المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف) - تيسير البيان لأحكام القرآن - جـ ٢

[ابن نور الدين]

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الطلاق)

- ‌(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة)

- ‌(أحكام الخلع)

- ‌(النَّهي عن مضارَّة المطلقة)

- ‌(النهى عن عَضْل المطلقات)

- ‌(من أحكام الرضاع)

- ‌(عدة المتوفى عنها زوجها)

- ‌(التعريض بخطبة المعتدَّة)

- ‌(طلاق المفوّضة)

- ‌(حكم المطلقة قبل المس وبعد الفرض)

- ‌(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف)

- ‌(عدَّةُ المتوفَّى عنها)

- ‌(متعة المطلقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(صدقة التطوع)

- ‌(تحريم الرِّبا)

- ‌(وجوبُ تركِ التَّعامُل بالرِّبا)

- ‌(المُداينة)

- ‌(الرَّهن)

- ‌سُورَةُ آلَ عِمْرَانَ

- ‌(النَّهي عن اتخاذ الكافرين أولياء)

- ‌(فَرضُ الحجِّ)

- ‌(الشوري)

- ‌سُورَةُ النِّسَاءِ

- ‌(من أحكام اليتامي)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الوصية)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(من أحكام التوبة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الطهارة والصلاة)

- ‌(من أحكام الإمامة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام السَّلام)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام القصاص والديات)

الفصل: ‌(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف)

(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف)

47 -

46 (47 - 46) قوله جل جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238، 239].

وفيها جملتان:

الأولى: أمرنا الله سبحانه بالمحافظة على الصلوات، والمحافظةُ عليها تأديتُها في أوقاتها بأركانها على الدوام.

وخصَّ الوسطى بالذكر والتأكيد لشرفِها، وسماها الله (الوسطى) إما من التوسُّطِ بين الشيئين، أو من الوَسَط الذي هو بمعنى الخِيار (1).

* واختلف الناس في تعيينها:

1 -

فقال عليٌّ، وابنُ عباسٍ، وابن عُمَرَ، وجابرٌ، ومعاذٌ، وطاوسٌ، وعكرمةُ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، والربيعُ بنُ أَنسٍ: هي صلاةُ الفَجْر (2).

(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 298)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 322)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 190).

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 564)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 424)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 299)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 322)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 249)، و "المغني" لابن قدامة (2/ 19)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 191).

ص: 120

وهو اختيارُ مالكٍ والشافعيِّ (1)، واستدلوا بما ورد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فضلِ صلاة الصبحِ (2).

ولأنها تأتي في وقتِ مشقَّةٍ بسبب بردِ الشتاءِ، وطيبِ النومِ في الصيفِ (3)، وفتورِ الأعضاء، فخصَّتْ بالمحافظةِ؛ لأنها معرَّضَةٌ للضَّياع.

ولأنها توسَّطَتْ بين صلاتيَ الليلِ وصَلاتيَ النَّهار، فَتُصَلَّى (4) في سَوادٍ من (5) الليل، وبيَاضٍ من النهارَ.

ولأن الله سبحانه أمرَ فيها بالقُنوتِ، ولا قنوتَ إلا في الصبح.

وقال أبو رجاء: صلى ابنُ عباس بالبصرةِ صلاةَ الغداةِ، فقنتَ قبلَ الركوعِ، ورفعَ يديه، فلما فرغَ قال: هذَّة الصلاةُ الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين (6).

2 -

وقال زيدُ بن ثابت، وأسامةُ بن زيد، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وعائشةُ، وعبدُ الله بنُ عمرَ، وعبدُ الله بنُ شداد: إنها الظهر (7).

(1) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2/ 305)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 428).

(2)

سيأتي تخريج حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا.

(3)

في "ب" زيادة: "والنعاس".

(4)

في "أ": "فيصلي".

(5)

"من" ليست في "ب".

(6)

رواه الطبري في "تفسيره"(2/ 565)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 461).

