الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة خمس وثمانين وسبعمائة
فيها في المحرم حضر يلبغا الناصري نائب حلب إلى القاهرة، فخرج سودون النائب إلى ملتقاه في أكثر العسكر، فحضر الموكب بدار العدل، فخلغ السلطان عليه استقراراً، وركب عن يمينه أيتمش وعن يساره الجوباني، ثم توجه إلى بلاده في عاشر الشهر.
وفيها طلب السلطان شمس الدين إبراهيم القبطي، المعروف بكاتب أرلان، فعرض عليه الوزارة فامتنع، فألزمه، فاشترط شروطاً كثيرة أجيب إليها حتى وضع السلطان يده على يد نفسه وقال للأمراء: انظروا إلى يد الوزير فقد جعلتها فوق يدي مبالغة منه في تنفيذ كلمته، فسلك في وزارته مل لم يسلكه أحد قبله في الضبط وترك القبط في أضيق من سم الخياط ودقق عليهم الحساب، ولم يتناول من الرواتب غير شيء يسير جداً، ولم يزل يسوس القضايا إلى أن حصل في بيت المال جملة كثيرة جداً مع تغليق المعاملين وتقديم رواتب المماليك وجوامكهم، وفتح الطواحين بمصر بعد أن كانت مغلقة، وأعاد المخابز السلطانية، وملأ حواصل الحوائج خانات من جميع الأصناف، وكان إذا ركب ركب وحده ولا يترك أحداً يركب معه لا مقدم ولا غيره، وجرى بينه وبين ناظر الخاص ابن البقري وجركس الخليلي مشير الدولة منازعة ومفارضة آل أمره فيها إلى أن منع السلطان الخليلي من الكلام في الدولة، ولما استقر في الوزارة لم يلبس ما جرت به عادة الوزراء يلبسه من القبع الزركش والعنبرية وغير ذلك. وقرر علم الدين الحزين مستوفي الدولة عوضاً عن أمين الدين ابن حنيص.
وفي صفر وصل رسل بغداد أحمد بن أويس، فأحضروا بدار العدل وقدموا هديتهم فخلع عليهم وأنزلوا بدار الضيافة.
وفيه أفرج عن الأمير قرط، فتوجه إلى بيته بطالاً.
وفيه وقعت بين قبلاي نائب الكرك وخاطر أمير العرب بها مقتلة، فانكسر قبلاي وخلص
خاطر من كان قبلاي أمسكه قبل ذلك منهم، ثم تحيل قبلاي على خاطر إلى أن حضر عنده فذبحه ولده غدراً.
وفيها حضر سالم الدوكاري التركماني إلى نائب حلب طائعاً فأمره السلطان بإرساله إلى مصر، ولم يكن أطاع ملكاً قبله.
وفي جمادى الأولى نزل السلطان إلى النيل فخلق المقياس وكسر الخليج بحضرته، ولم يباشر ذلك بنفسه سلطان قبله من زمن الظاهر بيبرس.
وفيها أمر السلطان جمال الدين المحتسب أن يتحدث في الأوقاف الحكمية فتحدث فيها فشق ذلك على القاضي الشافعي فتحدث مع أحد الدين فراجع له السلطان فقال: أنا ما وليت جمال الدين وعزلت الشافعي وغنما أمرته أن يتحدث معه في عمارة ما تهدم، ثم شافه السلطان القاضي بذلك وقال له: أنت الناظر وهذا ينوب عنك في ذلك، فسأله المحتسب أن يكون الأمير قديد معه في العمارة، وبالغ من بيده شيء من الأوقاف في إصلاحه خوفاً من الغهانة، وفي ذلك يقول شهاب الدين بن العطار:
يا من أكلتم من جني أوقافنا
…
لحماً طرياً فاصبروا لقديد.
وفيه عمل أهل برمة وهم نصارى عرساً بالمغاني والملاهي على عادتهم فقام المؤذن يسبح على العادة فأنزلوا، فبلغ ذلك الخطيب فانتصر للمؤذن وساعده الإمام فأهانهما أهل البلد، فتوجهوا إلى القاهرة وشكوا الأمر للنائب، فأرسلهم إلى صاحب برمة وهو جركس الخليلي فضرب الثلاثة وحبسهم، فبلغ ذلك السلطان من جهة ناصر الدين بن الميلق الواعظ فتغيظ على الخليلي وأمره بإطلاقهم وإنصافهم من غرمائهم، فأحضر من
برمة جماعة من المسالمة فشهد عليهم بالزندقة، فضرب القاضي المالكي رقاب ستة أنفس، وسر المسلمون بذلك، وقد قرأت بخط القاضي تقي الدين الزبيري وأجازنيه أن ابن خير حكم بضرب رقابهم بحضور القضاة فضربت في المجلس وكان سودون النائب حاضراً بين القصرين، قال: ثم قام بعض المالكية وادعى أنه خالف مذهبه وبالغ في التشنيع يعني ابن جلال الدميري وجرى على ابن خير ما لا خير فيه، ثم إنه استفتى أهل العلم الموجودين قي ذلك الوقت فأفتوا بتصويب فعله وانتصر على خصمه.
