الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام اليتامي)
60 -
(1) قوله جل جلاله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].
أقول:
* لمَّا علم اللهُ جل جلاله ضعفَ اليتامى وعجزَهُمْ عن دفعِ بأس الظالمين لهم، نهى العبادَ عن أخذ أموالهم، وتواعدَ على ذلك بما لم يتواعدْ به على غيره، فجعل آكلَها إنما يأكلُ نارًا، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].
وسماها في هذه الآية (خبيثة)؛ لتنفر القلوبُ عن تناولها؛ استقذارًا لها من (1) خبثها، ولا ينبغي أن يُحمل الطَّيِّبُ والخبيثُ على حقيقتهما؛ إذ لو حمل على ذلك، لكان قد زادهم خيرًا حين أخذ الزيف بالجيد، والمهزولَ بالسمين، ولَكَان معارضًا لقوله تعالى:{إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)[الإسراء: 34].
(1) في "أ": "عن".
(2)
أي: لو حمل الخبيث على حقيقته، والطيب على حقيقته، فيكون مال اليتيم خبيثًا ومال الوصي طيبًا، فإذا بدَّله، فيكون قد أخذ الخبيث الزيف والهزيل له، وترك لليتيم الطيب الجيد السمين، وفي هذا زيادة خيرٍ لليتامى، فكيف ينهى عنه، ثم هو معاملة بالحسنى، فيكون معارضًا لقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، والله أعلم.
والمعنى (1) -والله أعلم-: ولا تتبدلوا الخبيث الحرام، الذي ترونه بزعمكم طيبًا سمينًا، بالطيب الحلال من أموالكم، الذي ترونه بزعمكم رديئًا مهزولًا (2).
* وأمر بإيتائهم أموالهم:
وذلك يقع على حقيقة الإيتاء؛ ببذل مُؤَنِهم، والإنفاقِ عليهم.
ويقع على الإيتاء الذي هو الحِفْظُ مجازًا؛ فإنه إذا حَفِظَ أموالَهم حقَّ حفظِها، فكأنه قد آتاها أربابَها.
ولا يجوز أن يُحمل على حقيقةِ دفعِ جُمْلَةِ المال إليهم؛ فإن الله سبحانه لم يأمرْ به إلا عند بلوغِ النكاح، وإيناسِ الرُّشْد.
نعم يجوز أن يرادَ بهِ حقيقةُ الإيتاءِ والدفعِ، ويكونُ إطلاقُ اليتامى على البالغين مجازًا من باب تسميةِ الشيء بما كان عليه؛ كقوله تعالى:{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} (3)[طه: 70]، وهذا أولى؛ لأنه سبب الآية، في قول الكلبي ومقاتل (4).
* ثم من لُطْفِ الله تعالى بهم (5) أن أباحَ مخالطَتَهم ومبايعتَهم، فقال
(1)"والمعنى" ليست في "ب".
(2)
انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 562)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 341)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 10).
(3)
انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 562)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 79)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 10).
وقال الجصاص في "أحكام القرآن"(2/ 338): أطلق عليهم اسم الأيتام؛ لقرب عهدهم باليتيم.
(4)
انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 136)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 79).
(5)
في "ب": "لطفه بهم تعالى".
سبحانه: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وقال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]، فعلَ اللهُ تعالى ذلك بهم لئلاً يتعطَّلِ تثميرُ أموالهم، وحَفِظَها بالبيع والشراءِ لئلَّا يتحرَّج القُوَّامُ عليها (1)، وجَوَّز للقيِّم أن يأكلَ منها إن كانَ فقيرًا، وأمرَهُ بالاستعفاف إنْ كان غنيًا، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.
* وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} .
قيل: منسوخ (2) بقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (3)[البقرة: 220]، والصحيحُ عدم النسخُ.
ثم قيل (4): إن (إلى) بمعنى (مع)، أي: ولا تأكلوا أموالَهُم مع أموالكم ظلمًا.
وهو مذهبُ نحاة الكوفةِ، وبعض أهل (5) البصرة، قال امرؤ القيسِ يصفُ فرسًا:[البحر الطويل]
لَهُ كَفَلٌ كالدِّعْصِ لَبَّدَهُ النَّدَى
…
إلى حَارِكٍ مِثْلِ الغَبيطِ المُذَأَبِ (6)
ويحتمل عندي ثلاثَ تأويلات أُخَرَ:
(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 403)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 283)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 220)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 60).
(2)
في "ب": "منسوخة".
(3)
وهو قول مجاهد. انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 487)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 11).
(4)
"قيل" ليست في "أ".
(5)
"أهل" ليست في "أ".
(6)
انظر: "ديوانه"(رقم البيت 260).
أحدها: أن يكون بمعنى (إلى): ولا تأكلوا أموالهم مقترضين لها إلى حصول أموالكم؛ فإنه ليس قُرْبا بالتي هي أحسن؛ لفوات تنميتِها وتثميرها.
ثانيها: أن تكون بمعنى (في)؛ فإنه إذا خلطَ (1) بمالِه مُفْسِدًا، كان الجميعُ حرامًا، وشاهد هذا المعنى قولُ النابغة:[البحر الطويل]
فلا تَتْرُكَنِّي بالوَعيدِ كَأَنَّنِي
…
إلى الناسِ مَطْلِيٌّ بهِ القارُ أَجْرَبُ (2)
ثالثها: وهو أرجحُها، أن تكون بمعنى (إلى)، ويكون المعنى: ولا تأكلوا أموالهم ضامِّين لها إلى أموالكم؛ لأنهم إذا أكلوها، فقد ضمُّوها إلى أموالهم التي يأكلونها (3).
* {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} ؛ أي: إثمًا (4)، وقيل: ظلمًا كبيرًا (5).
* * *
61 -
(2) قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء: 3].
روينا في "صحيح البخاري" عن عروةَ بنِ الزبير: أنه سألَ عائشةَ-
(1) في "ب": زيادة "ماله".
(2)
تقدم ذكر البيت وتخريجه.
(3)
انظر معاني "إلى" في الآية في: "تفسير الرازي"(5/ 1/ 177)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 11)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 487)، و ""البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 502).
(4)
وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وغيرهم. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 341)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 11)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 488)، و "تفسير ابن كثير"(2/ 198).
(5)
ورواه الطبري في "تفسيره"(3/ 231) عن قتادة.
رضي الله تعالى عنها -، فقال: يا أُمَّتاه (1)! قولُ اللهِ عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ؛ قالت: يا بنَ أُختي! هذه اليتيمةُ تكونُ في حِجْرِ وليِّها، فيرغبُ في جمالها ومالها، ويريد أن يَنْتَقِصَ صَداقَها، فنُهوا عن نكاحِهِنَّ إلَّا أن يُقْسِطوا لهنَّ في إكْمالِ الصَّداقِ، وأُمروا بنِكاحِ من سِواهُنَّ من النساءِ.
قالتْ عائشةُ: استفتى الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلكَ، فأنزلَ اللهُ عز وجل:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]، فأنزل اللهُ لهم في هذه الآيةَ:
أنَّ (2) اليتيمة إذا كانت ذاتَ مالٍ وجَمال، رغبوا في نِكاحها، وسنتها في الصَّداق (3)، وإذا كانت مرغوبًا عنها في قلة المالِ والجمالِ، تركوها وأخذوا غيرَها. قالتْ: فكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلَّا أن يُقْسطوا لها، ويُعطوها حَقَّها الأوفى من الصَّداق (4).