(7)

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 561)، و "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2/ 309)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 428)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 322)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 249)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 190)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 128).

ص: 121

وبه قال أبو حنيفةَ في رواية عنه (1).

وروي أن زيدَ بن ثابت احتج في ذلك بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجيرِ (2)، فلا يكون وراءَه إلا الصفُّ والصفّانِ، والناسُ في قائِلَتِهم وتِجارَتهم، فأنزل الله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (3)، ولأنها تُفْعَلُ في وسَطِ النهار.

3 -

وقال أيضاً عليُّ بنُ أبي طالب -في أصحَّ الرواياتِ عنه-، وابنُ مسعودٍ، وأبو أيوبَ، وأبيُّ بنُ كعبٍ، وعبد الله بنُ عمرِو بنِ العاص، وأبو هريرةَ، وابنُ عمرَ، وابنُ عباس، وكذا أبو سعيد الخدريُّ، وعائشةُ (4): إنها العصرُ.

وبه قال النخعيُّ، وقتادةُ، والحسنُ، والضحاك، والكلبيُّ، ومقاتلٌ.

وهو اختيارُ أبي حنيفةَ، وأحمدَ، وابنِ المنذر، ومتأخِّري الشافعية (5)؛

(1) كذا نقله النووي في "شرح مسلم"(5/ 129). وفيا شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 176): أنها صلاة العصر.

(2)

الهجيرةُ والهجْرُ والهاجرةُ: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظُّهر، أو من عند زوالها إلى العصر، لأن الناس يستكنون في بيوتهم، كأنهم قد تهاجرواه "القاموس" (مادة: هجر) (ص: 446).

(3)

رواه النسائي في "السنن الكبرى"(356)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(3/ 562 - 563)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 167)، والطبراني في "المعجم الكبير"(4808)، عن زيد بن ثابت، وأسامة بن زيد.

(4)

في "ب" زيادة "أيضاً".

(5)

وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 554)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 428)، و"شرح السنة" للبغوي (2/ 236)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 323)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 248)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 18)، و"الجامع لأحكام القرآن"=

ص: 122

لقوله صلى الله عليه وسلم يومَ الخندق، وقد فاتتهُ صلاةُ العصر:"حَبَسونا عن الصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصرِ، مَلأَ اللهُ قُبورَهم وبُيوتَهُم وأجوافَهُم ناراً"(1).

واحتجوا بأن حفصةَ قرأت: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر)(2).

وبما روى ابنُ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاةُ الوُسْطَى صَلاةُ العَصرِ"(3)، أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، ولأنها تأتي في وقت اشتغال الناس بمعاشِهم وأعمالهم، ولأنها قد توسطت صلاتي ليلٍ، وصلاتَيْ نهارٍ.

= للقرطبي (2/ 1/ 191)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 129).

(1)

رواه البخاري (6033)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء على المشركين، ومسلم (627)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وأبو داود (409)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة العصر، عن علي بن أبي طالب، وهذا لفظ أبي داود.

(2)

قرأت بها حفصة وأم سلمة، كما قرأ بها أُبي، وابن عباس، وعبيد بن عمير، وعبد الله بن رافع. انظر:"تفسير الطبري"(5/ 176)، و "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 272)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 240).

كما قرئ: "حافظوا على الصلاة الوسطى وصلاة العصر"، وقد قرأت بها عائشة، وحفصة، وابن عباس، وعبيد بن عمير. انظر: و"تفسير الطبري"(5/ 205)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 146)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 240). وانظر:"معجم القراءات القرآنية"(1/ 185). وانظر ما سيأتي قريبًا عن عائشة.

(3)

رواه الترمذي (181)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، وقد قيل: إنها الظهر، وابن أبي شيبة في "المصنف"(8626)، وابن حبان في "صحيحه"(1746).

