المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وروي عن حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٩

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

الفصل: وروي عن حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه

وروي عن حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "يا معشر الناس، اتقوا الزنا، فإن فيه ست خصال، ثلاث فى الدنيا، وثلاث فى الآخرة، أما التي فى الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأما التي فى الآخرة: فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار".

وعن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؛ قال:"أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك". قلت: ثم أي: قال: "وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك"، قلت: ثم أي: قال: "وأن تزني بحليلة جارك"، فأنزل الله تصديقها. {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} . متفق عليه.

‌2

- ثم شرع سبحانه فى تفصيل ما أجمل من الآيات البينات، فقال:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} مبتدأ خبره جملة قوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فأل فيهما موصولة بمعنى: التي، والذي. فلذلك ربط الخبر بالفاء، لما فى المبتدأ من معنى الشرط، وهو العموم، والتقدير: التي زنت من النساء، والذي زنى من الرجال، وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين، فاجلدوا كلا منهما مئة جلدة، عقوبة له على ما أتى من معصية الله.

والزاني (1): من وطئ المرأة من غير عقد شرعي، ولا شبهة.

والزانية: هي المرأة المطاوعة للزنى الممكنة منه، كما تبنىء عنه الصيغة. لا المزنية كرها. وكذلك الزاني، والخطاب فى هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل: للمسلمين أجمعين.

فإن قلت: لم قدمت (2) المرأة فى آية حد الزنا، وأخرت فى آية حد السرقة؟

قلت: إن الزنا إنما يتولد بشهوة الوقاع، وهي فى المرأة أقوى وأكثر،

(1) روح البيان.

(2)

الفتوحات بتصرف.

ص: 210

ولكون الداعية فيها أوفر، ولولا تمكينها منه لم يقع، والسرقة إنما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة، وهي فى الرجل أقوى وأكثر، كما مرّ فى المائدة.

والجلد (1): الضرب بالجلد، وهو بكسر الجيم قشر البدن. يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه. وقالت الحنفية: وهذا دليل على أن التغريب ليس بمشروع؛ لأن الفاء إنما يدخل على الجزاء، وهو اسم للكافي. والتغريب المروي منسوخ بالآية، كما نسخ الحبس والأذى فى قوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} وقوله: {فَآذُوهُمَا} بهذه الآية. ذكره النسفي فى تفسيره.

تنبيه: وكان (2) هذا الحكم عامًّا فى المحصن وغيره، وقد نسخ فى المحصن قطعًا بالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه، وهو:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم" وبالسنة المتواترة، وبإجماع أهل العلم. ويكفينا فى حق الناسخ القطع بأنه عليه السلام قد رجم ماعزًا وغيره، فيكون من باب نسخ الكتاب بالكتاب، وبالسنة المشهورة. فحد المحصن الرجم، وحد غير المحصن الجلد.

وشرائط الإحصان فى باب الرجم ستة عند أبي حنيفة، كما مرّ: الإِسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والنكاح الصحيح، والدخول. فلا إحصان عند فقد واحدة منها. وفي باب القذف: الأربع الأول والعفة.

فمعنى قولهم: حدّ الزنا رجم محصن؛ أي: مسلم حر عاقل بالغ متزوج ذي دخول. ومعنى قولهم: من قذف محصنًا؛ أي: مسلمًا حرًا عاقلًا بالغًا عفيفًا، وإذا فقدت واحدة منها فلا إحصان.

وقرأ الجمهور (3): {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع، وعبد الله {والزان} بغير ياء. وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال

(1) الشوكاني.

(2)

روح البيان بزيادة.

(3)

البحر المحيط.

ص: 211

ورويس {الزانيةَ والزاني} بنصبهما على الاشتغال؛ أي: واجلدوا الزانية والزاني، كقولك زيدًا فاضربه، ولدخول الفاء هنا وفي أمثاله تقرير ذكر فى علم النحو، والنصب هنا أحسن منه في {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} لأجل الأمر.

وقال أبو حيان: وقد تضمنت (1) هذه السورة أحكامًا كثيرةً فيما يتعلق بالزنا، ونكاح الزناة، وقذف المحصنات، والتلاعن والحجاب وغير ذلك، فبدىء بالزنا لقبحه، وما يحدث عنه من المقاسد والعار، وكان قد نشأ فى العرب وصار من إمائهم أصحاب رايات.

{وَلَا تَأْخُذْكُمْ} أيها المسلمون {بِهِمَا} ؛ أي: بالزانية والزاني {رَأْفَةٌ} ؛ أي: رحمة ورقة، وقيل: الرأفة فى دفع المكروه، والرحمة فى إيصال المحبوب. كما فى "النسفي". وتنكيرها للتقليل؛ أي (2): لا يأخذكم شيء قليل من الرحمة والشفقة عليهما {فِي دِينِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: فى طاعته وإقامة حده، فتعطلوه أو تسامحوا فيه بعدم الإيجاع ضربًا، والتكميل حدًا، ولذلك قال عليه السلام:"لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". وذلك أن المضروب يفعل أثناء الضرب أفعالًا غريبة، ويتضرع ويستغيث، ويسترحم، وربما يغشى عليه، فيرأف به الإِمام، أو الضارب أو بعض الحاضرين، لا سيما إذا كان أحب الناس إليه، كالولد والأخ مثلًا، فلا يستوفي حد الله وحقه، ولا يكمل جلده مئة بل ينقصه بترك شيء منها، أو بتخفيف الضرب، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك. وفيه تنبيه على أن الله تعالى إذا أوجب أمرًا قبح استعمال الرحمة فيه.

