه قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.. [البقرة: 177] إلى آخر الآية. فلو كان فهم اللفظ الإفراديّ يتوقف عليه فهم التركيبيّ لم يكن تكلفا، بل هو مضطر إليه. كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النحل: 47] فإنه سأل عنه على المنبر. فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص. ثم أنشده:
تخوّف الرّحل منها تامكا قردا
…
كما تخوّف عود النّبعة السّفن
فقال عمر: أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم. فإن فيه تفسير كتابكم.
(1) أورد ابن كثير في تفسيره ما يأتي: وقال أبو عبيد أيضا: عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (وفاكهة وأبّا) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال:
إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقال محمد بن سعد: ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي ظهر قميصه أربع رقاع. فقرأ (وفاكهة وأبّا) فقال: فما الأبّ؟ ثم قال: هو التكلف، فما عليك أن لا تدريه؟
(2)
أخرج الدارميّ في مسنده، في المقدمة، باب كراهية الفتيا، ما يأتي: أخبرنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، ثنا يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر، وقد أعدّ له عراجين النخل. فقال: من أنت؟ قال عبد الله صبيغ. فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبد الله عمر. فجعل له ضربا حتى دمّى رأسه. فقال: يا أمير المؤمنين! حسبك. قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي.