الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النكاح .. يغنيهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى. ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك.
وجملة قوله: {وَاللَّهُ} سبحانه {وَاسِعٌ} ؛ أي: ذو سعة وغنى. فلا انتهاء لفضله، ولا حد لقدرته، فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما. {عَلِيمٌ} بأحوال خلقه، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. مؤكدة لما قبلها، ومقررة لها.
والمعنى: أنه سبحانه ذو سعة، ولا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده، عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء، ويفقر من يشاء. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله". أخرجه ابن ماجه في سننه، والترمذي والنسائي أيضًا.
33
- وبعد أن بيَّن سبحانه حال القادرين على النكاح ووسائله .. بين حال العاجزين عن تلك الوسائل، فقال:{وَلْيَسْتَعْفِفِ} ؛ أي: وليطلب العفة عن الزنا، والحرام والاجتناب عنه. {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ} ولا يقدرون {نِكَاحًا}؛ أي: سبب نكاح ووسيلته وهو المال. وقيل: النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة، كاللحاف اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس؛ أي: وليجتهد (1) في العفة وقمع الشهوة من لا يجد أسباب نكاح من مهر ونفقة - فإنه لا معنى لوجدان نفس العقد والتزوج - وذلك بالصوم. كما قال عليه السلام: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" معناه: إن الصوم يضعف شهوته، ويقهرها على طلب الجماع، فيحصل بذلك صيانة الفرج وعفته. والأمر في {ليستعفف} محمول على الوجوب في صورة التوقان.
ثم قيد سبحانه هذا الأمر بغايةِ هي قوله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ
(1) الشوكاني.
فَضْلِهِ}؛ أي: وليجتهدوا في الاستعفاف حتى يرزقهم الله سبحانه رزقًا يستغنون به، ويتمكنون بسببه من النكاح.
والخلاصة: أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله، حتى يصل إلى بغيته من النكاح، ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار، فقال:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} ؛ أي: والمماليك الذين يطلبون المكاتبة والإعتاق على المال {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وأيديكم من عبيدكم وإماءكم، ليصيروا أحرارًا، والموصول في محل رفع مبتدأ خبره {فَكَاتِبُوهُمْ}؛ أي: فصيروهم أحرارًا بعقد الكتابة. والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط. ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده؛ أي: وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب. والأمر فيه للندب؛ لأن الكتابة عقد يتضمن الإرفاق، فلا تجب كغيرها.
{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ} ؛ أي: في أولئك المماليك {خَيْرًا} ؛ أي: أمانةً ورشدًا، وقدرةً على أداء مال الكتابة بتحصيله من وجه حلال، وصلاحًا بحيث لا يؤدي الناس بعد العتق وإطلاق العنان. وهو شرط في استحباب (1) عقد الكتابة المفهوم من قوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ} . فاللام من انتفاء هذا القيد، انتفاء الاستحباب، لا انتفاء الجواز.
فصل في بيان معنى الكتابة وحكمها وكيفيتها
والكتابة لغة: مصدر كاتب يكاتب كتابة وكتابًا ومكاتبة. نظير قاتل يقاتل قتالًا ومقاتلة. وشرعًا: أن يقول (2) السيد لمملوكه: كاتبتك على كذا من المال، ويسمى مالًا معلومًا، تؤدي ذلك في نجمين، أو في نجوم معلومة، في كل نجم كذا. فإذا أديت ذلك .. فأنت حر، ويقبل العبد ذلك. فإذا أدى العبد ذلك المال عتق، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة. وإذا عتق بأداء المال، فما فضل
(1) روح البيان.
(2)
الخازن.
في يده من المال فهو له، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في الكتابة في العتق. وإذا عجز عن أداء المال، كان لمولاه أن يفسخ كتابته، ويرده إلى الرق. وما في يده من المال فهو لسيده لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم". أخرجه أبو داود.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} أمر إيجاب، يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيرًا إذا سأل العبد ذلك على قيمته، أو على أكثر من قيمته، وإن سأل على أقل من قيمته لا يجب. وهو قول عطاء وعمرو بن دينار. لما روي أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه - وكان كثير المال - فأبى، فانطلق سيرين إلى عمر فشكاه، فدعاه عمر فقال له: كاتبه، فأبى، فضربه بالدرَّة، وتلا {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فكاتبه.
ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي؛ لأنه عقد جوز إرفاقًا بالعبد. ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل، حتى يؤديه على مهلٍ، فيحصل المقصود. وجوز أبو حنيفة الكتابة حالة منجمة بنجم واحد.
ومعنى المفاعلة (1) في هذا العقد: أن المولى يكتب؛ أي: يفرض، ويوجب على نفسه أن يعتق المكاتب إذا أدى البدل، ويكتب العبد على نفسه أن يؤدي البدل من غير إخلال. وأيضًا بدل هذا العقد مؤجل منجم على المكاتب، والمال المؤجل يكتب فيه كتاب على من عليه المال غالبًا.