* ومضمونُ الآيةِ والأَثَر تجويزُ نكاح اليتيمةِ عندَ حصولِ القِسْط.
وقد اختلف أهلُ العلم بالفتوى في نكاحِها (5).
- فجوَّزَه أبو حنيفة مُطْلَقًا (6)، وله من الدليل ما قدمتهُ.
(1) في "ب": "أمّاه".
(2)
في "أ": "أي".
(3)
يعني: إعطاءها حقها من الصداق كاملًا دون نقصان.
(4)
رواه البخاري (4846)، كتاب: النكاح، باب: تزويج اليتيمة.
(5)
أي: تزويجها وهي صغيرة.
(6)
وهو قول علي وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأم سلمة، والحسن وعطاء وطاوس في آخرين. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 59)، و"أحكام=
- ومنعه مالكٌ مطلقًا إلا عند خوفِ الضَّيْعَةِ والفَسادِ.
- ومنعه الشافعيُّ إلا عندَ وجودِ الجدّ (1).
وحَمَلا ظاهر الآية والأثر على البالغة التي أطلق عليها اسم اليتيمة تجوُّزًا؛ بدليل ما روى ابنُ عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: زوجني خالي قدامةُ بن مَظْعونٍ ابنةَ أخيهِ عثمان بن مظعون، فجاء المغيرة بن شعبة إلى أمِّها، فأرغَبها في المالِ، فمالَتْ إليه (2)، وزَهِدَتْ فيَّ، فقالتْ أُمُّها: يا رسول الله! بنتي تكره ذلك (3)، فقال قدامةُ: يا رسولَ الله! أنا عمُّها، ووصيُّ أبيها، وقد زوجتُها من عبد الله بنِ عمرَ، وقد عرفتَ فضلَهُ وقرابته، وما نَقِموا منه إلا أنه لا مالَ له، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنَّها يتيمةٌ، ولا تُنْكَحُ إلا بإذنِها"(4)، وفي رواية:"ولا تُنْكِحُوا اليتامى حتى تَسْتأْمِروهُنَّ، فإن سكتْنَ، فهو إذن (5) "(6)، وموضعُ الدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تنكح إلا بإذنها"، "ولا
= القرآن" للجصاص (2/ 342)، و "المغني" لابن قدامة (9/ 402)، و"رد المحتار" لابن عابدين (4/ 127).
(1)
والقول بمنع تزويجها هو أيضًا قول الحنابلة، وهو قول الجمهور: انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 58)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 14). وانظر:"التفريع" لابن الجلاب (2/ 30)، و"حاشية الدسوقي"(2/ 355)، و "الحاوي" للماوردي (9/ 54)، و"روضة الطالبين" للنووي (7/ 55)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 402).
(2)
"إليه" ليست في "أ".
(3)
قلت: يحتمل أنها لا تحب الزواج من ابن عمر، أو أنها لا تحب عدم استئذانها، أو لا تحب الزواج من فقير لا مال له.
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 130)، والدارقطني في "سننه"(3/ 230)، والبيهقي في "السنن الكبري"(7/ 113).
(5)
في "ب": "إذنهن".
(6)
رواه المحاملي في "أماليه"(348)، والدارقطني في "سننه"(3/ 229)، =
تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن"؛ فإن الصغيرة ليستْ من أهلِ الاستئمار بالاتّفاقِ، والبالغةُ من أهلِ الاستئمار بالاتفاق (1)، والبلوغ هو الفارق بينَ الحدَّين، فيكون السنُّ الذي قبلَ البُلوغِ كحالِ الصِّغَرِ، فحينئذٍ يمتنعُ النكاحُ؛ لفقدان الاستئمار (2).
ويظهر لي قوةُ قول أبي حنيفة؛ لما فيه من حمل اللفظ على حقيقته، والحقيقةُ خيرٌ من المجاز (3).
وأما حديثُ ابنِ عمرَ، فلا دلالةَ فيه، فللحنفيةِ أن يقولوا: الحديثُ وارد في اليتيمةِ الكارهةِ للنكاح، فالحديثُ مختصٌّ بسببه في اليتيمةِ التي من أهلِ الاستئمار، فلا تزوجُ حتى تستأمَرَ، والعبرةُ عندَ قومٍ منهم بخصوصِ السببِ، لا بعموم اللفظ.
وأما إذا لم تكنِ اليتيمةُ من أهل الاستِئْمار، فهي في مَحَلِّ السكوت، فلا يتناولُها الحديثُ الوارد على سببٍ مخصوص، أو لأن الخطابَ ورد عنه صلى الله عليه وسلم على الغالب؛ فإن الغالبَ أنه لا تُنْكَح إلا من قد صارت من أهل الاستئمار، والله أعلم.
فإن قيل: مفهومُ الشرط يقتضي أنه لا يجوز نكاحُهنَّ إلا عندَ وجودِ القسطِ والعدلِ؛ لأن الله سبحانه أمر بنكاح مَنْ سواهُنَّ عند خوفِ الجَوْرِ عليهن.
= والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 121).
(1)
في "أ": "باتفاق".
(2)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (3/ 945)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 402)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 14).
(3)
انظر استدلال الحنفية في: "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 343).
قلت: لا مفهومَ له (1)؛ فإنه لو كان كذلك؛ لما جاز لنا أن ننكحَ ما طابَ لنا من النساء مثنى وثُلاثَ ورُباع عند عدمِ خَوفِ الجَوْرِ، ولا يجوزُ القولُ بذلك، بل ذلك إرشادٌ من الله سبحانه وتعالى للمتَّصفين بذلك إلى ما فيه صلاحُهم من فراقِ اليتيمة والتزوجِ بسواها.
يدلُّ على ذلك ما روينا (2) في "صحيح البخاري" عن عروةَ عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: أن رجلًا كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عَذْقٌ (3)، وكان يُمْسِكُها عليه (4)، ولم يكن لها من نفِسه شيءٌ (5)، فنزلت فيه:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (6).
* وفي الآية والحديث دَلالةٌ من طريق التضمُّن والمفهوم أنَّ للوليِّ إذا أقسط في اليتيمة، أن يُنْكِحَها من نفسه؛ إذ لو كان الأمرُ في ذلك إلى غيره، لما كان لنهيه عمّا هو إلى غيره معنى، وبهذا قال أبو حنيفةَ، والأوزاعيُّ،
(1) قال ابن العربي: فإن دليل خطاب هذه الآية ساقط بإجماع؛ فإن كل من علم أنه يقسط لليتيمة جاز له أن يتزوج سواها، كما يجوز ذلك له إذا خاف ألا يقسط. انظر:"أحكام القرآن"(1/ 405).
(2)
في "ب": "رويناه".
(3)
قال الحافظ ابن حجر: عَذْق -بفتح العين المهملة وسكون المعجمة-: النخلة، وبالكسر: الكباسة والقنو، وهو من النخلة كالعنقود من الكرمة، والمراد هنا الأول. انظر:"فتح الباري"(8/ 239). وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 199).
(4)
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(8/ 239): "وكان يمسكها عليه"؛ أي: لأجله، وفي رواية الكشميهني:"فيمسك بسببه".
