الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
منهجنا في تحقيق تهذيب الكمال
كثرة نسخ التهذيب الخطية:
بدأ المزي في وضع كتابه في صيغته النهائية منذ مطلع سنة (705) للهجرة، وبدأ يحدث به منذ سنة (706)(1) على الرغم من أنه لم يتمه إلا في أواخر سنة (712)(2) ، فجاء في أربعة عشر مجلدا بخطه (3) .
وقد طال عُمَر المزي، ومتعه الله بالصحة الجيدة، وصحة الحواس إلى آخر عُمَره، واشتهر كتابه في حياته، وسارت به الركبان، فحدث بكتابه خمس مرات (4) بين سنة (706) وسنة (742) ، فسمع الكتاب عليه خلال هذه الستة والثلاثين عاما عدد كبير من المعنيين بهذا الشأن، واجتهدوا في تثبيت خطه على نسخهم. ثم نال هذا الكتاب طوال القرون التالية منزلة رفيعة جعلته من أوائل الكتب التي يسعى أصحاب الخزائن إلى استنساخه واقتنائه.
لكل هذه الاسباب توافرت نسخ هذا الكتاب، وانتشرت في بقاع الدنيا. فقلما نجد خزانة نفيسة من خزائن الكتب العالمية تخلو من
(1) سمع محمد بن علي بن حرمي الدمياطي الجزء الثامن من أصل المؤلف سنة 706 ولعل المؤلف قد حدث بكتابه قبل هذا ولكننا لا نستطيع الجزم لعدم توفر الادلة.
(2)
انظر الورقة الاخيرة من المجلد الثاني عشر من نسخة دار الكتب المِصْرِية ذات الرقم: 25 مصطلح الحديث.
(3)
أعيان العصر: 12 / الورقة: 126.
(4)
على ما ذكر رفيقه وتلميذه الذهبي (أعيان العصر: 12 / الورقة: 125، والدرر: 5 / 234) .
مجلد أو مجلدات من هذا الكتاب العظيم، فضلا عما فيها من كتب اختصرت التهذيب، أو استدركت عليه.
ومن سعادة المزي، وسعادة التراث العربي الاسلامي أن نجد اليوم في خزائن الكتب عددا من المجلدات بخط المؤلف نفسه في أعظم مركزين للمخطوطات في العالم وهما: استانبول والقاهرة، وعلى هذه المجلدات طباق السماعات مما سنصفه في صدر هذا المجلد والمجلدات الآتية بعون الله.
وقد يسر الله لي بحمده ومنه عددا من نسخ هذا الكتاب صورتها في رحلاتي المتعددة، وأودعتها خزانة كتبي، ومنها قسم بخط المؤلف المزي رحمه الله إذ كنت قد كلفت بهذا الكتاب النفيس منذ فترة ليست بالقصيرة.
نسخة ابن المهندس:
وقد تبين لي بعد دراسة العديد من النسخ أن من أحسن النسخ التي نسخت عن نسخة المؤلف وقوبلت عليه هي النسخة التي نسخها الإمام المحدث المفيد العدل الكبير شمس الدين أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إبراهيم بن غنائم المعروف بابن المهندس الصالحي الحنفي الشروطي (733 665)(1) .