واختلفوا في معنى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فقال ابن عمر: قوةً على الكسب. وهو قول مالك والثوري. وقيل: مالًا. روي أن عبدًا لسلمان الفارسي قال له: كاتبني، قال: ألك مال؟ قال: أتريد أن تطعمني أوساخ الناس، ولم يكاتبه. قيل: لو أراد به المال لقال: إن علمتم لهم خيرًا. وقيل: صدقًا وأمانةً. وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في العبد، الاكتساب مع الأمانة، فأحب أن لا يمنع من الكتابة إذا كان هكذا. وقيل: معنى الخير، أن يكون العبد عاقلًا بالغًا.
(1) روح البيان.
فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما؛ لأن الابتغاء منهما لا يصح. وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق.
والمعنى: أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجومًا، ليصيروا بعد أدائها أحرارًا، ويكونوا قادرين على الكسب، وأداء ما كوتبوا عليه مع الأمانة والصدق فكاتبوهم، ويكونون بعد إنتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارًا في رقابهم وفي كسبهم.
ثم حث المؤمنين جميعًا على تحرير الرقاق، فقال:{وَآتُوهُمْ} ؛ أي: واعطوا أيها السادة المكاتبين شيئًا {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ؛ أي: أعطاكم، وليس لكم فيه فضل، فإن الله ربكم ورب عبيدكم، وأموالكم ملكه. أو أعطوا أيها الحكام المكاتبين سهامهم التي جعلها الله لهم في بيت المال في مصارف الزكاة بقوله:{وَفِي الرِّقَابِ} ؛ أي: وفي تحرير الأرقاء.
وعلى القول بأن الخطاب للسادة .. فالواجب إما أن يعطوهم شيئًا من المال، أو يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه. وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار. وقيل: الثلث. وقيل: الربع. وقيل: العشر. ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم وسياق الكلام معهم، فإنهم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: {وَآتُوهُمْ} لجميع الناس.
ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك .. نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا، فقال:{وَلَا تُكْرِهُوا} ؛ أي: لا تجبروا أيها السادة {فَتَيَاتِكُمْ} ؛ أي: إمائكم، فإن كلا من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة. وباعتبار المفهوم الأصلي، وهو أن الفتى: الطري من الشباب، ظهر مزيد مناسبة الفتيات لقوله:{عَلَى الْبِغَاءِ} وهو الزنا من حيث صدوره عن الشواب؛ لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبًا، دون ما عداهن من العجائز والصغار.
{عَلَى الْبِغَاءِ} ؛ أي: على الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاءً، إذا زنت وفجرت، وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها. ثم الإكراه إنما يحصل متى حصل
التخويف بما يقتضي تلف النفس، أو تلف العضو. وأما باليسير من التخويف فلا تفسير مكرهة {إِنْ أَرَدْنَ} تلك الفتيات {تَحَصُّنًا}؛ أي: تعفيفًا عن الزنا؛ أي: جعلن أنفسهن في عفة كالحصن. وهذا (1) القيد، ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا. وإخراج ما عداها من حكمه، بل للمحافظة على عادتهم المسمرة، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه. وكان لعبد الله بن أبيّ ست جوارٍ جميلةٍ، وهي معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وفتيلة، يكرههن على الزنا. وضرب عليهن ضرائب، جمع ضريبة - وهي الغلة المضروبة على العبيد - والجزية، فشكت اثنتان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي معاذة ومسيكة، فنزلت.
وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى، فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه من إمائه، فضلًا عن أمرهن وإكراههن عليه، لا سيما عند إرادتهن التعفف. وفي (2) ذلك إشارة إلى أن للسادة إكراههن على النكاح، فليس للأمة أن تمتنع على السيد إذا زوجها.
وفي "الخازن" واختلف العلماء (3) في معنى قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} على أقوالٍ:
أحدها: إن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطًا فيه.
الثاني: إنما شرط إرادة التحصن؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن؛ فإنها تبغي بالطبع طوعًا.
الثالث: (إنَّ)(إنْ) بمعنى إذا؛ أي: إذا أردن، وليس معناه الشرط؛ لأنه لا
(1) روح البيان.
(2)
المراح.
(3)
الخازن.
يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصنًا. كقوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ؛ أي: إذا كنتم مؤمنين.
القول الرابع: إن في هذه الآية تقديمًا وتأخيرًا، فيكون هذا القيد راجعًا إلى الأيامى. ويكون تقدير الكلام؛ أي: وانكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنًا، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء. اهـ.
وقيل (1): إن هذا الشرط ملغى. وقيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن. وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه. فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال، ولا للحرام، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح. والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن.
ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؛ أي: لا تكرهوهن أيها السادة على الزنا، لتطلبوا بهذا الإكراه حطام هذه الحياة الدنيا. والعرض (2) ما لا يكون له ثبوت. ومنه استعار المتكلمون العرض، لما لا ثبات له قائمًا بالجوهر. كاللون والطعم. وقيل: الدنيا عرض حاضر، تنبيهًا على أن لا ثبات لها.
والمعنى: لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال من كسبهن وبيع أولادهن. وهذا التعليل أيضًا خارج مخرج الغالب.
والمعنى: أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب؛ لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلًا لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها إذا لم يكن مبتغيًا بكراهها عرض الحياة الدنيا.
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.