ص: 123

4 -

وقال قَبيصةُ بن ذُؤيب في جماعة: إنها المَغْرِبُ (1)؛ لأنها وَسَطٌ في الطولِ والقِصَر من بينِ الصلاة، ولأنها لا تقصَرُ في السفر، ولأنها تُفعل في وقت واحد، ولم تؤخرْ عن وقتها بحال، ولأنها متوسطة بين صلاتي سِرٍّ وصلاتي جَهْر (2).

وروي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أفضلَ الصلاةِ عندَ الله صلاةُ المَغْرِبِ، لم يَحُطها عن مُسافِرٍ ولا مُقيم، فَتَحَ اللهُ بها صَلاةَ اللَّيْلِ، وخَتَمَ بها صلاةَ النَّهارِ، فَمَنْ صَلَّى المَغْرِبَ، وصَلى بعدَها رَكعَتَيْنِ، بَنَى اللهُ لَهُ قصراً في الجَنةِ، ومَنْ صَلَّى بعدها أَربَعَ رَكَعاتٍ، غَفَرَ اللهُ لهُ ذُنُوبَ عِشْرينَ سَنَةً، أو أَربعينَ سَنَةً"(3).

5 -

وقيل: إنها صلاةُ العشاء، ولعلَّه يستدلّ (4) بما ورد في فضلِ صلاةِ العشاءِ، ولأنها بين صلاتينِ لا تقصَرانِ، ولأنها توسَّطتْ وِتْرينِ، وهو ضعيف (5).

(1) رواه الطبري في "تفسيره"(2/ 564). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 729).

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 564)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 431)، و"شرح السنة" للبغوي (2/ 237)، و "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 324)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 299)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 249)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 156)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 191).

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6449).

(4)

في "أ": "استدل".

(5)

قال البغوي في "شرح السنة"(2/ 237): لم ينقل عن أحد من السلف أنها صلاة العشاء، وذكره بعض المتأخرين.

وقال ابن الجوزي في "زاد المسير"(1/ 249): ذكره علي بن أحمد النيسابوري في "تفسيره".

ص: 124

6 -

وقال سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، والربيعُ بنُ خُثَيْمِ: هي مُبْهمَةٌ كيرُ مُعَيَّنَةٍ (1)؛ كليلةِ القدرِ، وساعةِ الجمعةِ؛ ليحفظوا الكلَّ (2).

ويروى عن ابن عمر أيضاً -رضي الله تعالى عنهما- (3)، واختاره بعضُ المتأخرين (4)، واستدلوا بما رواه مسلمٌ عن البَراءِ بن عازِبٍ قال: نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوُسطى صلاةِ العصرِ)، فقرأناها ما شاء الله تعالى، ثم نسخها الله، فنزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فقال رجل: هي إذاً صلاةُ العصر، فقال البراءُ: أخبرتُكَ كيف نزلَتْ، وكيف نسخَها اللهُ (5).

قالوا: ووجه الدلالةِ أن الله سبحانه نسخَ التعيينَ إلى الإبهام، والجوابُ عن قراءة حفصةَ أنها جاءَتْ تفسيراً لا قرآناً (6)، والقرانُ لا يَثْبُتُ بخبر الواحد، وسيأتي مزيدُ الكلامِ على مثلِ (7) هذا في سورة النساء، وبأنها

= وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 999)، و "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 324)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 21)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 191)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 129).

(1)

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 566)، و"شرح السنة" للبغوي (2/ 237)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 324)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 193).

(2)

انظر الآثار المنقولة في هذا في: "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 729).

(3)

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 566).

(4)

وقد اختاره ابن العربي والقرطبي وقال: قال به غير واحد من العلماء والمتأخرين، وهو الصحيح. انظر:"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 300)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 194).

(5)

رواه مسلم (630)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

(6)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 194).

(7)

"مثل" ليست في "ب".

ص: 125

يروى عنها مضطرباً، فروي:(وصلاة العصر)، كما روي عن عائشة (1)، ويروى (2) بغير واو.