كان ابن المهندس عالما فاضلا، سمع على شيوخ عصره، ورحل فِي طلب العلم إِلَى حلب ومصر، وحج مرات، وزار القدس الشريف، وسمع في كل تلك البلاد، وحصل تحصيلا كثيرا. وكان من أعيان الشهود العدول، لازم الشهادة وكتابة الشروط مدة طويلة، وولي
(1) معجم الشيوخ للذهبي: 2 / الورقة: 29، وتذكرة الحفاظ: 4 / 1502، وذيل العبر: 179، والجواهر المضية للقرشي: 2 / 4، والدرر لابن حجر: 3 / 378، والدارس للنعيمي: 2 / 94، وشذرات ابن العماد:
مشيخة الحديث بمشهد ابن عروة، ومشيخة الحديث بالتربة الكاملية الصلاحية بالصالحية، وأخذ عنه فضلاء العلماء، منهم: عز الدين ابن جماعة الكناني، وعلم الدين البرزالي، وإمام المؤرخين شمس الدين الذهبي، وتقي الدين بن رافع السلامي، وغيرهم. قال علم الدين البرزالي: وكان رجلا فيه ديانة وخير ومحبة للعلم وأسمع جملة من مسموعاته، ورافقته في الحج، فرأيت فيه حرصا على العبادة والخير"وَقَال الذهبي في معجم شيوخه الكبير: محمد بن إبراهيم بن غنائم بن وافد العدل الفقيه المحدث المتقن شمس الدين أبو عَبد الله بن المهندس الصالحي الحنفي. ولد سنة خمس وستين وست مئة، وعني بهذا الشأن عناية جيدة، وكتب العالي والنازل، وسمع..وكان صحيح النقل، مليح الاصول..ونسخ الكتب الكبار، وشهد على القضاة، وتميز في الشروط، وفيه خير وتواضع واحتمال.." (1) . وذكر الذهبي أنه نسخ"تهذيب الكمال"مرتين (2) .
وقد وصلت إلينا نسخته الاولى وهي في اثنين وعشرين مجلدا (3) ، كتبها عن نسخة المؤلف، في الفترة (715 706) وسمعها عليه بعد ذلك كما هو مثبت بخطه في كثير من الاجزاء التي وصلت إلينا من نسخة المؤلف المزي.
اعتماد العلماء نسخة ابن المهندس:
وقد أضحت نسخة ابن المهندس هي النسخة المعتمدة عند العلماء منذ عصر المؤلف وفي العصور التالية له، نظرا لدقتها وجودتها وصحة نقل ناسخها وسماعه على المؤلف، فقد تبين لي أن العلامة
(1) معجم الشيوخ: 2 / الورقة: 29.
(2)
ذيل العبر: 179.
(3)
ينقص من نسخة مكتبة السلطان أحمد الثالث التي صورت عنها نسختي المجلدات: الرابع والعاشر والحادي عشر والتاسع عشر، وأنا مجتهد في العثور على هذا النقص في مكتبات أخر.
علاء الدين مغلطاي قد اعتمدها في كتابه"إكمال تهذيب الكمال"وهو يستدرك على الحافظ المزي، قال في ترجمة أبي إسحاق أحمد بن إسحاق المطوعي السرماري وهو يتكلم على"سرمارة"التي نسب إليها: نسبة إلى قرية تدعى سرمارة بفتح السين وسكون الراء، ويُقال: بكسر السين فيما ذكر الحافظان الجياني وابن خلفون، وابن السمعاني يضم السين وكأنه معتمد المزي، لان المهندس ضم السين ضبطا عن الشيخ" (1) .
كما اعتمدها العلامة تقي الدين السبكي (ت 756) في رده على بعض ما استدركه مغلطاي على المزي، وهو مما حمله معه من مصر ابنه التاج عبد الوهاب صاحب الطبقات وسأل فيه والده (2) : السؤال الثاني: قال: وَقَال أيضا (يعني مغلطاي) : عياض بْن حمار بْن أَبي حماري، واسمه: ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان، نسبه خليفة، كذا هو موجود بخط المهندس، وقرأته على الشيخ. والذي رأيت في كتاب الطبقات لخليفة المكتوب عن تلميذه أبي عِمْران عَنه: ابن أَبي حمار، بغير ياء..الجواب (يعني جواب التقي السبكي) (3) : لفظ المزي في كتابه بخطه عندي: عياض بن حمار المجاشعي التميمي..له صحبة، وهو عياض بْن حمار بْن أَبي حمار بْن ناجية بن عقال بن محمد بْن سفيان بْن مجاشع، نسبه خليفة بن خياط. فالذي قاله المزي كما قاله غيره من الأئمة، ونسخة من قال خلاف ذلك غلط. وهذه الترجمة في الجزء الرابع والستين من تهذيب الكمال وقد سمعه المهندس بقراءة جمال الدين رافع كما قلناه" (4)
(1) إكمال تهذيب الكمال، الورقة: 7 من المجلد الذي بخطه، وانظر طبقات السبكي: 10 / 416، 417، 420.