(5)
أي: لم يكن راغبًا فيها، ولم يكن يعجبه شيء من أمرها.
(6)
رواه البخاري (4297)، كتاب: التفسير، باب:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} .
والثوريُّ، وأبو ثورٍ، والليثُ (1).
وقال الشافعيُّ: لا يجوزُ أن يزوِّجَها منهُ إلا وليٌّ آخرُ من سلطانٍ أو عَصَبَة (2).
والخلاف بينهم في بيعهِ مال اليتيمِ من نفسِه؛ كما في النكاح، إلا أن أبا حنيفة وافقَ الشافعيَّ (3).
* وأمر الله سبحانه في هذه الآية بنكاح ما طابَ لنا من النساء:
فحمل أهلُ الظاهر الأمرَ في هذا على الوجوب (4).
وحمله جمهورُ أهل العلم على الاستحباب مطلقًا (5).
وذهب بعضُ متأخِّري المالكية إلى تقسيمه إلى: واجبٍ، ومستحبٍّ،
(1) وهو قول الحسن وابن سيرين وربيعة ومالك وإسحاق وابن المنذر، وهو مذهب الحنابلة. انظر:"الهداية" للمرغيناني (2/ 487)، و"التفريع" لابن الجلاب (2/ 32)، و"الحاوي" للماوردي (9/ 128)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 374)، و"الإنصاف" للمرداوي (8/ 96). وانظر:"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 407)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 15).
(2)
انظر: "روضة الطالبين" للنووي (7/ 71).
(3)
شراء ولي اليتيم مال اليتيم لنفسه: قال أبو حنيفة ومالك: بجوازه، ومنعه الشافعي وأحمد. انظر:"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 216)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 13)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 61).
(4)
المراد به قوله تعالى: {فَانكِحُواْ} . انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 440)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (3/ 936)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 341).
(5)
قال ابن قدامة في "المغني"(9/ 340): المشهور في المذهب أنه ليس بواجب إلا أن يخاف أحد على نفسه الوقوع في محظور بتركه، فيلزمه إعفاف نفسه، وهذا قول عامة الفقهاء. وانظر:"الحاوي" للماوردي (9/ 31)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (3/ 936).
ومباحٍ؛ بحسب ما يخشى من العَنَتِ.
* وأحل الله سبحانه أربعًا من النساء (1)، وأما الزيادة فممنوعةٌ؛ لبيانه صلى الله عليه وسلم في غَيْلانَ لَمّا أسلم وتحته عَشْرُ نِسْوَةٍ:"أَمْسِكْ أَرْبَعًا، وفارِقْ سائِرَهُنَّ"(2).
وقال (3) الشيعةُ: يجوز نكاحُ تِسعِ نِسْوَةٍ؛ لأن الواو موضوعةٌ للجمع.
وقد تمسك بهذا الظاهرِ بعضُ أهل الظاهر، فأباحَ ثماني عَشْرةَ (4)، وذلك زيادة على ما خصّ به المصطفى المكرَّم صلى الله عليه وسلم، فلا التفاتَ إليه.
فقيل: لا متمسكَ لهم؛ لأن معنى (مَثْنى مَثْنى): ثنتان ثنتان إلى ما لا نهاية له؛ كما تقولُ: جاء القومُ مَثْنى مَثْنى، إذا جاؤوا اثنين اثنين، وإن كانوا ألفًا، وكذا معنى (ثُلاثَ ورُباع)، فهذا اللفظ موضوعٌ لتفريق الأعداد، فوقفهم على هذا العدد تَحَكُّم يُخالِفُ لسانَ العرب.
وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ فإن ذلك ليس من خصائص هذا اللفظِ، بل لو قال: ادخلوا واحدًا واحدًا، لفُهم منه التفريقُ أيضًا، وليس هذا المثالُ محلَّ النزاع؛ لخلوِّه عن (5) الواو، وإنما مثاله لو قال: خُذْ من الدراهم ثلاثَ
(1) وهذا بالإجماع من الصحابة والتابعين إلا ما يحكى عن القاسم بن إبراهيم أنه أباح تسعًا. انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 441)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (3/ 1003)، و "المغني" لابن قدامة (9/ 471)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 17).
(2)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(1/ 274)، وابن حبان في "صحيحه"(4157)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 181)، وابن عبد البر في "التمهيد"(12/ 55 - 54)، عن عبد الله بن عمر، بهذا اللفظ.
(3)
في "ب": "وقالت".
(4)
ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(3/ 1/ 17).
(5)
في "ب": "من".
وثلاثَ، وهذا مما يجوز حملُه على الجمع، وليس موضوعًا للتفريق.
والذي أراه مَخْلَصًا (1) من شُبْهَتهم: أنَّ (مثنى وثلاث ورباع) أحوالٌ من قوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2)[النساء: 3]، والحال لا يتعدَّدُ مع واوِ العطف الموضوعةِ للجمع، وإنما يتعدد بدونها، ومتى دخلت الواو على الأحوال المتعددة، كان من باب النعت؛ كقوله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا} (3)[آل عمران: 39] والنعت غير متصوَّرٍ هاهنا، فتعين حينئذ مجيءُ الواو للتخيير (4)؛ كقولِ
(1) في "ب": "ملخصًا".
(2)
وأعربها أحوالًا كلٌّ من الزمخشري والبيضاوي والقرطبي. انظر: "الكشاف"(2/ 15)، و"تفسير البيضاوي"(1/ 331)، و"الجامع لأحكام القرآن"(3/ 1/ 16).
(3)
قال الأزهري في "التصريح على التوضيح"(1/ 385): وليس منه -أي: من تعدد الحال المفرد- نحو: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} ؛ لأن من شرط التعدد عدم الاقتران بالعاطف عند الموضِّح -يعني: ابن هشام.
(4)
ذكر ابن هشام في "مغني اللبيب"(ص: 857 - 859) في توجيه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ، كلامًا حقُّه أن يثبت هنا، قال رحمه الله: قولهم في نحو قوله تعالى: {فَانكِحُوا
…
مَثنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}: إن الواو نائبة عن "أو"، ولا يعرف ذلك في اللغة، وإنما يقوله ضعاف المعربين والمفسرين، وأما الآية، فقال أبو طاهر حمزة بن الحسين الأصفهاني في كتابه المسمى بـ "الرسالة المعربة عن شرف الإعراب" القول فيها بأن الواو بمعنى "أو"، عجز عن درك الحق، فاعلموا أن الأعداد التي تجمع قسمان: قسم يؤتى به ليضم بعضه بعضًا
…
، وقسم يؤتى به لا ليضم بعضه إلى بعض، وإنما يراد به الانفراد لا الاجتماع، وهو الأعداد المعدولة؛ كهذه الآية، وآية سورة فاطر -يعني قوله تعالى:{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ، وقال: أي: منهم جماعة ذوو جناحين، وجماعة ذوو ثلاثة ثلاثة، وجماعة ذوو أربعة أربعة، فكل جنس مفرد يعدد. وقال الشاعر: =
الشاعر (1): [من الطويل]
وقالوا نأَتْ فاخْتَرْ بها الصبر والبُكا
أو للتقسيم كقولك: الكلمةُ اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ، وكقول الشاعر (2):[من الطويل]
كما الناسُ مَجْرومٌ عليه وجارِمُ
= ولكنَّما أهلي بوادٍ أنيسه
…
ذناب تبغي الناسَ مثنى ومَوحَدُ
ولم يقولوا: ثلاث وخماس، ويريدون ثمانية.
