المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مكان حريز، فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولًا طينًا، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٩

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

الفصل: مكان حريز، فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولًا طينًا،

مكان حريز، فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولًا طينًا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة، في صلب الأب، فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم الأم، فصار الرحم مستقرًا حصينًا لهذه النطفة

‌14

- {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} ؛ أي: ثم حولنا النطفة من صفتها الثانية، إلى صفة العلقة، وهي الدم الجامد بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء.

والمعنى (1): أي ثم صيرنا المني الأبيض دمًا جامدًا أربعين يومًا، قيل: كلها تجعل علقة، وقيل: جزء منها، والباقي يوضع نصفه في موضع تربته، والنصف الثاني يوضع في السماء، فإذا أراد الله إحياء الخلق من القبور، أمطرت السماء، فتلاقي النطف النازلة من السماء، النطف الباقية في الأرض، فتوجد الخلائق بينهما، وهذا هو حكمة قوله:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} .

{فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} ؛ أي: ثم صيرنا ذلك الدم الجامد الأحمر، مضغة؛ أي: لحمًا صغيرًا بمقدار ما يمضغ أربعين يومًا، لا استبانة ولا تمايز فيها {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ}؛ أي: غالبها ومعظمها أو كلها {عِظَامًا} ؛ أي: فصيرنا اللحم الصغير عظامًا بلا لحم، بعد ثلاث أربعينات بأن صلبناها وجعلناها عمودًا للبدن على هيئات مخصوصة من رأس ورجلين، وما بينهما، وأوضاع مخصوصة تقتضيها الحكمة، أو ميزنا بين أجزائها، فما كان منها: من العناصر الداخلة في تكوين العظام، جعلناه عظامًا، وما كان من مواد اللحم، جعلناه لحمًا، والمواد الغذائية شاملة لذلك، ومنبتة في الدم، ومن ثم قال:{فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ} المعهودة {لَحْمًا} من بقية المضغة، وشددناها بالأعصاب، والعروق، فاللحم يستر العظام، كالكسوة؛ أي: كسونا كل عظم من تلك العظام، ما يليق به من اللحم على مقدار لائق به، وهيئات مناسبة له؛ أي: فجعلنا اللحم كسوة لها، من قبل أن يستر العظام، فأشبه الكسوة الساترة للجسم، وجمع العظام لاختلافها.

واختلاف العواطف بالفاء (2)، و (ثم) لتفاوت الاستحالات، يعني: أن بعضها مستبعد حصوله، مما قبله، وهو المعطوف بـ {ثُمَّ} ، فجعل الاستبعاد

(1) المراح.

(2)

الفتوحات.

ص: 25

عقلًا، أو رتبةً بمنزلة التراخي، والبعد الحسّي؛ لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدًّا، وكذا جعل النطفة البيضاء دمًا أحمرًا، بخلاف جعل الدم لحمًا مشابهًا له في اللون، والصورة، وكذا تصلبها حتى تصير عظمًا؛ لأنه قد يحصل ذلك بالمكث، فيما يشاهد، وكذا مد لحم المضغة عليه؛ ليستره، فسقط ما قيل: إن الوارد في الحديث؛ إن مدة كل استحالة أربعون، وذلك يقتضي عطف الجمع بـ {ثم} ، إن نظر لآخر المدة، وأولها، أو يقتضي العطف بالفاء إن نظر لآخرها فقط اهـ من "الشهاب"، مع تقديم وتأخير. وهذا في العواطف الخمسة الأولى، وأما قوله:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ، فعطفه بـ {ثم} للتفاوت بين الخلقين، كما في "البيضاوي".

وقرأ الجمهور (1){عِظَامًا} والعظام: بالجمع فيهما، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفصل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي بالإفراد فيهما، وقرأ السلمي وقتادة أيضًا، والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول، وجمع الثاني، وقرأ أبو رجاء إبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضًا بجمع الأول وإفراد الثاني، فالإفراد يراد به الجنس.

{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ} ؛ أي: صيرنا ذلك المذكور من العظام وكسوته {خَلْقًا آخَرَ} ؛ أي: خلقًا مباينًا للخلق الأول إذ نفخنا فيه الروح، وجعلناه حيوانًا بعدما كان أشبه بالجماد، ناطقًا سميعًا بصيرًا، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها، وباطنها ما لا يحصى.

أي: حولنا العظام المستورة باللحم، عن صفاتها، إلى صفة لا يحيط بها شرح الشارحين، فإن الله جعلها حيوانًا ناطقًا سميعًا بصيرًا عاقلًا، وأودع كل جزء من أجزائه، عجائب وغرائب، لا يحيط بها وصف الواصفين، والإنشاء إيجاد الشيء، وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك، في الحيوان، و {ثم} هنا لكمال التفاوت

(1) البحر المحيط.

ص: 26