وفي جمادى الآخرة نازل الفرنج بيروت في عشرين مركباً، فراسلوا نائب الشام فتقاعد عنهم واعتل باحتياجه إلى مرسوم السلطان، فقام إينال اليوسفي فنادى الغزاة في سبيل الله، فنفر معه جماعة فحال بين الفرنج وبين البحر وقتل بعضهم، ونزل إليه بقية الفرنج فكسرهم وقبض من مراكبهم ستة عشر مركباً، فسر المسلمون بذلك سروراً عظيماً، ولما بلغ السلطان قبل ذلك تحرك الفرنج جهز عدة أمراء لحفظ الثغور من الفرنج كرشيد ودمياط وغيرهما، فلما توجهوا إلى بيروت وكسروا بها حصلت الطمأنينة منهم، وممن توجه من المطوعة القاضي المالكي ومعه المغارية والشيخ شمس الدين القونوي ومعه خلائق من المطوعة، ثم جمع القاضي الشافعي جمعاً من الفقهاء وتوجه، وكان الفرنج قد دخلوا صيداء فوجدوا المسلمين قد نذروا بهم فأحرزوا أموالهم وأولادهم بقرية خلف الجبل، فوجد الفرنج بعض أمتعتهم فنهبوها وأخذوا ما وجدوا من زيت وصابون وأحرقوا السوق وقصدوا بيروت فتداركهم المسلمون، ثم وصل النائب وانكسر الفرنج بحمد الله تعالى، ثم عاد الفرنج إلى مباهلة بيروت فطرقوها في شعبان، فتيقظ لهم أهلهم فحاربوهم وراموهم، ونزل طائفة من الفرنج فوجدوا بالساحل خمسة عشر نفساً فقتلوهم، ثم قتل من الفرنج جماعة، فوصل النائب من دمشق بعد انقضاء الوقعة ورجوع الفرنج بغيظهم لم ينالوا خيراً.
وفيها ابتدأ الأمير أيتمش بإنشاء مدرسته التي بالقرب من القلعة.
وفي صفر عزل القاضي الحنفي بدمشق نوابه بسبب بدر الدين القدسي، ثم أعاد واحداً منهم وهو تقي الدين الكفري، فشاع الخبر أن النائب تعصب للكفري وكاتب فيه ليلى القضاء استقلالاً ثم وصل الخبر بذلك واستقر في ربيع الأول.
وفيها أراد جماعة القيام على السلطان ونزعه من الملك وساعدهم على ذلك الخليفة المتوكل وغيره، فبلغه ذلك فأمسك الخليفة وسجنه وخلعه من الخلافة فوضها لقريبه عمر بن إبراهيم بن الواثق، ورتب له ما كان للمتوكل، ولقب الواثق، أو المستعصم، وسمرقرط بن عمر الكاشف وإبراهيم بن قطلقتمر وغيرهما وكان الذي نم عليهم بذلك صلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز وأخبره بأنهم اتفقوا مع الخليفة وجمعوا ثماني مائة نفس وتواعدوا على قتل السلطان إذا نزل للعب الكرة بالميدان، وقيل إن بدر بن سلام كان وافقهم على ذلك فأرسل السلطان لما سمع بذلك إلى سودون النائب فأخبره بما قيل فبرأهم من ذلك وقال: إن الخليفة رجل عاقل لا يصدر منه شيء من ذلك، فأمر السلطان بإحضاره، وإحضار قرط وإبراهيم بن قطلقتمر فقررهم على ما بلغه، فأنكروا فشدد على قرط وهدده فأقر فالتفت إلى الخليفة فقال: ما يقول هذا؟ قال: يكذب، ثم قرر السلطان إبراهيم بن قطلقتمر فأقر بنحو ما أقر به قرط فسأل الخليفة فأنكر، فجعل إبراهيم يحاققه ويذكر أمارات وهو مصر على الإنكار إلى أن غضب السلطان وسل السيف وأراد ضرب عنقه فحال بينهما سودون النائب، ثم أمر بتسمير الثلاثة، فقال له سودون النائب: متى سمرنا الخليفة رجمتنا العامة، فوافقه بعض من حضر، ثم عقد مجلس بالعلماء والقضاة فلم يصرح أحد منهم بوجوب قتل أحد من المذكورين
فانفصل المجلس وحبس الخليفة في القلعة وقيد بقيد ثقيل وأمر بتسمير قرط وإبراهيم فتسلمها حسين بن علي الكوراني والي القاهرة فطاف بهما مصر والقاهرة، ثم استأذن عليهما العصر فأمر بتوسيطهما فوسط قرط، ثم وقعت الشفاعة في إبراهيم فحبس بالخزانة وحبس معه حسين بن قرط بن عمير.