ثم قال: قال الزمخشري: فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت: الخطاب للجميع، فوجب التكرير، ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراده من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون أو؛ قلت: كما جاء بها في المثال المذكور، ولو جئت فيه بأو لأعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة. وليس لهم أن يجمعوا بينها. فيجعلوا بعض القسمة على تثنية، وبعضها على تثليث، وبعضها على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو، وتحريره: أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤوا متفقين فيها، محظورًا عليهم ما وراء ذلك، انتهى.
وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 408)، و"تفسير الرازي"(5/ 1/ 180)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 81)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 346)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 16)، و"تفسير ابن كثير"(2/ 199)، و "التحرير والتنوير" لابن عاشور (4/ 17).
(1)
هو كثير عزة، وقد تقدم.
(2)
هو عمرو بن الرّاقة، وصدر البيت:
وننصر مولانا ونعلم أنه
* إذا تَمَّ هذا، فالخطابُ عامٌّ في الأحرارِ والعبيد، وقد قدمتُ اندراجَ العبيدِ في خطاب الأحرارِ في قولِ أكثرِ أهل العلم. وعارضَ العمومَ قياسُ تشطيرِ العددِ على تشطير الحَدِّ.
وبالعموم أخذَ مالكٌ، وأبو ثورٍ، وأهلُ الظاهر (1).
وذهب الشافعيُّ وأبو حنيفةَ، وأحمدُ، وإسحاقُ، والليثُ، ومالكٌ -في روايةِ ابنِ وَهْبٍ-، وجمهورُ أهلِ العلم إلى تخصيص هذا العمومِ، فلم يجوِّزوا للعبدِ إلا اثنتين، وهو قول عُمر، وعليٍّ، وعبدِ الرحمن بنِ عوفٍ (2).
* ثم بيَّن الله سبحانه أن الاقتصارَ على واحدة، أو على ملكِ اليمين أولى وأفضل؛ لخلوِّه من الجَوْر، فقال:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} ؛ أي: لا تَميلوا ولا تَجوروا، قاله مجاهد وغيرُه (3)، وهو المعروف في اللغة، قال
(1) وهو قول جماعة من التابعين، وهو المعتمد عند المالكية. انظر:"المحلى" لابن حزم (9/ 441)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 307)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 473)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 21)، و"حاشية الدسوقي"(2/ 399)، و" التحرير والتنوير" لابن عاشور (4/ 18).
(2)
ولم يكن في هذا خلاف بين الصحابة، كما قاله ابن عبد البر، وهو قول أكثر الفقهاء.
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 308)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 409)، و"تفسير الرازي"(5/ 1/ 181)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 347)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 21)، وانظر:"رد المحتار" لابن عابدين (4/ 106)، و "روضة الطالبين" للنووي (7/ 122)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 472).
(3)
وهو قول ابن عباس والحسن وأبي رزين والشعبي وعكرمة وقتادة وغيرهم.
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 410)، و"تفسير الرازي"(5/ 1/ 184)، =
أبو طالبٍ: [البحر الطويل]
بميزانِ صِدْقٍ ما يعولُ شعيرةً
…
ووزَّانِ صدقٍ وَزْنُه غيرُ عائِلِ (1)
وقال آخر: [البحر البسيط]
إنا تَبِعْنا رسولَ الله واطَّرَحوا
…
قولَ الرسولِ وعالُوا في المَوازينِ (2)
ولا شك أن العدلَ بين الأزواجِ واجبٌ بالإجماع (3)، وتفاصيلُه مذكورةٌ في كتب الفقه.
= و "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 82)، و "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 349)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 19).
(1)
روى ابن جرير الطبري في "تفسيره"(4/ 2239 - 240) عن عكرمة في قوله: {أَلَّا تَعُولُوا} قال: ألا تميلوا، ثم قال: أما سمعت قول أبي طالب: بميزان قسط وزنه غير عائل ثم رواه ابن جرير من وجه آخر عن عكرمة: وقال: وأنشد بيتًا من شعر زعم أن أبا طالب قاله:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة
…
ووزان صدق وزنه غير عائل
ثم قال ابن جرير: ويروى هذا البيت على غير هذه الرواية:
بميزان صدق لا يغل شعيرة
…
له شاهد من نفسه غير عائل
كما روى البيت ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 860). وانظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 450)، وفيه نسبته للرياشي، و"لسان العرب"(11/ 489).
(2)
قال السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 430): أخرج الطستي في "مسائله" عن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} قال: أجدر ألّا تميلوا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
إنّا تبعنا رسول الله واطَّرحوا
…
قول النبي وعالوا في الموازين
(3)
قال ابن قدامة في "المغني"(1/ 235): ولا نعلم بمِن أهل العلم في وجوب التسوية بين الزوجات في القَسْم خلافًا.
وقال ابن رشد في "بداية المجتهد"(3/ 1031): اتفقوا على أن من حقوق الزوجات العدل بينهن في القَسْم.
وقال الشافعي: أي لا يكثر عيالُكم (1). ونُسِبَ إلى الشذوذ (2)، أو خَرْقِ اللغة (3).
وليس كما قيل.
أما الشذوذُ: فقد أسنده (4) الدَّارقُطْنِيُّ في "سننه" عن زيد بن أسلم (5)، ويروى عن جابر بن زيد (6).
وأما اللغة: فلقوله وجهٌ في اللغة، يقال: عالَ عِيالَهُ يعولُهم، أي: قاتَهُمْ وأنفقَ عليهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعولُ"(7).
قال الكُميتُ:
(1) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 466).
(2)
نقله القرطبي عن الثعلبي. قال: قال الثعلبي: وما قال هذا غيره. انظر "الجامع لأحكام القرآن"(3/ 1/ 20). وانظر: "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 350).
(3)
نُقل هذا القدح عن الزجاج وغيره. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 411)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 82)، و "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 350)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 494).
(4)
أي: أسند القول بأن {تَعُولُوا} ؛ معناه: تكثير عيالكم عن غير الشافعي.
(5)
رواه الدارقطني في "سننه"(3/ 314)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 466)، عن زيد بن أسلم في قوله عز وجل:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} قال: ذلك أدنى ألّا يكثر من تعولونه.
(6)
انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 82)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 493)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 20).
(7)
قال ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير"(1/ 314): لم أره كذا مجموعًا في رواية، بل في مسلم من حديث جابر:"ابدأ بنفسك"، وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة:"وابدأ بمن تعول" ا. هـ. وكذا ذكر ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/ 184).
كما خامَرَتْ في حِصْنِها أُمُّ عامرٍ
…
لدى الحَبْلِ حتى عالَ أوسٌ عيالَها (1)
يقول: إن الضَّبُعَ إذا صادَها الصائدُ ذو الحَبْلِ المتعلقِ بعُرْقوبها (2)، ولها وَلَدٌ من الذئبِ، لم يزلِ الذئبُ بطعمُ ولدها إلى أن يكبر.
فتأويلُ الشافعىِّ من باب التعبير عن الشيء بسببه، فإنَّ من كثرَ عيالُه، كثر عَوْلُهُ، أي: نفقته.
