الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة، فعلى كل تقدير، لا بد في كل قول، يجزم به أو يحتمل، من شاهد يشهد لأصله. وإلا كان باطلا. ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم، والله أعلم.
فصل في أن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول
قال الشاطبيّ: الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، والدليل على ذلك من وجوه:
أحدها: أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعيّ ولا غيره، لكنها أدلة باتفاق العقلاء، فدلّ أنها جارية على قضايا العقول. وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين، حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف، ولو نافتها لم تتلقها، فضلا أن تعمل بمقتضاها. وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة. ويستوي، في هذا، الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية وعلى الأحكام التكليفية.
والثاني: أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق. وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل، ولا يتصوره. بل يتصور خلافه ويصدقه. فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق، ضرورة. وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق، وهو معنى تكليف ما لا يطاق. وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول.
والثالث: أن مورد التكليف هو العقل. وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام.
حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا. وعدّ فاقده كالبهيمة المهملة. وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف. فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبيّ والنائم. إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق. بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به.
ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء، لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا. وذلك مناف لوضع الشريعة. فكان ما يؤدي إليه باطلا.
والرابع: أنه لو كان كذلك لكان الكفار أولى من ردّ الشريعة به. لأنهم كانوا في غاية الحرص على ردّ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى كانوا يفترون عليه وعليها. فتارة يقولون ساحر. وتارة مجنون. وتارة يكذبونه. كما كانوا يقولون في القرآن: سحر،
وشعر، وافتراء، وإنما يعلمه بشر، وأساطير الأولين. بل كان أولى ما يقولون: إن هذا لا يعقل، أو هو مخالف للعقول أو ما أشبه ذلك. فلما لم يكن من ذلك شيء، دلّ على أنهم عقلوا ما فيه وعرفوا جريانه على مقتضى العقول. إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر، حتى كان من أمرهم ما كان، ولم يعترضه أحد بهذا المدّعى. فكان قاطعا في نفيه عنه.
والخامس: إن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة. ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام. هو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسّنة فيها ولا مقبحة. وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام. فإن قيل: هذه دعوى عريضة يصده عن القول بها غير ما وجه:
أحدها: أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا. كفواتح السور. فإن الناس قالوا:
إن في القرآن ما يعرفه الجمهور، وفيه ما لا يعرفه إلا العرب، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة وفيه ما لا يعرفه إلا الله. فأين جريان هذا القسم على مقتضى العقول؟
والثاني: أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس أو لا يعلمها إلا الله تعالى. كالمتشابهات الفروعية، وكالمتشابهات الأصولية. ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول فلا تفهمها أصلا. ولا يفهمها إلا القليل. والمعظم مصدودون عن فهمها. فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول.
والثالث: أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرّق الناس بها فرقا وتحزّبوا أحزابا. وصار كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 32] فقالوا فيها أقوالا كلّ على مقدار عقله ودينه. فمنهم من غلب عليه هواه حتى أدّاه ذلك إلى الهلكة.
كنصارى نجران حين اتبعوا، في القول بالتثليث، قول الله تعالى: فعلنا، وقضينا، وخلقنا. ثم بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف. ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزلّ به العقل. كما هو الواقع. فلو كانت الأدلة جارية على تعقلات العقول، لما وقع في الاعتياد هذا الاختلاف. فلما وقع فهم أنه من جهة ما له خروج عن المعقول، ولو بوجه ما.
فالجواب عن الأول: إن فواتح السور، للناس في تفسيرها مقال. بناء على أنه
مما يعلمه العلماء. وإن قلنا: إنه مما لا يعلمه العلماء البتة، فليس مما يتعلق به تكليف على حال. فإذا خرج عن ذلك، خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال، فليس مما نحن فيه. وإن سلم، فالقسم، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة، نادر، والنادر لا حكم له، ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا، لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه، وليس كلامنا فيه. إنما الكلام على ما يؤدي مفهوما، لكن على خلاف المعقول. وفواتح السور خارجة عن ذلك، لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول، وهو المطلوب.
وعن الثاني: إن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول وإن توهم بعض الناس فيها ذلك، لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه. كما نصت عليه الآية قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7] لا أنه بناء على أمر صحيح: فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف. وإن فرض أنه مما لا يعلمها أحد إلا الله، فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجيّ، لا لمخالفته لها. وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة، فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة، ربما يتوهم القاصر النظر، فيها الاختلاف. وكذلك الأعجمي الطبع الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به. ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث، ودعوى الملحدين، على القرآن والسنة، التناقض والمخالفة للعقول.
وضمّوا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع، فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه، فتاهوا. فإن القرآن والسنة، لمّا كانا عربيين، لم يكن لينظر فيهما إلا عربيّ. كما أنّ من لم يعرف مقاصدهما، لم يحلّ له أن يتكلم فيهما.
إذ لا يصح له نظر حتى كون عالما بهما. فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة. ولذلك مثال يتبين به المقصود وهو: إن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس، فقال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، فقال: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101]، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] ، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 42] ، رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ..
[الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية. وقال: بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها.. إلى قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 27- 30] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض. ثم قال: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
…
[فصلت: 9] إلى أن قال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] الآية