(2)
انظر أعلاه كلامنا على كتاب مغلطاي.
(3)
إضافة مني للتوضيح.
(4)
الطبقات: 10 / 417 416.
نسختنا المعتمدة:
قلنا سابقا: إن الحافظ المزي حدث بكتابه خمس مرات وإنه عاش مدة طويلة بعد الانتهاء من تأليفه، لذلك كنت حذرا الحذر كله وأنا أطالع النسخ، وأدرسها، وأقارن بينها خوفا من أن يكون الرجل قد غير في كتابه بعض ما وجده حريا بالتغيير كما هي عادة جمهرة من العلماء ممن سبقه أو عاصره (1) لكن الذي ظهر لي بعد طول التتبع أنه لم يقم بأي تغيير أو تبديل على المبيضة التي انتهى منها في عيد الاضحى سنة (712) ، وأنه اعتمدها إلى حين وفاته باستثناء بعض الاضافات والتعديلات اليسيرة جدا.
ومن المعلوم في بدائه فن التحقيق أن نسخة المؤلف التي ارتضاها في آخر حياته تنسخ جميع النسخ، فلا تكون بعد ذلك قيمة لاية نسخة غيرها.
وعلى هذا الاساس اعتمدت ما توفر لي من الكتاب بخط المؤلف واتخذته أصلا، وما عدا ذلك، فقد اعتمدت نسخة ابن المهندس"وقد اتخذنا هذا المجلد أصلا في المواضع التي لم يتضمنها المجلد الاول من نسخة المولف.
واستعنا بالنسخ الاخرى
(1) كان من عادة المؤلفين في كل العصور إعادة النظر في الكتب التي يؤلفونها، فكانوا يعيدون نشرها كلما تقدم الزمن بهم إذا وجدوا لذلك ضرورة. وقد قام مؤرخ بغداد ابن النجار مثلا بنشر كتابه أكثر من مرة وظل يضيف عليه إلى قريب وفاته. وأعاد الذهبي النظر في كتابه العظيم"تاريخ الاسلام"غير مرة واضطر إلى إعادة نسخ بعض مجلداته وتغيير اعدادها لكثرة ما أضاف من مادة بعد انتهاء تأليف الكتاب لا سيما في المئة الثانية، بل غير عنوان الكتاب بعد الانتهاء من تأليفه حيث كان"تاريخ الاسلام وطبقات المشاهير والاعلام"فجعل كلمة"وفيات"بدلا من"طبقات" (انظر كتابنا: الذهبي: 25 فما بعد ومقدمتنا للقسم الاول من المجلد الثامن عشر الذي حققناه ونشرناه بالقاهرة سنة 1977) .
ولدينا من معجم شيوخ الذهبي الكبير نسختان نقلت الاولى عن نسخة المؤلف المكتوبة سنة 728 هـ وقد تضمنت 1278 ترجمة وظل عدد التراجم ثابتا إلى سنة 738 (أحمد الثالث: 462) ، أما النسخة الثانية، فقد قرئت على المؤلف سنة 745 وهي تمثل آخر نشرة له فقد أشار الذهبي على من سمع عليه الكتاب آنذاك باسقاط جماعة من المكتوبين على حواشي الاصل من أصحاب ابن البخاري فلم يكتبهم الناسخ في هذه النسخة المقروءة عليه، فنقص لاجل ذلك عدد التراجم قرابة المئتين وخمسين ترجمة. (نسخة دار الكتب المِصْرِية، رقم: 65 مسطلح الحديث) .
فمثل هذا الامر يحتاج إلى دراسة لاعتماد الماده التاريخية التي ارتضاها المؤلف، والامثلة على ذلك كثيرة.