وقد حكى هذه اللغةَ الكسائيُّ، وابنُ الأعرابى، وأبو عمرو الدُّوريُّ.
قال الكسائي: العربُ تقول: عالَ يعولُ، وأَعال يعيلُ، أي: كثر عيالُه.
وسئل الدوريُّ عن هذا، فقال: هو لغةُ حِمْيَرٍ، وأنشدَ:[البحر الوافر]
وإن الموتَ يأخُذُ كُلَّ حَيٍّ
…
بلا شَكٍّ وإنْ أمشى وعالا
أي: وإن كثرتْ ماشيتُه وعيالُهُ (3).
فإن قيل: سياقُ الخطابِ يمنعُ من هذا، أو يدلُّ على أن المرادَ الجَوْرُ؛ بدليل قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} .
قلت: فللشافعيِّ أن يقول: فإن خفتم ألا تعدلوا في اكتسابكم، أو في ولايتِكُم أمرَ الأيتام إن وَلِيتُموهم.
(1) انظر "ديوانه": (بيت: 560)، (ص: 383).
(2)
العرقوب: عصبٌ غليظ فوق عقب الإنسان.
(3)
انظر أقاويل أهل اللغة التي ذكرها المؤلف وأقاويل غيرهم في معنى العول في الآية وفي اللغة: "تفسير الطبري"(4/ 239)، و "غريب الحديث" للخطابي (2/ 138)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 321)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 21)، و"لسان العرب"(11/ 489)، و "القاموس"(1340)، مادة (عال).
فإن قيل: فقوله يبطُلُ بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، فإن التَّسَرِّيَ (1) غير محصورِ فإنه إذا تسرى ما أبيح له، كان أكثر عَوْلًا.
قلت: ليس الأمر كذلك؛ فإن الإماء أموالٌ يُسْتَغنى عنهنَّ، فإنهنَّ متى شاء يبيعُهُنَّ، واستمتاعُه بهنَّ رِبْحٌ؛ إذْ لا مُهورَ لهنَّ، ولا إخدامَ.
وهذا قلتُه على سبيل الردِّ لمن نسبَ إمامَ الأئمة إلى الشذوذِ وخَرْقِ اللغةِ، وهو أعرفُ بها وبمَقاصدِها، وأعلمُ بوجوه التأويل، ولا يُظَنُّ بأبي عبد الله أنه يَجْزم أنَّ ما ذَكَرَهُ مُرادُ الله -سبحانه- فقط، بل ذَكَرَه على وجه التأويل؛ لاحتمال اللفظ له، ولم يزل العلماء يبدون من التأويلات التي يحتملُها الخِطاب في المآل بضربٍ من النظرِ والاستدلال ما لا تُحصى كثرتُه على تعاقُب الدهور والأعصار، ولا حَجْرَ إلا في التفسير المنصوص الذي بيَّنَ الشارعُ صلى الله عليه وسلم مرادَ اللهِ جل جلاله (2).
ولا شكَّ أَنَّ قولَ الجَماعةِ أرجَحُ من قولِ الشافعيِّ، ورُجحانُ غيرِه لا يمنعُ من ذكره (3).
* ثم أمرَ (4) اللهُ سبحانه بإيتاءَ النساءِ صَدُقاتِهِنَّ.
(1) السُرِّيّه: هي الأمة التي بوَّأتها بيتًا، وهي منسوبة إلى السرّ وهو الإخفاء؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يُسرّها ويسترُها عن حُرَّته، وقال الأخفش: هي مشتقة من السرور لأنه يُسرُّ بها.
"أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 294).
(2)
وانظر دفاع كلِّ من الرازي وابن عطية والقرطبي عن قول الإمام الشافعي في: "تفسير الرازي"(5/ 1/ 185)، و"المحرر الوجيز"(3/ 494)، و "الجامع لأحكام القرآن"(3/ 1/ 25).
(3)
انظر: "تفسير الرازي"(5/ 1/ 185).
(4)
في "ب": "أمرنا".
فقيل بتخصيص الخطابِ للأزواج، وهو الظاهرُ؛ لسياقِ الخطاب معهم (1).
وانتصبَ (نِحلَةً) على المصدر؛ لأن النَّحْل في معنى الإيتاء (2)، أي: عَطِيَّةً من الله سبحانه.
ويظهرُ لي انتصابُه على التمييز لنسبة الإيتاء؛ فإن النِّحْلَةَ: العطاءُ بغيرِ عِوَضٍ عن طيبِ نفسٍ من غيرِ مطالبةٍ، فالزوجُ مأمورٌ بإيتاءِ الصَّداقِ عن طيبِ نَفْسٍ، ومن غيرِ مطالَبةٍ، فإذا فعلَ ذلك، فكأنه أَنْحَلَها إيّاه، وأما ما يؤخذ بالخِصام، فلا يقال له: نِحْلة.
ويحتمل انتصابُه على المفعول لأجله، فالنِّحْلَةُ: الدِّيانَةُ، أي: تديُّنًا؛ لأجل الدِّينِ.
ويحتمل انتصابه على هذا التأويل على التمييز (3)، ولهذا قال ابنُ عباس وغيرُه -رضي الله تعالى عنهم- في قوله: نِحْلَةً: فريضةً (4).
(1) وهو قول ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد، وبه قال الجمهور.
انظر: "تفسير الرازي"(5/ 1/ 187)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 82)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 22).
(2)
في "أ": "الإتيان".
(3)
ذكر الزمخشري لـ "نحلة" عدة وجوه من الإعراب:
الأول: النصب على المصدر؛ كأنه قيل: انحلوا النساء صدقاتهن نحلة.
الثاني: النصب على الحال من المخاطبين؛ أي: آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو: من الصدقات؛ أي: منحولة معطاة عن طيبة النفس.
الثالث: مفعول لأجله؛ أي: آتوهن مهورهن ديانةً.
انظر: "الكشاف"(2/ 17)، وانظر:"تفسير البيضاوي"(1/ 232).
(4)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(4/ 241)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 861)، عن قتادة وابن جريج أنهما قالا:"فريضة"، وانفرد ابن جرير =
وقيل: إن الخطابَ مختصٌّ بالأولياء (1)؛ لأن العربَ كانتْ لا تعطي النساءَ من المهورِ شيئًا إن كان الزوجُ من القبيلة، وإن كان غريبًا حملوها على بعيرٍ فقط، حتى يُمدَحَ كِرامُهم بتركِ الأخذِ، فقال:[من بحر الرجز]
لا يأخذُ الحُلْوانَ من بَناتِنا (2)
والأمرُ يقتضي الوجوبَ على كل من التقديرات، فلا يجوزُ المواطأة على تركِه (3).
* ثم أباحَ اللهُ لنا ما طابتْ عنهُ نفوسهُنَّ، وجعلَهُ هنيئًا مريئًا، فقال:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].
قال عليٌّ -رضي الله تعالى عنه-: إذا اشتكى أحدُكم، فليسألِ امرأتَهُ ثلاثةَ دراهِمَ منْ صَداقِها، ثم لْيَشْتَرِ بها عَسَلًا، فيشربُه بماءِ السماءِ، فيجعلُه الله هنيئًا مريئًا وشفاءً مباركًا (4).