والراجح عندي أنها صلاة العصر؛ لما قدمناه من بيان النبيِّ ونصِّه على أنها صلاة العصر، ولما رواه البَراءُ من أنها كانت معينةً في كتاب الله سبحانه، ثم نُسِخَ تعيينُها، وإخبارُ الصحابي بمثلِ هذا النسخِ مقبولٌ.

وما ذكروه من وَجْهِ الدَّلالَةِ باطلٌ؛ فإن هذا مِمَّا نُسخ لفظُه، وبقيَ حكمُه (3)، ألم تر إلى قولِ القائلِ للبراءِ: فهي إذاً (4) صلاةُ العصر، كيف فهم أن التعيينَ باقٍ لم يَزُلْ، وكيف لم يردَّ عليه البراءُ مقالته، وإنما قال: أخبرتُك كيف نزلَتْ، وكيف نسخها الله.

* وأما قولُه تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فقال البخاري: أي: مطيعين (5)، وخرَّجَ عن زيدِ بنِ أرقم -رضي الله تعالى عنه- قال (6): كنا نتكلمُ في الصلاة، يكلمُ أحدُنا أخاه في حاجته، حتى نزلت هذه الآية:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأُمرنا بالسُّكوتِ (7).

والظاهرُ أن نزول هذه الآية كان بالمدينة (8)؛ لما فيها من ذكر صلاة

(1) رواه مسلم (629)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، عن أبي يونس مولى عائشة.

(2)

في "ب": "وروي".

(3)

انظر: "الاستذكار"(5/ 420)، و"التمهيد" كلاهما لابن عبد البر (4/ 277).

(4)

"إذاً"، ليست في "ب".

(5)

انظر: "صحيح البخاري"(4/ 1648).

(6)

"قال": ليست في "أ".

(7)

رواه البخاري (4260)، كتاب: التفسير، باب:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} .

(8)

سورة البقرة كلها مدنية. انظر: "البرهان في علوم القرآن" للزركشي (1/ 281)،=

ص: 126

الخوف، وصلاةُ الخوف لم تُشْرَعْ إلا بعدَ الخَنْدَقِ.

ويُشْكِلُ عليهِ قولُ الشافعيِّ -رحمه الله تعالى-: تحريم الكلام كان بمكة (1)، وروى حديثَ عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: كنا نسلمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاةِ قبل أن نأتيَ أرضَ الحبشة، ويردُّ علينا وهو في الصلاة، فلما رجعنا من أرض الحبشة، أتيته لأسلمَ عليه، فوجدتُهُ يصلِّي، فسلمتُ عليه فلم يردَّ، فأخذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ، فجلست، حتى إذا قضى صلاتَهُ، أتيتُهُ، فقال:"إن الله يُحْدِثُ منْ أمْرِهِ ما يَشاءُ، وإنَّ مِمَّا أحدَثَ أَلأَ تَتَكَلَّموا في الصَّلاةِ"(2).

قال: المحفوظُ في حديث ابنِ مسعود هذا أن ابنَ مسعودٍ مرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمكةَ، فوجده يصلي في فِناء الكعبة، وأن ابنَ مسعودٍ هاجرَ إلى الحبشةِ، ثم رجعَ إلى مكةَ، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدراً، وأهلُ الحبشةِ لم يقدَموا إلا أيامَ خيبر (3).

والجوابُ عن هذا الإشكال ممكنٌ، وذلك أنه يجوز أن يكون التحريمُ للكلام كان متقدِّماً على نزول الآية، ولم يعلف به (4) ابنُ أَرْقَمَ، واستصحَبَ

= و"الإتقان" للسيوطي (1/ 26).

(1)

انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 359) وما بعدها.

(2)

رواه الإمام الشافعي في "الأم"(1/ 146)، والبخاري (6/ 2735)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} تعليقاً بصيغة الجزم، وأبو داود (924)، كتاب: الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة، والنسائي في "السنن الكبرى"(2243)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(4803)، وابن حبان في "صحيحه"(2243)، والطبراني في "المعجم الكبير"(10123)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 260).

(3)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 148).

