الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك علوّه على عرشه. ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه. فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان. ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد. انتهى مختصرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 154]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ينهى تعالى عبادة المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا. بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة. وتصرمت عنهم اللذات. وأضحوا كالجمادات. كما يتبادر من معنى الميت. ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: الأحياء. لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون. كما قال تعالى في آل عمران وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 169- 171] ، فقوله في هذه الآية عِنْدَ رَبِّهِمْ يفسر المراد من حياتهم. أي إنها لأرواحهم عنده تعالى. وقوله وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أي بحياتهم الروحية بعد موتهم. إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم، وإن حفظ بعضها عن التلف. كما ترون النيام همودا لا يتحركون.
فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا، ولا عيش أرغد منه في الآخرة.
قال الحراليّ: فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه. حتى في أن يقال عنه: ميت. فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر. انتهى.
ولذا قال الأصم: يعني لا تسموهم بالموتى، وقولوا لهم الشهداء الأحياء. وقال الراغب الأصفهانيّ: الحياة على أوجه. وكل واحد منها يقابله موت (الأولى) هو القوة النامية التي بها الغذاء، والشهوة إليه. وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان. ولذلك يقال: نبات حيّ. (والثانية) في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية. وهي في الحيوان دون النبات (والثالثة) القوة العاملة العاقلة. وهي في الإنسان دون الحيوان والنبات. وبها يتعلق التكليف. وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح: حياة. وعلى ذلك قوله تعالى اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] وقيل: المحسن حيّ وإن كان في دار الأموات. والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء (قال) ونعود إلى معنى الآية فنقول: قد أجمعوا على
أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النموّ والغذاء، ولا الحياة التي بها الحس. فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول. فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالإنسان. وقال: إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس.
قال: والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة، التي هي الروح. البدن. فمتى كان الإنسان محسنا كان منعّما بروحه مسرورا لمكانه إلى يوم القيامة. وإن كان مسيئا كان به معذبا. وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة. وهو مذهب أصحاب الحديث. ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها. ومما دل على صحته خبرا
«الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» «1»
وما
روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» «2»
وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش- يوم بدر- وجمعوا في قليب، أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله «هل وجدتم ما وعد ربكم حقّا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» قيل: يا رسول الله! أتخاطب جيفا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، ولو قدروا لأجابوا»
إلى غير ذلك من الأخبار. وقال تعالى في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وهذا يعني به قبل يوم القيامة، لأنه قال في آخر الآية وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] . انتهى.
وفي البيضاويّ وحواشيه: «إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد، وفساد البنية، ونفي الشعور بها- دليل على أنّ حياتهم ليست الجسد، ولا من جنس حياة الحيوان، لأنها بصحة البنية، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل» انتهى.
وقد جاء الوحي ببيان حياتهم- كما أسلفنا- قال الإمام ابن القيم رحمه الله
(1) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 2- باب الأرواح جنود مجندة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول
…
حديث 1576.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 77 ونصه: عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا. ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال «يا أبا جهل بن هشام! يا أمية بن خلف! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا» . فسمع عمر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف يسمعوا وأنَّى يجيبوا وقد جيّفوا؟ قال «والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» . ثم أمر فسحبوا. فألقوا في قليب بدر
.
تعالى في كتاب (الروح) : وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه حياة أرواحهم، ورزقها دارّ، وإلّا فالأبدان قد تمزقت. وقد فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياة: بأنّ أرواحهم «1» في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربّهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أيّ شيء نشتهي؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا
…
! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا- قالوا: يا ربّ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى..!
فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلّق من ثمر الجنة» «2»
(وتعلق بضم اللام- أي: تأكل العلقة) وهذا صريح في أكلها، وشربها، وحركتها، وانتقالها، وكلامها
…
! انتهى.
قال الطيبيّ:
قوله صلى الله عليه وسلم «أرواحهم في جوف طير خضر»
أي: يخلق لأرواحهم، بعد ما فارقت أبدانهم، هياكل تلك الهيئة، تتعلق بها وتكون خلفا عن أبدانهم، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية. وقال ابن القيم في كتاب (الروح) : «إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. وجعل لكل دار أحكاما تختص بها. وركب هذا الإنسان من بدن ونفس.
وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه.
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها. فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها، والتذّت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب- تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها. والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية. والأبدان كالقبور لها. والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها. فتجري أحكام البرزخ على الأرواح. فترى إلى أبدانها نعيما وعذابا. كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيما وعذابا. فأحط بهذا الموضع علما وأعرفه كما ينبغي، يزل عنك
(1) أخرج مسلم في: الإمارة، حديث 121. عن مسروق قال: سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. قال: أما إنّا قد سألنا عن ذلك. فقال
…
إلخ.
(2)
أخرج الترمذيّ في جامعه في: فضائل الجهاد، 13- باب ما جاء في ثواب الشهداء. عن ابن كعب ابن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
…
إلخ.