= بالرواية عن عبد الرحمن بن زيد أسلم في قوله: "فريضة" كما انفرد ابن أبي حاتم بالرواية عن عائشة ومقاتل أنهما قالا: "فريضة"، وقد رويا عن ابن عباس في "تفسيريهما" أنه قال: يعني بالنحلة: المهر.
(1)
وهو قول أبي صالح. واختاره ابن قتيبة والفراء. انظر: "تفسير الطبري"(3/ 241)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 82)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 494)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 22).
(2)
قال أبو عبيد: ويطلق الحلوان على من أخذ مهر ابنته لنفسه، قال: وهذا عار عند العرب، قالت امرأة تمدح زوجها:
لا يأخذ الحلوان من بناتنا
انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 53).
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 67)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (3/ 965)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 22).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(23687)، عن علي بن أبي طالب، وفيه: =
ثم قال شريحٌ القاضي فيما رويَ عنه: إن المرأة إذا وهبتْ صداقَها لزوجها، ثم رجعتْ، أنه لا يحلُّ للزوج أن يأكلَهُ، وينفذُ رجوعُها؛ لأنها لم تطبْ به نفسًا (1).
وخالفه عامةُ أهلِ العلم (2).
* * *
62 -
(3) قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5].
* أرشد الله سبحانه ذوي الكمال من عباده إلى ما تقوم به مصالحُهم، فنهاهم عن إيتاءِ أموالِهِمُ السفهاءَ؛ من النساءِ والصِّبيانِ والبالغينَ المُفْسدين (3)؛ تحذيرًا لهم من الاسترسالِ معهم، وتركِ الحَزم منهم، مع كَثْرِ مُلابستهم، وشدَّةِ الميل إليهم.
وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].
* وأوجب الله سبحانه عليهم رزقَهُم وكِسْوَتَهم، فأمرهم بذلك أمرًا
= "
…
فيجمع الله الهنيء المريء، والماء المبارك والشفاء" بدل "
…
فيجعله الله هنيئًا
…
".
(1)
وروي مثله عن عمر وعبد الملك بن مروان. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 415)، و"تفسير الرازي"(5/ 1/ 190)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 23)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 514).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 145)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 23).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 416)، و"تفسير الرازي"(5/ 1/ 191)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 354)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 26).
مُجْمَلًا غيرَ مبيَّن الوقتِ والمقدار، فالواجبُ ما يقتضيه حالُ الرجل، ويَخْتلفُ ذلك بحسبِ اختلاف الأزمنةِ والأمكنةِ والأحوال؛ كقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].
* وقد اتفق أهل العلم على عدم تحديدِ الكِسْوَةِ.
* وأما النفقةُ، فاختلفوا في تحديدها:
فذهب مالكٌ وأبو حنيفة إلى تركِ التقديرِ كما هو ظاهرُ الكتاب (1).
وذهب الشافعيُّ إلى تقدير النفقة اعتبارًا بالكَفّارة في اليمين (2)؛ حيث قَدَّرَ فيها الإطعام، ولم يقدرِ الكِسوةَ.
وقد قدمتُ (3) كيفية هذا الاعتبار في مقدمةِ هذا الكتاب، والمختارُ عندي تركُ التقديرِ، والرجوعُ فيه إلى العرف والعادة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لهِنْد بنتِ عُتْبَةَ:"خُذِي ما يَكْفِيك ووَلَدَكِ بالمَعْروفِ"(4)، فَحَكَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أمرها المعروف، وذلك يختلفُ باختلافِ الأحوال والأماكن والأزمان (5).
(1) وهو قول أكثر العلماء منهم الحنابلة. انظر: "الهداية" للمرغيناني (2/ 643)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 565)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (3/ 1028)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 349)، و"التفريع" لابن الجلاب (2/ 111)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 510).
(2)
انظر: "شرح مسلم"(12/ 7). قال النووي: مذهب أصحابنا: أن نفقة القريب مقدرة بالكفاية، كما هو ظاهر هذا الحديث -يعني حديث:"خذي ما يكفيك"، ونفقة الزوجة مقدرة بالأمداد؛ على الموسر كل يوم مدان، وعلى المعسر مد، وعلى المتوسط مد ونصف. وانظر:"روضة الطالبين" له (9/ 40، 85).
(3)
في "ب": "بينت".
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
واختاره النووي، فقال: وهذا الحديث يرد على أصحابنا. انظر: "شرح مسلم"(12/ 7).
* ثم نَدَبهم إلى حسنِ الخُلُق معهم، وطيبِ المعاشرة لهم، فقال:{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} أي: عِدَةَ واعتذارًا (1).
* * *
63 -
الابتلاء: الاختبارُ، مُقْتَصٌّ من قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، ومن قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124].
فأمر اللهُ سبحانه بابتلاء اليتامى؛ ليُعْلَم رُشْدُهُم، والأمرُ للوجوب، ومحلُّه قبلَ البلوغِ عند المالكية (2)، وهو الصحيحُ عند الشافعية (3)؛ للآية.
(1) انظر زيادة معانٍ أخرى للقول المعروف في: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 416)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 567)، و"تفسير الرازي"(5/ 1/ 194)، و"أحكام القرآن" للجصاص" (2/ 355)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 31).
(2)
حكي القرافي في "الذخيرة"(8/ 230) قولين للمالكية، قبل البلوغ وبعده.
ويفهم من "حاشية الدسوقي"(3/ 457): أن الاختبار يكون بعد البلوغ.
أما الحنفية: فيكون ذلك قبل البلوغ، كما في "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 175).
وعند الحنابلة: قولان، المعتمد قبل البلوغ، كما في "الإنصاف" للمرداوي (5/ 323).
(3)
انظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 181).
وقد ذكروا في كتبهم كيفيتَهُ وتفصيلَه (1).
* وجعل اللهُ سبحانه في هذه الآية ميقاتَ دفعِ أموالهم إليهم بلوغَ النكاح مع إيناسِ الرشد، وجعلَه في آية أخرى بلوغَ الأَشُدِّ، فقال سبحانه:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، وفي قوله تعالى:{بَلَغُواْ النِّكَاحَ} حذفٌ وإضمارٌ، تقديره: حالَ النكاح، وذلك مُجْمَلٌ يؤخذُ بيانُه من قوله سبحانَه في موضع آخر:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، وقال سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34]؛ أي: قُوَّتهُ.
* وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقتَ الأَشُدِّ الذي لم يفهم من لفظه: أن المراد به أدنى درجاته أو أقصاها: أنه خَمْسَ عَشْرَةَ سنةً.
روينا في "الصحيحين" عن ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- قال: عُرِضْتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم عامَ بَدْرٍ، وأنا ابنُ ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً، فردَّني، وعرضتُ عليه عامَ أُحُدٍ، وأنا ابن أَرْبَعَ عَشْرَةَ سنةً، فردَّني، وعرضتُ عليه عامَ الخندق، وأنا ابنُ خَمْس عَشْرَةَ سنةً، فأجازني في المُقَاتِلَة (2).
(1) يختلف الاختبار باختلاف طبقات الناس؛ فولد التاجر يختبر في البيع والشراء والمماكسة فيهما، فإن تكرر منه ولم يغبن ولم يضيع ماله فهو رشيد. وولد الزارع في أمر المزارعة، والمحترف فيما يتعلق بحرفته، وأولاد الكبراء تدفع إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه، فإن كان قيمًا بذلك يصرفها في مواقعها فهو رشيد.
