المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ}؛ أي: للمستأذنين الذين أذنت لهم {اللَّهَ} سبحانه وتعالى - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٩

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

الفصل: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ}؛ أي: للمستأذنين الذين أذنت لهم {اللَّهَ} سبحانه وتعالى

{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ} ؛ أي: للمستأذنين الذين أذنت لهم {اللَّهَ} سبحانه وتعالى بعد الإذن، فإن الاستئذان، وإن كان لعذر قوي، لا يخلو عن شائنة تفضيل أمر الدنيا على الآخرة. ففيه إشارة إلى أن الأفضل، أن لا يحدث المرء نفسه بالذهاب، فضلًا عن الذهاب، أو أن الاستغفار في مقابلة تمسكهم بآداب الله تعالى، في الاستئذان؛ أي: وادع الله لهم، أن يتفضل عليهم بالعفو، والغفران عن تبعات ما بينه وبينهم. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} أي: كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين. {رَحِيمٌ} كثير الرحمة بهم، فلا يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.

وفي الآية بيان حفظ الأدب، بأن الإِمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور المسلمين، ينبغي أن لا يرجعوا إلا بإذنه، ولا يخالفوا أمير السرية، ويرجعوا بالإذن إذا خرجوا للغزو ونحوه، وللإمام أن يأذن، وله أن لا يأذن إلا على ما يرى. فمن تفرق بغير إذن صار من أهل الهوى والبدع. وكان عليه السلام إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد رجل الخروج وقف حيث رواه، فيأذن له إن شاء.

‌63

- وبعد أن ظهر في هذه السورة شرف الرسول، ولا سيما في هذه الآية التي بهرت العقول، أردف هذا ما يؤكده، فقال:{لَا تَجْعَلُوا} أيها المؤمنون {دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُم} إما مصدر مضاف (1) إلى الفاعل؛ أي؛ لا تجعلوا دعوته وأمره إياكم في الاعتقاد والعمل بها {كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أي: لا تقيسوا دعوته إياكم إلى شيء من الأمور، على دعوة بعضكم بعضًا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة، والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته صلى الله عليه وسلم واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، بل أجيبوه فورًا وإن كنتم في الصلاة. إذا كان أمره فرضًا لازمًا. وهذا قول المبرد والقفال: ومختار أبي العباس، وأقرب إلى نظم الآية. كما قاله ابن عادل والرازي وغيره.

وقيل (2): لا تجعلو دعاء الرسول ربهُ مثل ما يدعو صغيركم وكبيركم، فإنه

(1) روح البيان.

(2)

المراح.

ص: 444

قد يجاب، وقد يرد، فإن دعوات الرسول مستجابة، فاحذروا سخطه، فإن دعاءه مجاب، ليس كدعاء غيره. وهذا كما قاله ابن عباس. وإما مصدر مضاف إلى المفعول. والمعنى: لا تجعلوا نداءكم إياه، وتسميتكم له، كنداء بعضكم بعضًا باسمه، مثل يا محمد، ويا ابن عبد الله، ويا أبا القاسم، ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرات، بل نادوه بغاية التوقير. وبلقبه المعظم، مثل يا نبي الله ويا رسول الله، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} مع التواضع، وحفض الصوت، فلا تنادوه باسمه، ولا بكنيته. وروي هذا أيضًا عن ابن عباس. وقال أبو الليث في "تفسيره": وفي الآية بيان توقير معلم الخير؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان معلم الخير، فأمر الله بتوقيره، وتعظيمه، معرفة حق الأستاذ. وفيه معرفة أهل الفضل. قال في "حقائق البقليّ": إحترام الرسول من احترام الله، ومعرفته من معرفته، والأدب في متابعته، من الأدب مع الله تعالى.

وقرأ الحسن (1) ويعقوب في رواية: {نبيكم} بنون مفتوحة وباء موحدة مكسورة، وياء تحتانية مشدة، بدل قراءة الجمهور {نبيكم} ظرفًا. قال صاحب "اللوامح": وهو النبي صلى الله عليه وسلم على البدل من الرسول.

ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان، فقال:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ} أي: يخرجون من المسجد خفيةً من بين الناس واحدًا واحدًا، حالة كونهم {لِوَاذًا} أي: متلاوذين بالناس؛ أي: متسترين بهم؛ أي: يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة، قليلًا قليلًا على خفية.

و {قد} (2) هنا للتحقيق: بطريق الاستعارة لاقتضاء الوعيد إياه، كما أن رب يجيء للتكثير، وفي "الكواشي" قد هنا مؤذنة بقلة المتسللين؛ لأنهم كانوا أقل من غيرهم. وقيل: قد هنا بمعنى ربما مفيدة للتكثير.

(1) البحر المحيط.

(2)

روح البيان.

(3)

البحر المحيط.

ص: 445

وقرأ يزيد بن قطيب (1): {لِوَاذًا} بفتح اللام، فاحتمل أن يكون مصدر، لاذ الثلاثي، ولم يقبل؛ لأنه لا كسرة قبل الواو، فهو كطاف طوافًا، واحتمل أن يكون مصدر لاوذ الرباعي، وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو. واللواذ من الملاوذة. وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك. وقيل: اللواذ الفرار من الجهاد. وبه قال الحسن. ومنه قول حسان:

وَقُرَيْشٌ تَجُوْلُ مِنْكُمُ لِوَاذَا

لَمْ تُحَافِظْ وَجَفَّ مِنْهَا الْحُلُوْمُ

والتسلل: الخروج بخفية.

والمعنى: قد يعلم الله الذين يخرجون متسللين من المسجد في الخطبة، واحدًا بعد واحد، من غير استئذان، خفيةً مستترين بشيء. وإن عملهم هذا إن خفي على الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى، ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك، ولديه الجزاء على ما يفعلون.

روى أبو داود أنه كان من المنافقين، من يثقل عليه استماع الخطبة، والجلوس في المسجد، فإذا استأذن أحد من المسلمين، قام المنافق إلى جنبه يستتر به، فأنزل الله سبحانه الآية.

والفاء في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} لترتيب الحذر (2)، أو الأمر به، على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم، فإنه مما يوجب الحذر ألبتة، فإن قلت (3): كيف عدى (خالف) بعن مع أنه يتعدى بنفسه؟

قلت: ضمن خالف بمعنى أعرض، أو عدل فعداه تعديته، أو يقال: عن متعلقه بمحذوف تقديره: يخالفونه تعالى، ويعدلون عن أمره أو هي زائدة على قول الأخفش. والضمير في أمره إما لله؛ لأنه الآمر حقيقة، أو للرسول؛ لأنه المقصود بالذكر.

(1) أبو السعود.

(2)

فتح الرحمن.

(3)

روح البيان.

ص: 446