وفيها خرج سلام بن التركية مع العرب بالوجه البحري، وتوجهوا إلى جهة الفيوم ومعهم إبراهيم بن اللبان، وكان يوقع عند بعض الأمراء فاتفق مع الذين أرادوا الخروج على السلطان، وأشعر بهم العرب وأظهر للعرب أنه قريب الخليفة وتعمم بزي الخليفة فهرعوا إليه، فصار يأمر وينهى، فجهز السلطان إليهم أربعة أمراء، فلما بلغهم ذلك توجهوا إلى جهة الصعيد وتبعوهم، وكان ما سيأتي ذكره.
وفيها حصر أبو العباس بن أبي سالم المريني مدينة تادلة وخرب قصرها، ثم ملك مراكش وعاد إلى فاس، وخرج لغزو أبي حمو بتلمسان ففر عنه.
وفيها زاد النيل زيادة عظيمة إلى أن تهدمت به بيوت كثيرة وانفتح مقطع بالزريبة فبادر إليه أيدكار الحاجب وحسين الوالي فأحضروا المراكب وسدوه بأبواب وصواري وأخشاب فلم ينسد إلا بعد أيام، ورتب السلطان جماعة من الأمراء والمماليك بالإقامة بجوانب البحر والخلجان لحفظ الجسور.
وفيها حضر رسل صاحب سنجار، ورسل صاحب قيسارية، ورسل صاحب بتكريت بهداياهم، وتضمنت كتبهم سؤال السلطان أن يكونوا تحت حكمه ويخطبوا باسمه، فاجيب سؤالهم وكتب لهم بذلك تقاليد، وخلع على رسلهم.
وفيها قبض على سعد الدين بن البقري ناظر الخاص، وذلك في تاسع رمضان، واتفق أنه كان في بيته عرس بعض بناته، وقد تجمع عندهم النساء بالحلي والحلل، فأحيط بهم، ولم يسمع
بمثل كائنته، ونهب جميع ما عنده، وأهين هو وضرب بالمقارع بحضرة السلطان، وباع موجوده إلى أن بلغ ما حمل من منزله ثلاثمائة ألف دينار وأمر السلطان الوزير أن يباشر نظر الخاص فامتنع وأصر، فاستقر في نظر الخاص أبو الفرج موفق الدين الذي تقدم ذكر إسلامه قريباً، ثم أعيد الضرب على ابن البقري في ذي القعدة فضرب تحت رجليه ثلاثمائة عصى وعلى ظهره مقترح مثلها وعلى إسته مثلها، وصار من شدة الضرب يمرغ وجهه في الحصباء إلى أن أثر ذلك في وجهه أثراً لم يزل إلى أن مات بعيد دهر طويل وأثر ذلك ظاهر فيه.
وفي رجب جدد للمحمل ثوب أطلس معدني وصبغ وعمل عليه رنك السلطان، وذلك بعناية الخليلي، وفيه دخل السلطان المارستان المنصوري بين القصرين وعاد المرضى وسأل عن أحواهم.
وفي شوال أطلق إبراهيم بن قطلقتمر فأرسله السلطان إلى والده، وشفع سودون في الخليفة ففك قيده، ثم في ذي الحجة أسطن في بيت الخليلي بالقلعة، وأذن لعياله في الاجتماع به.
وفي رمضان أمر السلطان بإطلاق من في الحبوس من اهل الديون وقام جركس الخليلي في المصالحة بينهم.
وفي صفر ولي مسعود قضاء حلب، وعزل ابن أبي الرضا، فباشر خمسة أشهر ثم رافعوه، فعزل وحبس بالقلعة.
وفيها استقر برهان الدين بن جماعة في قضاء الشام بعد موت ولي الدين بن أبي البقاء، وقرأت بخط القاضي تقي الدين الزبيري وأجازنيه أنه استقر فيه مع وظائفه التي بالقدس فاستناب فيها وباشر القضاء بدمشق بعظمة ورئاسة، واشترى بها بستاناً بالمزة، وصرف على عمارته مالاً كثيراً، ووقع بينه وبين إينال اليوسفي فانتصر البرهان انتهى.