وأما المرأة فتختبر في أمر القطن والغزل وصون الأطعمة وحفظ الأقمشة وشبهها من مصالح البيت، فإن وجدت ضابطة لما في يديها فهي رشيدة.
انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 608)، و"الذخيرة" للقرافي (8/ 230)، و"روضة الطالبين" للنووي (4/ 181)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 31).
(2)
رواه البخاري (2521)، كتاب: الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، =
ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه جعلَ هذا حدًّا لَمَّا بلغَهُ هذا الحديثُ (1).
وبيانُ الدليلِ منه أنه لا يُعْرَضُ للقتال في ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً، وأَرْبَعَ عَشْرَةَ سنةً، إلا من فيه قدرة على القتال، ولَمَا ردَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحال، وأجازه وهو ابنُ خمسَ عَشْرَةَ سنةً، دلَّ أن العبرة بِالسِّنِّ المذكورةِ، ولو كان - العبرةُ بغير السن، لنقله ابنُ عمرَ صاحبُ القصة.
وبهذا البيانِ أخذَ الشافعيُّ، وأحمدُ، وصاحبا أبي حنيفة، وبعضُ أصحابِ مالك (2).
وقال أبو حنيفة: هو ابن سَبْعَ عَشْرَةَ سنةً، وروي عنه: ثماني عشرة سنة (3)، وهو تفسيرُ أهل اللغة.
= ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، بيان سن البلوغ، عن ابن عمر، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزه، ثم عرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة، فأجازني. قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز، وهو خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا الحد بين الصغير والكبير، وكتب إلى عماله: أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة.
(1)
انظره في تخريج الحديث الذي قبله.
(2)
انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 177)، و"الذخيرة" للقرافي (8/ 237)، و"روضة الطالبين" للنووي (4/ 178)، و "المغني" لابن قدامة (6/ 598)، وانظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 32).
(3)
الذي في كتب الحنفية: أن الغلام يبلغ بثمانية عشر سنة، والجارية سبعة عشر، وفي رواية عنه في الغلام: تسعة عشر. انظر: "الهداية" للمرغيناني (3/ 1351)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 177)، و"رد المحتار" لابن عابدين (9/ 185).
* وقد ذكر الكاساني في "بدائع الصنائع"(6/ 178) دليل أبي حنيفة في تحديده السن بثمانية عشر سنة فقال: لأبي حنيفة: أن الشرع لما علق الحكم والخطاب بالاحتلام بالدلائل التي ذكرناها، فيجب بناء الحكم عليه، ولا يرتفع الحكم عنه =
وقال مالكٌ: هو أن يَغْلُظَ صوتُهُ، وتَنْشَقَّ أَرْنَبَتُهُ (1).
وقال أهلُ الظاهرِ: ليس لسنٍّ حدٌّ في البلوغ، فلا يبلغُ حتى يحتلمَ، ولو بلغَ أربعين سنةً (2).
واختلفوا في نباتِ العانةِ:
فقال الشافعيُّ في أحدِ القولين: هو دلالة على البلوغ، وهو الصحيحُ عند أصحابه، وبه قالَ أحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ، وروي عن مالك (3).
= ما لم يتيقن بعدمه، ويقع اليأس عن وجوده، وإنما يقع اليأس بهذه المدة؛ لأن الاحتلام إلى هذه المدة متصور في الجملة، فلا يجوز إزالة الحكم الثابت عنه مع الاحتمال، على هذا أصول الشرع، فكذلك هنا ما دام الاحتلام يرجى يجب الانتظار، ولا يأس بعد مدة خمس عشرة إلى هذه المدة، بل هو مرجو، فلا يقطع الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع رجاء وجوده، بخلاف ما بعد هذه المدة، فإنه لا يحتمل وجوده بعدها فلا يجوز اعتباره في زمان اليأس عن وجوده.
(1)
الأرنبة: طرفُ الأنف. "القاموس"(مادة: رنب)(ص: 86).
نقل المصنف هذا عن القرطبي، لكن هذا أحد أقوال مالك في ذلك، فقد قال القرطبي: وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم وذلك سبع عشرة سنة، وقال مالك مرة: بلوغه بأن يغلظ صوته وتنشق أرنبته. انظر: "الجامع"(3/ 1/ 33).
وفي مذهب المالكية في السن الذي إذا وصله الصبي عدَّ بالغًا، خمسة أقوال:
1 -
ثمانية عشر، وهو المعتمد المشهور، 2 - سبع عشرة، 3 - ست عشرة، 4 - تسع عشرة، 5 - خمس عشرة. انظر:"حاشية الدسوقي"(3/ 451)، و"منح الجليل" لعليش (6/ 87).
(2)
نقله المصنف رحمه الله عن القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(3/ 1/ 33) الذي نقله عن داود الظاهري. إلا أن ابن حزم في "المحلى"(1/ 88) ذكر أنه إذا لم توجد علامات البلوغ، كالاحتلام أو الحيض، فإنه يحكم عليه بالبلوغ باستكمال التسعة عشر عامًا.
(3)
انظر: "البيان" للعمراني (6/ 221)، و"المغني" لابن قدامة (6/ 597)، =
وقال في القول الثاني: هو نفسُ البلوغ، وبه قالَ مالكٌ (1).
ويظهر لي قُوَّتُه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لسعدِ بنِ مُعاب -رضي الله تعالى عنه-: "لقد قضيتَ بحكم الله"؛ حيثُ قضى في بني قريظة بقتل مقاتلتهم، وسبيِ ذراريهم (2)، مع رواية عطية القرظي قال: عُرِضْنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان مِنّا مُحْتَلِمًا، أو نَبَتَتْ عانتُه، قُتل (3).
ففرق سعا بين الذرارِيِّ والمقاتِلة، وبيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بفعلهِ أنَّ من نبتَتْ عانتُه من المقاتِلة، لا من الذراري، وأنه حكمُ الله، ولو لم يكنْ بالغًا لما قتله.
= و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 33).
وفي "الذخيرة" للقرافي (8/ 237): "أن البلوغ بالاحتلام أو الإنبات".
مما يدلُّ على أن البلوغ يحصل بالإنبات لا أنه يدل على البلوغ، وفي "مختصر خليل":"والصبي ببلوغه بثمان عشرة أو الحلم أو الحيض أو الحمل أو الإنبات". مما يدل على أن البلوغ يحصل بالإنبات أيضًا.
لكن الدردير في شرحه له والدسوقي في حاشيته قررا أن تلك علامات البلوغ وليست هي البلوغ نفسه، إلا أن نقول: العلامة معناها: إذا وجدت فقد بلغ الغلام. انظر: "حاشية الدسوقي"(3/ 451)، و"مواهب الجليل" للحطاب (6/ 634). وانظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 33).
(1)
الأظهر من قولي الشافعي: أن الإنبات هو دلالة على البلوغ. انظر: "روضة الطالبين" للنووي (4/ 179). وانظر عن المذهب المالكي المصادر السابقة.
(2)
رواه البخاري (3895)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، ومسلم (1768)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد، عن أبي سعيد الخدري.
(3)
رواه النسائي (3426)، كتاب: الطلاق، باب: متى يقع طلاق الصبي، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 341)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 217)، والطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 435)، والحاكم في "المستدرك"(4333)، والبيهقي في "السنن الكبري"(6/ 58)، عن عطية القرظي، وأخيه.
