الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالاستحباب {عَذَابَهُمَا} ؛ أي: حدهما إذا أقيم عليهما {طَائِفَةٌ} ؛ أي: جماعة {مِنَ الْمُؤْمِنِين} يحصل بهما التشهير لأمرهما، أقلهم ثلاثة، وأكثرهم عشرة فما فوقها، فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، والزيادة في تأنيبهما على ما فعلا.
والطائفة (1): الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطوف، أقل الطائفة ثلاثة، وقيل: اثنان، وقيل: واحد، وقيل: أربعة، وقيل: عشرة.
تنبيه: فحد غير المحصن (2): جلد مئة وسطًا بسوط لا ثمرة له، ويجلد الرجل قائمًا وينزع عنه ثيابه إلا إزاره، ويفرق على بدنه إلا رأسه ووجهه. وتجلد المرأة قاعدةً لا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو، وجاز الحفر لها، لا له. ولا يجمع بين جلد ورجم، ولا بين جلد ونفي إلا سياسة، ويرجم مريض زنى، ولا يجلد حتى يبرأ، وحامل زنت ترجم حين وضعت، وتجلد بعد النفاس، وللعبد والأمة نصفها، ولا يحدهما سيدهما إلا بإذن الإِمام خلافًا للشافعي.
وفي الحديث: "إقامة حدّ بأرض، خير لأهلها من مطر أربعين ليلة" واعلم أن الزنا حرام وكبيرة، وقد تقدم ما فيه من المساوي والإضرار، ومن الزنى زنى النظر، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس اللعين.
3
- ثم ذكر سبحانه شيئًا يختص بالزاني والزانية، فقال:{الزَّانِي} ؛ أي: الرجل الذي زنى، وقد تقدم حدّ الزنا، بأنه وطء الرجل للمرأة في فرجها، من غير نكاح ولا شبهة نكاح، وقيل: هو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعًا محرمًا شرعًا. {لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} ؛ أي (3): الخبيث الذي من شأنه الزنا، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء ولا يتزوجها، وإنما يرغب في خبيثة من شكله، أو في مشركة. {وَالزَّانِيَةُ}؛ أي: والمرأة التي طاوعت الزنا، ومكنت منه؛ أي: والخبيثة التي من شأنها الزنا {لَا يَنْكِحُهَا} ؛ أي: لا يتزوجها {إِلَّا زَانٍ} مثلها {أَوْ
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
(3)
النسفي.
مُشْرِكٌ}؛ أي: لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وإنما يرغب في نكاحها وتزوجها من هو من شكلها من الفسقة، أو المشركين؛ أي: إنما يتزوجها من هو مثلها، أو أخس منها.
وهذا حكم (1) مؤسس على الغالب المعتاد، جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني، بعد زجرهم عن الزنا بهن، يعني الغالب أن المائل إلى الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في نكاح فاسقة من شكله، أو مشركة، والمسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها فاسق مثلها، أو مشرك. فإن المشاكلة سبب الائتلاف والاجتماع، كما أن المخالفة سبب الوحشة والافتراق. فالآية تزهد في نكاح البغايا، إذ الزنا عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف والتحصن، وهذا نظير قوله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} وقيل: كان نكاح الزانية محرمًا في أول الإِسلام، ثم نسخ بقوله:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} .
وقدم الزاني على الزانية في هذه الآية عكس ما تقدم؛ لأن الرجل في النكاح من حيث إنه هو الطالب، ومنه تبدأ الخطبة؛ ولأن الآية نزلت في فقراء المهاجرين الذين رغبوا في نكاح موسرات كن بالمدينة من بغايا المشركين، لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية.
والمعنى (2): أن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنا والفسق، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة، أو في مشركة مثله، والفاسقة المستهترة لا يرغب في نكاحها الصالحون من الرجال، بل ينفرون منها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة، ولقد قالوا في أمثالهم: إن الطيور على أشكالها تقع.
ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب، كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل المتقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فكذا هذا، فإن الزاني قد ينكح
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
المؤمنة العفيفة، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف.
قال ابن جرير الطبري: (18/ 75) وأولى الأقوال (1) في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عني بالنكاح في هذا الموضع الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات، وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان. فمعلوم إذ كان ذلك كذلك أنه لم يعن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، لا ينكح إلا بزانية أو مشركة، وإذا كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية، لا تستحل الزنا، أو بمشركة تستحله.
قال ابن كثير: ومن (2) هاهنا ذهب الإِمام أحمد ابن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح، حتى يتوب توبة صحيحة، لقوله تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
وقد اختلف (3) في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها، فقال الشافعي وأبو حنيفة: بجواز ذلك، وروي عن ابن عباس وروي عن عمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز. قال ابن مسعود: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك، فهما زانيان أبدًا وبه قال مالك.
وقال الزمخشري: فإن قلت (4): أي فرق بين معنى الجملة الأولى، أعنى قوله:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} ، ومعنى الجملة الثانية، أعني قوله:{وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} ؟
قلت: معنى الأولى وصف الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في
(1) الطبري.
(2)
ابن كثير.
(3)
الشوكاني.
(4)
الكشاف.
الفواجر. ومعنى الثانية، وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة. وهما معنيان مختلفان.
وعن عمرو بن عبيد {لَا يَنْكِحُ} بالجزم على النهي، والمرفوع فيه معنى النهي. ولكن هو أبلغ وآكد، كما أن رحمك على ذلك، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة، ويتصون عنها، انتهى.
{وَحُرِّمَ ذَلِكَ} ؛ أي: نكاح الزواني والمشركات. وقيل: الضمير يعود للزنا. قاله الفراء. ذكره ابن الجوزي. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لما فيه من التشبه بالفسقة، والتعرض للتهمة، والتسبب بسوء المقالة، والطعن في النسب، وغير ذلك من المقاصد اللاتي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل، فضلًا عن المؤمنين، ولذلك عبر عن كراهة التنزيه بالتحريم مبالغة في الزجر. والحكم إما مخصوص بسبب النزول، أو منسوخ بقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} فإنه متناول للمسافحات. وبقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} ويؤيده ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: "أوله سفاح وآخره نكاح" والحرام لا يحرم الحلال.
وفي الآية إشارة إلى الحذر عن أخدان السوء، والحث على مخالطة أهل الصحبة والأخدان في الله تعالى، فإن الطبع من الطبع يسرق، والمقارنة مؤثرة، والأمراض سارية. وفي الحديث:"لا تسكنوا مع المشركين، ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم وليس منا"؛ أي: لا تسكنوا مع المشركين في المسكن الواحد، ولا تجامعوا معهم في المجلس الواحد، حتى لا تسري إليكم أخلاقهم، وسيرهم القبيحة بحكم المقارنة، وللناس أشكال، وكل يطير بشكله، وكل مساكن مثله، كما قال قائلهم:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِيْنَهُ
…
فَإِنَّ الْقَرِيْنَ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِيْ
فأما أهل الفساد فالفساد يجمعهم، وإن تناءت ديارهم، أما أهل السداد، فالسداد يجمعهم وإن تباعد مزارهم، ومن بلاغات الزمخشري "لا ترض لمجالستك إلا أهل مجانستك"؛ أي: لا ترض أن تكون جليس أحد من غير