(4)

في "ب" زيادة "زيد".

ص: 127

حالةَ حِلِّ الكلام حيث قال: وكان أحدُنا يكلمُ أخاه في حاجته حتى نزلتْ هذه الآيةُ، وقد كانت بعضُ الأحكام تثبُتُ بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم تنزلُ الآية على وفْقِ قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم؛ تأكيداً؛ كما كان فرضُ الوضوء ثابتاً زماناً من دَهْرْ، ثم نزلت الآية تأكيداً (1).

الجملة الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].

* أمرنا الله سبحانه بالمحافظة على الصلوات، ولم يبح تأخيرَها عن وقتها لعذر الخوف على النفس، بل قال:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} أي: مشاة على أقدامكم، ورُكباناً على ظهور دَوابَكُمْ.

وروى نافع عن ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه ذكر صلاة الخوف، فقال: فإنْ كان خوفٌ أشدُّ من ذلك، صَلُّوا رِجالاً قِياماً على أَقْدامِكم، أو رُكْباناً، مُسْتَقْبِلي القبلةِ وغيرَ مستقبليها.

قال نافع: لا أرى عبدَ الله ذكرَ ذلك إلا عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (2).

وأكثرُ العلماء على العملِ بتفسير ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- (3).

وخالف أبو حنيفة فقال: لا يصلِّي الخائفُ إلا إلى القبلة (4)، ولا يصلِّي

(1) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (3/ 315).

(2)

رواه البخاري (4261)، كتاب: التفسير، باب:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا .......} .

(3)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 75، 81)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 163)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 204)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 316).

(4)

قال العيني في الرد على نسبة هذا إلى أبي حنيفة: قال عياض في "الإكمال": لا يجوز ترك استقبال القبلة فيها عند أبي حنيفة، وهذا غلط. انظر:"البناية"(3/ 201).

ونص "الهداية"(1/ 224) واضح في كون شدة الخوف ضرورة لترك الاستقبال،=

ص: 128

في حال المسايَفَة (1)؛ لمخالفة الأصول.

وفي قوله نظر؛ لأن صلاة الخوف إنما جازت مخالفتُها للأصولِ للضرورة، والضرورة موجودةٌ في شدة الخوف، بل أقوى، ولأن الأصول شاهدةٌ بأنه لا يجوزُ تأخيرُ العبادة عن وقتها المعيَّن لها؛ كما فعل في منع الجمع بين الصلاتين.

والحجةُ في بيانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى، فإن كانَ ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- قال ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ظنه نافعٌ، فالحجةُ في قوله ظاهرةٌ، وإن كان من تفسير ابن عمرَ -رضي الله تعالى عنهما-، فتفسير الصحابيِّ مقبولٌ معمولٌ به؛ لأنه أعرَفُ بمواردِ كتابِ الله عز وجل.

* ثم عندي إشكالٌ آخرُ، وهو أن أهل العلم بالحديث والسِّيَرِ اتفقوا، أو أكثرُهم، على أن صلاةَ الخوف إنما فرضَتْ بعدَ الخندق (2)؛ كما سيأتي ذكر ذلك وإيضاحُه -إن شاء الله تعالى- في "سورة النساء".

= قال فيها: فإن اشتدَّ الخوف صلوا ركبانًا فرادى، يومِئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاؤوا إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ، وسقط التوجه للضرورة.

(1)

فإن صلوا حال المقاتلة، بطلت صلاتهم عند الحنفية. انظر:"البناية" للعيني (3/ 119).

(2)

انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 11)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 82)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 130)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 531) وصححه، وقال في (7/ 539): إذا تقرر أن أول ما صليت صلاة الخوف في عسفان، وكانت في عمرة الحديبية وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع وهي بعد عسفان، فتعيَّن تأخرها عن الخندق وعن قريظة وعن الحديبية أيضاً.