وذكر لي غيره أن البرهان كان حضر من القدس إلى دمشق ثم رجع فوصل كتاب السلطان إلى نائب الشام بيدمر يذكر فيه أنه يعرض منصب القضاء على البرهان فإن أجاب ألبس الخلعة التي صحبة البريدي، فأرسل إليه بيدمر البريدي فرجع من مرحلتين وعرض عليه ذلك فأجاب وقال لو ولاني السلطان قضاء قرية لقبلتها، وكان سبب ذلك ما تقدم من الإشاعة عنه التي أوجبت عزله أنه لا يوافق على تولية برقوق السلطنة، فألبسه بيدمر الخلعة واستأذنه في التوجه للقدس فأذن له فتوجه مسرعاً وخطب بهم خطبة وداع ورجع هو وأهله فأقام بدمشق إلى أن مات، ويقال إنه لم يجد في المودع الحكمي شيئاً فما زال بحسن سياسته ونزاهته وعفته إلى أن امتلأ ووجد فيه لما مات جملة من الأموال النقد وغيره.
وفيها اشترى السلطان أيتمش البجاسي من ورثة جرجي أستادار بجاس، وذلك أن أستاذه بجاس مات قبل أن يعتقه واستحق ميراثه ورثة أستاذه جرجي فصار أيتمش مرقوقاً لهم، فسأل السلطان في شراه منهم فاشتراه منهم بمائة ألف درهم، ثم أعتقه وأمر له بأربعمائة ألف درهم وعد ذلك من الغرائب فإن جرجي مات سنة اثنتين وسبعين، فأقام أيتمش سبع عشرة سنة في الرق يتصرف الأحرار إلى أن صار أكبر الأمراء بالديار المصرية.
وفيها فوض أمر نقابة الأشرف والنظر عليهم لعبد الرحيم الطباطي، وكان القاضي الشافعي قبل ذلك ينظر فيه.
وفيها خرج سعد الدين بن أبي الغيث صاحب ينبع على ركب المغاربة بوادي العقيق وطلب منهم مالاً، فتكاثروا عليه وقيدوه، فقام العرب الذين كانوا معه فقاتلوهم فقلت بينهم مقتلة عظيمة، ثم جاء التكرور فساعدوا المغاربة فكثرت القتلى، ونهبت من المغاربة والتكرور أموال عظيمة، فبلغ ذلك بهادر أمير المحمل فقام في لم شعث هذه القضية وتسكين هذه الفتنة إلى أن هدأت.
وفيها خرج زامل النووي على ركب العراق في ثمانية آلاف نفس فنهبهم ومنعهم من التوجه إلى مكة حتى جبوا له عشرين ألف دينار عراقية.
وانسلخت هذه السنة ومضت في غاية الرخاء حتى بيع اللحم الضأني السليخ بثمانين درهماً القنطار، والبقري بخمسين درهماً القنطار، والسمن بستة عشر القنطار، والقمح من ثمانية إلى خمسة عشر الإردب، والشعير من ستة إلى ثمانية الإردب.
وفيها وقع بين نعير بن حيار بن مهنا وابن عمه عثمان بن قارا فتنة، فساعد يلبغا الناصري عثمان فكسر نعير ونهبت أمواله حتى قيل إن جملة ما نهب له ثلاثون ألف بعير.
وفيها سار يلبغا الناصري بالعساكر الحلبية وبعض الشامية إلى جهة التركمان فنازلوا أحمد بن رمضان التركماني فتواقعوا عند الجسر على الفرات، فانكسر التركمان وأسر إبراهيم بن رمضان وابنه راشد، فوسطهم يلبغا الناصري، ثم تجمع التركمان وواقعوا الناصري عند أذنة فانكسر العسكر وقلعت عين الناصري وجرح، ثم تراجع العسكر ولم يفقد منه إلا العدد اليسير فطردوا التركمان إلى أن كسروهم، فغدر التركمان بنائب حماة وبيتوه، فانهزم، ثم ركب يلبغا الناصري فهزمهم.
وفيها حضر نصراني القاضي ولي الدبن بن أبي البقاء بدمشق فاعترف بأنه أسلم ثم ارتد وسأله بأن يضرب عنقه، فهم بذلك، فلما رأى القتل أسلم، ثم ارتد فحمل إلى المالكي فضرب عنقه بدمشق في صفر.
وفيها قبض على بيدمر نائب الشام وحبس بصفد، وفيه يقول الشاعر:
نائب الشام قد نفى
…
صفدا بعد ما اجتهد.
والشيطان لم تزل
…
بعد شعبان في صفد.