وفي الحديث: "يؤتى بوالٍ نقَّص من حدٍ سوطًا، فيقال: لم نقصت؟ فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أنت أرحم مني، انطلقوا به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطًا. فيقال: لم زدت؛ فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيقال له: أنت أحكم مني فيؤمر به إلى النار".

قال فى "الأسئلة المقحمة": إن الله تعالى نهى عن الرأفة والرحمة، وعلى

(1) البحر المحيط.

(2)

روح البيان.

ص: 212

هذا، إن وجدنا واحدًا بقلبه إشفاق على أخيه المسلم حيث وقع في المعصية هل يؤاخذ بها؟ والجواب: أنه لم يرد الرأفة الجبلية والرحمة الغريزية، فإنها لا تدخل تحت التكليف، وإنما أراد بذلك الرأفة التي تمنع عن إقامة حدود الله، وتفضي إلى تعطيل أحكام الشرع، فهي منهي عنها.

قال في "بحر العلوم": وفيه دلالة على أن المخاطبين يجب عليهم أن يجتهدوا في حد الزنى، ولا يخففوا الضرب بل يوجعوها ضربًا، وكذلك حق القذف عند الزهري، لا حدّ الشرب، وعن قتادة يخفف في حدّ الشرب والقذف، ويجتهد في حدّ الزنى.

وقرأ الجمهور {وَلَا تَأْخُذْكُمْ} بالتاء لتأنيث لفظ الرأفة. وقرأ أبو عبد الرحمن (1) السلمي وأبو رزين والضحاك وابن يعمر والأعمش {يأخذكم} بالياء. وقرأ الجمهور: نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {رَأْفَةٌ} بسكون الهمزة بوزن رحمة. وقرأ أبو المتوكل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير {رأفة} بفتح الهمزة وقصرها على وزن رعفة. وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو رجاء العطاردي {رأفة} بفتح الهمزة ومدها على وزن سآمة وكآبة، وكلها مصادر أشهرها الأول.

فصل

واختلف (2) العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشرب، وضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا. وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب. وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال: مالك: الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح.

(1) زاد المسير.

(2)

زاد المسير.

ص: 213

فأما ما يضرب من الأعضاء: فنقل الميموني عن أحمد في جلد الزاني، قال: يجرد ويعطى كل عضو حقه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه، ونقل يعقوب بن بختان لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا يضرب إلا في الظهر. وقال الشافعي: يتقى الفرج والوجه. وكيفية الضرب: أن يكون (1) بسوط لين له رأس واحدة، ويجرد الرجل من ثيابه إلا من إزار كما سيأتي والمرأة مما يقيها ألم الضرب، وتوضع في قفة فيها تراب للستر.

والخلاصة: ولا تأخذكم (2) بهما رحمة ورقة في تنفيذ حكم الله تعالى؛ فتعطلوا الحدود، أو تخففوا الضرب، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا في دين الله، ولا يأخذكم اللين والهوادة في استيفاء الحدود، وكفى برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة لكم في ذلك، إذ قال:"لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". {إِنْ كُنْتُمْ} أيها المسلمون {تُؤْمِنُونَ} وتصدقون {بِاللَّهِ} ربكم {و} بأنكم تبعثون للحشر في {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ؛ أي: يوم القيامة، وتجازون بالثواب والعقاب، فإن من كان مصدّقًا بذلك لا يخالف أمر الله ونهيه، خوف عقابه على معاصيه. وفي هذا (3) تهييج وتحريض والتهاب الغضب لله، ولدينه ولتنفيذ حدوده، وإقامة شريعته. فإن الإيمان بهما يقتضي الجد في طاعته، والاجتهاد في إجراء الأحكام.

قال الجنيد رحمه الله: الشفقة على المخالفين، كالإعراض عن الموافقين، وذكر اليوم الآخر؛ لتذكر ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة، والتعطيل. وإنما سمى يوم القيامة اليوم الآخر؛ لأنه لا يكون بعده ليل فيصير كله بمنزلة يوم واحد. وقد قيل: إنه تجتمع الأنوار كلها، وتصير في الجنة يومًا واحدًا، وتجتمع الظلمات كلها وتصير في النار ليلة واحدة.

{وَلْيَشْهَدْ} ؛ أي: وليحضر وجوبًا نظرًا لظاهر الأمر، لكن الفقهاء قالوا

(1) الصاوي.

(2)

المراغي.

(3)

روح البيان.

ص: 214