ص: 129

وقد ثبت في الحديثِ الصحيحِ المتفق على صحته: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "شَغَلُونا عن الصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصرِ، مَلأَ اللهُ قُبورَهُمْ وبُيوتَهم ناراً"(1)، وهذا يدل دلالةً واضحةً على أن بيانَ (2) الصلاةِ الوسطى معروفٌ عندهم، وهي لم يذكرها في كتابه إلا في هذه الآية، وقد ذكر فيها حكم صلاةِ شدةِ الخوف، فقال:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].

ثم يُقال حينئذٍ: لِمَ أَخَّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصلاةَ يومَ الخندقِ مع بيانِ الله سبحانه لصلاةِ الخوف (3)؟

فإن قيل: إنما بيَنَ اللهُ سبحانه صلاةَ شدةِ الخَوْفِ، ولم يكنْ يومَ الخندقِ إلا مُجَرَّدُ الخوف؟

قلنا: إذا أباح الله سبحانه صلاةَ شدةِ الخوف مع كثرة مخالفتها لصورة الصلاة، فأولى أن يبينَ النبي صلى الله عليه وسلم حكمَ اللهِ سبحانَهُ في صلاة الخَوْفِ؛ لأنه كان يمكِنُهم في الخَنْدَقِ التَّناوُبُ.

فلم يبقَ إلا أن يقال: لعلَّ الصلاةَ الوسطى كانت معروفةً عندهم، وموقعُ شرفها موجود في صدورهم قبلَ نزولِ الآية، ثم أَمَرَهُم اللهُ سبحانَهُ بالمحافظة على ما هو مَعهودٌ عندهم، ومتقرَّر في نفوسِهم من النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ تأكيداً لشأنِها؛ كما أجبنا بمثل هذا في الجمع بين حديثي عبدِ الله بنِ مسعود، وزيدِ بن أَرقَمَ -رضي الله تعالى عنهما-.

أو يقال: لعلَّ قولَه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] نزل عند الخندق، وقوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]

(1) تقدم تخريجه.

(2)

في "ب" زيادة: "شأن".

(3)

إن صلاة الخوف لم تكن قد شرعت يوم الخندق.

ص: 130

قبل الخندق، ونزولُ بعضِ الآية دونَ بعضٍ جائزٌ؛ كما قدمت ذلك (1).

وإن كان أبو عبد الله الشافعيُّ -رحمه الله تعالى- قال: إنه لا يجوز، وبينتُ (2) وَهْمَهُ في ذلك، وأن السنَّةَ دالَّة على خلافه.

والأولُ أقرب الجوابين، والقولُ بكلِّ واحد منهما عسيرٌ.

* ثم امتثلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَمرَ الله سبحانه وتعالى بالمحافظة، وبيَّنَ المحافظةَ على الصَّلاةِ في حالِ الخوفِ على اختلافِ أحواله، وسيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله تعالى.

* ثم ندب صلى الله عليه وسلم إلى تعجيلها، فسئل: أَيُّ الأعمالِ أَفْضَلُ؟ فقالَ: "الصَّلاةُ في أَوَّلِ وَقْتِها"(3).

* ثم أمر الله سبحانه عندَ الأمنِ بعدَ (4) الخوف أن نصليَ كما علمنا، ولو ظفرْنا بالعدو، وأمكنَنا الله سبحانه منه، فلا نغير هيئةَ الصلاةِ لغيرِ ضرورةٍ، والله أعلم.

(1) قلت: هذا الجواب مبني على أن هذه آية واحدة، والواقع أنهما آيتان؛ فـ {حاَفِظوا

قَانِتِينَ} آية (238)، و {فإِنْ خِفْتمْ

تعَلَمُون} نهاية (239)، وإذن لا يرد ما اعترض به المؤلف على الإمام الشافعي.

(2)

في "ب": "وقد".

(3)

رواه البخاري (504)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، ومسلم (85)، كتاب: الإيمان، باب: كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، والحاكم في "المستدرك"(674)، عن عبد الله بن مسعود، وهذا لفظ الحاكم.

(4)

في "ب": "من".

ص: 131