المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَإِنَّ أبِيْ وَوَالِدَتِيْ وَعِرْضِيْ … لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ قوله تعالى: - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٩

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

الفصل: فَإِنَّ أبِيْ وَوَالِدَتِيْ وَعِرْضِيْ … لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ قوله تعالى:

فَإِنَّ أبِيْ وَوَالِدَتِيْ وَعِرْضِيْ

لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ

} الآية، سبب (1) نزول هذه الآية: ما أخرجه الطبراني عن الضحاك بن مزاحم، قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، إلى قوله:{أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} .

قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ

} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني بسند رجاله ثقات، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: هذه الآية نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية، فبرأها الله تعالى من ذلك.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا

} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت، قال: جاءت امرأة من الأنصار ققالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على الحال التي لا أحب أن يرائي عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتيني آت فيدخل علي وأنا على تلك الحال. فكيف أصنع؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ

} الآية. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام، ليس فيها ساكن، فأنزل الله {ليس عليكم جناح

} الآية "القرطبي".

التفسير وأوجه القراءة

‌11

- {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} واختلقوا {بِالْإِفْكِ} ؛ أي: بأشد الكذب وأبلغه، وتكلموا به. مأخوذ (2) من الإفك وهو القلب؛ أي: الصرف؛ لأنه مأفوك عن وجهه وسننه. والمراد به ما أفك على عائشة رضي الله عنها، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الأمانة والعفة والشرف، فمن رماها بالسوء .. قلب الأمر عن وجهه. {عُصْبَةٌ} خبر إن؛ أي: جماعة قليلة. {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، هم زيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعباد بن المطلب وحمنة بنت جحش وهي زوجة طلحة بن عبيد الله وعبد الله بن أبي بن سلول ومن ساعدهم؛ أي: إن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة، جماعة كائنة منكم في

(1) لباب النقول.

(2)

روح البيان.

ص: 249

كونهم موصوفين بالإيمان وعبد الله بن أبي أيضًا كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرًا، وإن كان رئيس المنافقين خفية.

والمعنى: أي (1) إن الذين جاؤوا بالكذب والبهتان في حق عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون، تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس، لمقاصد لهم أخفوها. والله عليم بما يفعلون. والعصبة والعصابة: جماعة من العشرة إلى الأربعين، وفي التعبير بعصبة: بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون، وأنهم هم الذين ينشرونه، لا أنهم عدد كثير من الناس.

وقوله: {لَا تَحْسَبُوهُ} كلام مستأنف؛ أي: لا تظنوا أيها المؤمنون ذلك الإفك والكذب {شَرًّا لَكُمْ} ؛ أي: ضررًا لكم، والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعائشة وصفوان، وكل من ساءه ذلك الإفك، تسلية لهم أول الأمر، {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ أي: لا تظنوا أن فيه فتنة وشرًّا، بل هو خير لكم لاكتسابكم به الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاءً مبينًا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله تعالى بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر في براءتكم وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن يتكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيرًا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية، والآداب التي لا تخفى على من تأملها.

فإن (2) قصة الإفك كانت في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق عائشة وأبويها، وفي حق جميع الصحابة امتحانًا لهم وتهذيبًا، فإن البلاء للأولياء كاللهب للذهب، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" وقال صلى الله عليه وسلم: "يبتلى الرجل على قدر دينه"؛ أي: وذلك لأن الله سبحانه غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين، فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض .. أجرى الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه، ويرده إلى حضرته. وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، فساكنها وقال:"يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة".

(1) المراغي.

(2)

المراح.

ص: 250

وفي بعض الأخبار أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إني أحبك وأحب قربك. اهـ. فأجرى الله تعالى حديث أهل الإفك، حتى رد الله سبحانه رسوله عن عائشة إلى الله بانحلال عقدة حبها عن قلبه، ورد عائشة عنه صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى، حتى قالت لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك.

والشر (1) ما زاد ضره على نفعه، والخير ما زاد نفعه على ضره. وأما الخير الذي لا شر فيه فهو الجنة، والشر الذي لا خير فيه فهو النار. ووجه كونه خيرًا لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين، وصيرورة قصتها هذه شرعًا عامًا.

