الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[النحل: 103] . لكنهم أذعنوا لظهور الحجة. فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله مع العجز عن مما ثلته. وأدلة هذا المعنى كثيرة.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن شيم، فصحّحت الشريعة منها ما هو صحيح، وزادت عليه. وأبطلت ما هو باطل. وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه، فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وتعرّف منازل سير النيرين وما يتعلق بهذا المعنى. وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة. كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 97] . وقوله: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16] . وقوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ.. [يس: 39- 40] الآية. وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس: 5] . وقوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً.. [الإسراء: 12] الآية. وقوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] . وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
…
[البقرة: 189] وما أشبه ذلك.
ومنها علوم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها، فبيّن الشرع حقها من باطلها، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ
…
[الرعد: 12- 13] الآية.
قال: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة: 68- 69] . وقال: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً [النبأ: 14] .
وقال: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] .
خرّج الترمذيّ «1» : قال
(1)
أخرجه الترمذي في التفسير سورة الواقعة حدثنا أحمد بن منيع عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، قال، شكركم. تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا ونجم كذا وكذا» .
رسول الله صلى الله عليه وسلم: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، قال: شكركم. تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا.
وفي الحديث «1» : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر
…
الحديث في الأنواء.
وفي الموطأ مما انفرد به: إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة «2» .
وقال عمر بن الخطاب للعباس، وهو على المنبر، والناس تحته: كم بقي من نوء الثريا؟ فقال له العباس: بقي من نوئها كذا وكذا.
فمثل هذا مبيّن للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار. قال تعالى:
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ
…
[الحجر: 22] الآية. وقال: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [فاطر: 9] . إلى كثير من هذا.
ومنها علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية. وفي القرآن من ذلك ما هو كثير.
وكذلك في السنّة. ولكن القرآن احتفل في ذلك. وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون. قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران: 44] الآية. وقال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا.. [هود: 49] وفي الحديث «3» قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت. وغير ذلك مما جرى.
(1)
أخرجه البخاريّ في الأذان باب يستقبل الإمام الناس إذا سلّم. عن زيد بن خالد الجهنيّ أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت في الليلة. فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا: الله ورسوله أعلم. قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب. وأما من قال:
بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب
. (2) الموطأ في الاستسقاء باب الاستمطار بالنجوم
عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إذا أنشأت بحريّة، ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة.
(3)
أخرجه البخاري، في الأنبياء، باب يزفون، النسلان في المشي، عن ابن عباس في حديث طويل جدا
…
قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مطلع تركتي. فجاء فوافق إسماعيل وراء زمزم يصلح نبلا له. فقال: يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا. قال أطع ربك. قال: إنه أمرني أن تعينني عليه. قال إذن أفعل، أو كما قال. قال: فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. قال حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ على نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
ومنها ما كان أكثره باطلا أو جميعه: علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل، ونهت عنه. كالكهانة والزجر وخط الرمل. وأقرت الفأل. لا من جهة تطلب الغيب. فإن الكهانة والزجر كذلك. وأكثر هذه الأمور تخرّص على علم الغيب من غير دليل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض وهو الوحي والإلهام. وأبقى للناس من ذلك، بعد موته عليه السلام، جزءا من النبوءة وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة.
ومنها علم الطب: فقد كان في العرب منه شيء، لا على ما عند الأوائل، بل مأخوذ من تجاريب الأميين، غير مبنيّ على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون.
وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة، ولكن على وجه جامع شاف قليل، يطلع منه على كثير. فقال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا
…
[الأعراف: 31] . وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء، وأبطل من ذلك ما هو باطل:
كالتداوي بالخمر والرقي التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا.
ومنها التفنن في علم فنون البلاغة، والخوض في وجوه الفصاحة، والتصرف في أساليب الكلام، وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم. قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] .
ومنها ضرب الأمثال: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58] إلا ضربا واحدا، وهو الشعر، فإن الله نفاه وبرّأ الشريعة منه. قال تعالى في حكايته عن الكفار: وقالوا أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 36- 37] ، أي لم يأت بشعر، فإنه ليس بحق، ولذلك قال: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ
…
[يس: 69] الآية. وبيّن معنى ذلك في قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [الشعراء: 224- 226] فظهر أن الشعر ليس مبنيّا على أصل، ولكنه هيمان على غير تحصيل، وقول لا يصدقه فعل، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى. فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية. وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق، وما ينضاف إليها، فهو أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية من حيث كان آنس لهم، وأجرى على ما يتمدح به عندهم، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى..
[النحل: 90] إلى آخرها. وقوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام: 151] إلى انقضاء تلك الخصال. وقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ [الأعراف: 32] وقوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 33] إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى، لكن أدرج فيها ما هو أولى، من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة، وليس كذلك. أو فيه من المفاسد ما يربى على المصالح التي توهموها، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] ثم بين ما فيها من المفاسد، خصوصا في الخمر والميسر من إيقاع العداوة والبغضاء، والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيها صلاحا. لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان، وتبعث البخيل على البذل، وتنشط الكسالى. والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين، والعطف على المحتاجين، وقد قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: 219] .
والشريعة إنما هي تخلّق بمكارم الأخلاق، ولهذا
قال عليه السلام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «1»
. إلا أن مكارم الأخلاق على ضربين:
أحدهما: ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ثم لما رسخوا فيه. تمم لهم ما بقي، وهو:
الضرب الثاني: وكان منه ما لا يفعل معناه من أول وهلة فأخّر حتى كان من آخره تحريم الربا وما أشبه ذلك، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق. وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة. ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام. كما قالوا في القراض، وتقدير الدية وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، وتوريث الولد، للذكر مثل حظ الأنثيين، والقسامة، وغير ذلك مما ذكره العلماء. ثم نقول: لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض وجبال وسحاب ونبات،
(1)
عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت لأتمم حسن الأخلاق
.