الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخرجاه وأقرّه الذهبي.
التفسير وأوجه القراءة
41
- والاستفهام (1) في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} للتقرير. والمراد من الرؤية، رؤية القلب. فإن التسبيح الآتي لا يتعلق به نظر البصر؛ أي: قد علمت يا محمد علمًا يشبه المشاهدة في القوة واليقين بالوحي، أو الاستدلال، أن الله سبحانه وتعالى، ينزهه على الدوام في ذاته وصفاته وأفعاله، عن كل ما لا يليق بشأنه من نقص، وآفة أهل السماوات والأرض، من العقلاء وغيرهم، وعبر بـ {مَن} الموضوعة للعقلاء، تغلبًا لهم على غيرهم.
{وَالطَّيْرُ} بالرفع عطف على من، جمع طائر، كركب وراكب. والطائر: كل ذي جناح يسبح في الهواء. وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في جملة ما في الأرض، لعدم استقرارها قرار ما فيها؛ لأنها تكون بين السماء والأرض غالبًا؛ أي: تسبحه تعالى حالة كونها {صَافَّات} ؛ أي: باسطات أجنحتها في الهواء تصففن. وأصل الصف البسط. ولهذا سمي اللحم القديد صفيفًا؛ لأنه يبسط.
والمعنى: أي (2) ألم تعلم يا محمد، أو أيها المخاطب، بالدليل أن الله سبحانه ينزهه آنًا فآنًا، في ذاته وصفاته وأفعاله، جميع ما في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم، تنزيهًا تفهمه أرباب العقول السليمة، إذ كل المخلوقات في وجودها وبقائها، دالة على وجود خالق لها، متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص. وخصّ التنزيه بالذكر، مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال، من جراء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلوا بالتنزيه، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
كما ذكر الطير، مع دخولها في جملة ما في الأرض، من قبل أنها غير مستقرة فيهما. وكثرة لبثها في الهواء، وهو ليس من السماء ولا من الأرض، ولاستقلالها ببديع الصنع، وإنبائها عن كمال قدرة خالقها ، ولطف تدبير مبدعها، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة، الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف في الجو، وتتحرك كيف تشاء، وارشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينًا وشمالًا حجة واضحة الدلالة، على كمال قدرة الصانع المجيد، وحكمة المبدع المعيد. وفي ذلك تقريع للكفار، وتوبيخ لهم، حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له، يعبدونها كعبادته عز وجل.
وقرأ الجمهور (1): {وَالطَّيْرُ} مرفوعًا عطفًا {مَنْ} ، و {صَافَّاتٍ} نصب على الحال وقرأ الأعرج: والطيرَ، بالنصب على أنه مفعول معه، وقرأ الحسن وخارجة عن نافع: والطير صافات برفعهما مبتدأ وخبرًا، تقديره: يسبحن. قيل: وتسبيح الطير حقيقي. قاله الجمهور.
{كُلٌّ} ؛ أي: كل واحد من المخلوقات {قَدْ عَلِمَ} هو {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} ؛ أي: دعاءه وتسبيحه، اللذين ألهمهما الله تعالى إياه، فالضمائر (2) كلها عائدة على كل. قيل: والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر للتأكيد، والصلاة قد تسمى تسبيحًا. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك وألهمها إليه، لا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية.
والمعنى: إن (3) كل مصل ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما، وليس بالبعيد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة، التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
انظر إلى النحل كيف تبني بيوتها السداسية الأشكال، التي لا يتمكن من
(1) البحر المحيط.
(2)
المراح.
(3)
المراغى.
بنائها فطاحل المهندسين، إلا بدقيق الآلات. وإلى العنكبوت، كيف تفعل الحيل اللطيفة، لاصطياد الذباب. وإلى الندب يستلقي في ممر الثور، حتى إذا قرب منه ورام نطحه، شبَّث ذراعيه بقرنيه، ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه. وهذا التسبيح محمول عند البعض على ما كان بلسان المقال، فإنه يجوز أن يكون لغير العقلاء أيضًا تسبيح حقيقة، لا يعمله إلا الله، ومن شاء من عباده. كما في "الكواشي". وقال بعضهم: تسبيح الحيوان والجماد محمول على ما كان بلسان الحال، فإن كل شيء يدل بوجوده وأحواله على وجود صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بشانه.
وروي عن أبي ثابت قال: كنت جالسًا عند محمد بن جعفر الباقر، فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس، وبعد طلوعها؛ قلت: لا. قال: فإنهن يقدسن ربهن، ويسألنه قوت يومهن. وقال بعض العلماء: إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالًا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء. وهذا دليل على أن الله تعالى يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه. وقال مجاهد: الصلاة للبشر، والتسبيح لما عداهم.
وقيل: إن الضمير (1) في {قَدْ عَلِمَ} يعود على الله سبحانه؛ أي: كل فصل منهم ومسبح، قد علم الله سبحانه صلاته وتسبيحه. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}؛ أي: بما يفعلونه من الطاعة والصلاة والتسبيح، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، طاعتها، ومعصيتها، وعلمه محيط بها، ومجازيهم عليها.
والمعنى على هذا القول أي: كل واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له، وتسبيحه إياه. والأول أرجح، لاتفاق القراء على رفع كل. ولو كان الضمير في {علم لله} ، لكان نصب (كل) أولى. وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء. وقرأ الحسن (2) وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمرو {تفعلون} بتاء الخطاب. وفيه وعيد وتخويف لكفرة الثقلين، حيث لا تسبيح لهم
(1) المراغي.
(2)
البحر المحيط.