{لِكُلِّ امْرِئٍ} ؛ أي: على كل إنسان {مِنْهُمْ} ؛ أي: من تلك العصبة. فاللام بمعنى على، والمرء: الإنسان، والرجل كالمرء، والألف فيه للوصل. {مَا اكْتَسَبَ}؛ أي: جزاء ما اجترح {مِنَ الْإِثْمِ} والذنب بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقل وبعضهم أكثر، فقدر العقاب يكون بقدر الخوض في الإثم، وفي "التأويلات النجمية" على حسب سعايتهم وفساد ظنهم، وهتك حرمة حرم نبيهم يكون عقابهم. انتهى.

{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} ؛ أي: تحمل معظم ذلك الإثم وأكثره {مِنْهُمْ} ؛ أي: من أولئك العصبة؛ أي: والذي ابتدأ به، ورغب في إشاعته، وهو عبد الله بن أبي {له}؛ أي: لذلك المتولي {عَذَابٌ عَظِيمٌ} ؛ أي: شديد في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبإظهار نفاقه على رؤوس الأشهاد، وأما في الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العلم الحكيم، وقد كان وأول من اختلقه لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واختلف (2) في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم. فقيل: هو عبد الله بن أبي، وقيل: هو حسان، والأول هو الصحيح. وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة، وهو مسطح بن أثاثة

(1) الشوكاني.

(2)

الشوكاني.

ص: 251

حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وقيل: جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ولم يجلد مسطحًا؛ لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح، وقيل: لم يجلد أحدًا منهم.

قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء، أن الذين حدُّوا: حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحدٍّ لعبد الله بن أبيّ، ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم حسان ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وكان مسطح في آخر عمره مكفوف البصر، وهو ابن خالة أبي بكر الصديق، وصار حسان في آخر عمره أعمى أشل اليدين.

واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ. فقيل: لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة، وحَدَّ من عداه؛ ليكون ذلك تكفيرًا لذنبهم. كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحدود أنه قال:"إنها كفارة لمن أقيمت عليه"، وقيل: ترك حده تألُّفًا لقومه واحترامًا لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين، وأطفاءً لنائرة الفتنة، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه، كما في "صحيح" مسلم.

وقيل (1): الذي تولى كبره حسان كما تقدم، والعذاب العظيم عناه وحده، وضرب صفوان له بالسيف على رأسه. وقال له:

تَوَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّيْ فَإِنَّنِيْ

غُلَامٌ إِذَا هُوْجِيْتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ

وَلَكِنَّنِيْ أَحْمِيْ حِمَايَ وَأَتقِيْ

مِنَ الْبَاهِتِ الرَّامِيْ الْبَرِيْءِ الظَّوَاهِرِ

وأنشد حسان أبياتًا يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي:

حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُ بِرِيْبَةٍ

وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُوْمِ الْغَوَافِلِ

حَلِيْلَةُ خَيْرِ النَّاسِ دِيْنًا وَمَنْصِبًا

نَبِيُّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِلِ

(1) البحر المحيط.

ص: 252

عَقِيْلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ

كِرَامِ الْمَسَاعِيْ مَجْدُهَا غَيْرُ زَائِلِ

مُهَذَّبَة قَدْ طَيَّبَ اللهُ خَيْمَهَا

وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٍ وَبَاطِلِ

فَإنْ كَانَ مَا بُلَّغْتِ عَنِّيَ قُلْتُهُ

فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِيْ إِلَيَّ أَنَامِلِيْ

وَكيفَ وَوِدِّيْ مَا حَيِيْتُ وَنُصْرَتِيْ

بِآلِ رَسُوْلِ اللهِ زَيْنِ الْمَحَافِلِ

لَهُ رُتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ فَضْلُهَا

تَقَاصَرَ عَنْهَا سُوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ

وقرأ الجمهور: (1){كِبْرَهُ} بكسر الكاف. وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهشيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف، والكِبْرُ والكُبْرُ مصدران لكَبُرَ الشيء إذا عَظُمَ، لكن استعمال العرب الضم ليس إلا في السن يقال: هذا كبر القوم؛ أي: كبيرهم سنًا أو مكانة، وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة (الكُبر الكُبر) بضم. وقيل: كبره بالضم معظمه، وبالكسر البداءة بالإفك. وقيل: بالكسر الإثم.

ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات، وعاتبهم وغيرهم وزجرهم بتسعة زواجر:

الأول: هذا.

والثاني: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ

} إلخ.

والثالث: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ

} إلخ.

والرابع: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ

} إلخ.

والخامس: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ

} إلخ.

والساس: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ

} إلخ.

(1) البحر المحيط.

ص: 253