الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية في الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد. وذلك لفوائد:
منها، ليظهر بذلك عدله سبحانه. لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرّين على الإيمان. ومنها، أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه. وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.
ومنها، أنه يظهر بوعده كمال رحمته، وبوعيده كمال حكمته، فيصير ذلك سببا للعرفان.
وقد قدمنا عند قوله تعالى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة:
25] أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل. فإذا عطف عليه العمل، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام. أو يقال: لم يدخل فيه ولكن مع العطف. كما في اسم الفقير والمسكين. فتذكر.
قال الراغب: في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً هو الكفر، وإحاطة الخطيئة به، الأعمال السيئة، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة.
ثم شرع، سبحانه، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ثم بيّن الميثاق بقوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وهو إخبار في معنى النهي، كقوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282]، وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كذا، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي. وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها. وهو حق الله تبارك وتعالى. أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئا. وبهذا أمر جميع خلقه. ولذلك خلقهم. كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] . وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] . وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً والإحسان نهاية البر، فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين. حتى قرن
تعالى الأمر بالإحسان إليهما، بعبادته التي هي توحيده، والبراءة عن الشرك، اهتماما به وتعظيما له.
قال حكيم مصر في تفسيره: العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد، هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته والقيام بشئونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا. لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا. وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية. ويكفلانه، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه. فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما، عن علم واختيار، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وإذا وجب على الإنسان أن يشكر، لكل من يساعده على أمر عسير، فضله، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد، وما كانت به المساعدة، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى، وهما اللذان كانا يسعدانه على كل شيء، أيام كان يتعذر عليه كل شيء وَذِي الْقُرْبى أي القرابة.
قال الأستاذ الحكيم «الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة، ويوثق الروابط الطبيعية، حتى تبلغ البيوت، في وحدة المصلحة، درجة الكمال. والأمة تتألف من البيوت، أي العائلات. فصلاحها صلاحها. ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة.
وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدّهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد. ثم بين سائر الأقربين. فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمته. لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس. فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ويرى منفعتهم عين منفعته، ومضرتهم عين مضرته؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة، وصلتها أمتن من كل صلة. فجاء الدين يقدّم حقوق الأقربين على سائر الحقوق.
وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص. ثم ذكر تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال سبحانه وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ. اليتامى جمع يتيم.
وهو من مات أبوه وهو صغير. قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة. فعلم أنها مقصودة لذاتها. وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم. وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا. وحسبك أن القرآن نهى