تدفعني إلى ذلك جملة دوافع:
1-
إن ابن المهندس من أوائل الذين سمعوا الكتاب على مؤلفه، وأنه ابتدأ بنسخه منذ بدأ المزي يخرج المبيضة المعتمدة. وكان في وقت سماعه رجلا ناضجا عارفا بما يسمع.
2-
كان ابن المهندس من العلماء الفضلاء الفهماء ذوي العلم الرصين، والدين المتين، والضبط والاتقان، شهد له بذلك جهابذة العلماء مثل البرزالي والذهبي وابن حجر وغيرهم.
3-
ان نسخته كانت هي النسخة المعتمدة عند جماهير العلماء منذ عصر المؤلف.
4-
وإنه كان ناسخا محترفا صاحب خط جيد يسير فيه على قواعد الخط المعروفة قلما يخرج عنها.
5-
كان ابن المهندس يضيف ويعدل في نسخته بعض ما أضافه المزي أو عدله في نسخته الاصلية من إضافات أو تعديلات طفيفة حتى بعد الانتهاء من نسخها، وهو أمر نادر عند النساخ طيلة الاعصر، فمن ذلك مثلا أن المزي أضاف ترجمة جديدة إلى كتابه بعد الانتهاء من تبييضه وذلك في العاشر من جمادى الاولى سنة (713) هي ترجمة أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن هانئ أبي بكر الأثرم البغدادي الإسكافي، فنقلها ابن المهندس بورقة ملحقة في نسخته، ولم يكتف بذلك بل قرأها على المؤلف بعد ذلك بأربعة أيام فقط وكتب خطه في نهاية الورقة الملحقة بالسماع ونصه: قرأت هذه الترجمة على مصنفها الشيخ الإمام العالم الحافظ جمال الدين يوسف المزي أبقاه الله وسمعها ابنه محمد في يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وكتب محمد ابن المهندس بدمشق".
6 ولا أبالغ إذا قلت: إن نسخة ابن المهندس لا تقل أهمية عن نسخة المؤلف، بل ربما نجد فيها من الضبط مما لا نجده في نسخة المزي، وهو مما قيده على نسخته عند سماعه الكتاب على شيخه المزي.
ومع ذلك سوف أصف في بداية كل مجلد من مطبوعنا النسخ التي اعتمدتها على وجه الاختصار.
تنظيم النص وأهميته:
وقد نظمت مادة الكتاب بما يفيد فهم النص فهما جيدا، ويظهر النقول والتعقيبات بصورة واضحة، وهي عملية ليست سهلة كما تبدو لاول وهلة، ذلك أن عدم معرفة انتهاء النقل عند عدم التصريح به تتطلب معرفة تامة بموارد الكتاب وطبيعتها، والرجوع إلى نصوصها الاصلية، ولم تكن المخطوطات القديمة تسير على منهج معين في تنظيم نص الكتاب، بل كانت تسردها بصورة متتالية، فيصعب بذلك عندئذ فهم الكتاب والافادة منه على وجه الصحة، لذا قمت بإعادة تنظيم بدء الفقرات، ووضعت النقط والفواصل اللازمة حسب ما تقتضيه المعاني.
ترقيم التراجم:
ووضعت أرقاما مسلسلة للتراجم الاصلية بغية تسهيل الرجوع إليها، والاحالة عليها بيسر، وأدخلت معها ما كتبه المؤلف للتمييز، أو ما ذكره وإن كان من أوهما صاحب "الكمال" ليرد عليه ممن لم يجد لهم المزي رواية عند أحد من أصحاب الكتب الستة، لانها تراجم كاملة. أما الأَسماء التي أوردها المؤلف"إحالة"ليترجم لهم فيما بعد، أو ليشير إلى الموضع الذي ترجم لهم فيه بأسمائهم الكاملة أو الصحيحة، فقد وضعت علامة فارقة تميزها"•"، ولم أنظمها في