وقال أبو حنيفةَ: ليس ببلوغٍ، ولا بدليلٍ عليه (1).
* وإيناسُ الرشدِ؛ علمُه وتحققُه، مُقْتَصٌ من قوله تعالى:{آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29]، أي: أَبْصَرَ، فلا يُدفَع إليه المالُ مع ظَنِّ الرشد دون تيقُّنه، والرشدُ هو الصَّلاحُ، ويقع على الصلاحِ في العقلِ وحفظِ المال، ويقع على الصلاحِ في الدينِ والمال، ويقع على الصلاحِ في المالِ فقط، ويقع على الصلاح في الدين فقط، وبكلِّ واحدٍ قال ناسٌ (2) من المفسرين (3).
وقيل: الرُّشْدُ -بالضم- يقع على الصلاح في المال، والرَّشَدُ (4) -بالفتح- يقع على الصلاح في الدين، ونقل عن أبي عمرو (5).
أما الفقهاءُ، فاختلفوا في المعنى المرادِ به، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ:
(1) انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (9/ 185).
(2)
في "ب": "أناس".
(3)
اختلف المفسرون في معنى الرشد على أقوال:
الأول: هو الصلاح في الدين وحفظ المال؛ قاله ابن عباس والحسن.
والثاني: الصلاح في العقل وحفظ المال؛ روي عن ابن عباس والسدي والثوري.
الثالث: هو العقل؛ قاله مجاهد والنخعي.
الرابع: العقل والصلاح في الدين؛ روي عن السدي والحسن وقتادة وغيرهم.
انظر: "تفسير الطبري"(3/ 252)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 358)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 500)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 34/1).
(4)
"والرشد" ليس في "أ".
(5)
ذكر الزبيدي في "تاج العروس"(8/ 95): أن جماعة فرقوا بين المضموم والمحرك، فقالوا: الرشد -بالضم- يكون في الأمور الدنيوية والأخروية، وبالتحريك إنما يكون في الأخروية خاصة.
المرادُ: الصلاحُ في المال فقط (1).
وقال الشافعي: الصلاحُ في المال والدين (2).
ولا شكَّ أنه أحوطُ، ولكنه أضيقُ وأَحْرَجُ؛ لقلة الصلاحِ في الدين في أكثرِ الناس من قديمِ الزمان، وقد قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
فإن قيل: فقد أمرنا الله سبحانه أن ندفعَ إليهم أموالَهم عند إيناسِ رشدٍ منهم، وذلك يقع على رشدٍ ما، فما وجه اشتراطِ الشافعي الرُّشْدَ في الدينِ والمال؟
قلنا: إن الله عَلَّقَ الدفعَ على إيناسِ رشدٍ ما، وكان ينبغي أن يُدفع إليه المالُ عند وجود الشرط، سواءٌ كان رشيدًا في ماله دون دينه، أو في دينه دون ماله، ولما اتفقوا على أنه لا يُدفع إليه في هذه الحالة، وهي إذا رَشَدَ في دينه دون ماله، جعل الشافعيُّ الحالةَ الأخرى مثلَها؛ إذ ليس إحدى الحالتين أَوْلى من الأخرى، ولِما فيه من حملِ اللفظِ المشتَركِ على جميع معانيه؛ إما لغةً، وإما احتياطًا.
ولكن يردُّ هذا الاستدلالَ مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفة أن الخطابَ مع الأولياء جاء بصدد المال، ولم يُقصد به شيءٌ بلا من أمر الدين، فينبغي أن يصرفَ الرشدُ إلى الصلاح في المال؛ لقرينة القصد.
وقد بيَّنتُ أن القصدَ قرينةٌ قوية تخصُّ الأسماء ببعض مُسَمَّياتها، بل
(1) وهو قول أكثر أهل العلم. انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 607)، و"الذخيرة" للقرافي (8/ 230)، و "رد المحتار" لابن عابدين (9/ 181).
(2)
وهو قول الحسن وابن المنذر، وابن المواز من المالكية. انظر:"البيان" للعمراني (6/ 224)، و"روضة الطالبين" للنووي (4/ 181)، و"المغني" لابن قدامة (6/ 607)، و"الذخيرة" للقرافي (8/ 231).
يُعْدَلُ بها عن حقائقها إلى مجازاتها، ولأجل هذا أقولُ بقول مالك وأبي حنيفةَ، وأفتي به.
* ثم مفهومُ هذا الخطاب أنه إذا لم يبلغ النكاحَ، لا يُدفع إليه المالُ، وذلك إجماعُ المسلمين (1).
* ومفهومُه أيضًا أنه إذا بلغَ النكاح غيرَ رشيدٍ أنه لا يُدفع إليه المالُ، وهو كذلك عند الشافعي ومالك وغيرهما.
قال سعيدُ بن جبير: إن الرجلَ لَيَأْخُذَ بلحيته، وما بلغ رشده، فلا يدفع إليه مالُهُ، وإن كان شيخًا، حتى يُعلم منه إصلاحُ ماله (2).
وقال الضَحَّاك نحوه.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسًا وعشرين سنةً، يُعطى المال، وإن كان غيرَ رشيد (3).
وهو استحسانٌ لا دليلَ عليه.
* ثم عمومُ اللفظ يتناول ذكورَ اليتامى وإناثَهم، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الأمر فيهم واحد (4)، لكنْ مالكٌ خالفَ في سن رشدِ المرأة،
(1) انظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 99).
(2)
روى ابن جرير الطبري في "تفسيره"(3/ 253)، عن مجاهد قال: لاندفع إلى اليتيم ماله وإن أخذ بلحيته، وإن كان شيخًا، حتى يؤنس منه رشد العقل.
وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 35) حيث نقل عن سعيد بن جبير والضحاك قولهما.
(3)
وتقدم بحث إعطاء المال إلى البالغ غير الرشيد، والحجر على الكبير.
(4)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (4/ 1445)، و"الذخيرة" للقرافي (8/ 229)، و"المغني" لابن قدامة (6/ 601)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 35).
فقال: لا يُتصور إيناسُ الرشدِ من المرأةِ إلا بعد اختبار الرجل (1)، فهي في حِجْر وليِّها، وإن بلغت حتى تتزوجَ ويدخلَ بها زوجُها، ويؤنسَ رشدَها، فهو موافقٌ لهم في الشرط، مخالف في التفصيل (2).
وروي عنه مثلُ قول الجمهور (3).
* وحرَّم الله سبحانه على الأولياء أكلَ أموالِهم مسرفين متجاوزينَ الحدَّ ومُبادرة لبلوغهم، وأباحه بالمعروفِ للفقير دونَ الغني (4)، فقال:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .
فأخذ الشافعيُّ بظاهر الآية، وحقق التأويلَ بالنظر من القياس، فأوجبَ العفَّةَ على الغني، وإن عمل في مال اليتيم عملًا لمثلِهِ أجرةٌ، وأباحَ للفقير إذا عملَ عملًا له أجرٌ أن يأخذ أقلَّ الأمرين من أجرةِ عملِه أو كفايتِه، فذلك الأكل بالمعروف (5).
* واختلف قوله هل يجبُ ردُّ البدلِ إذا أيسرَ، أو لا؛ لأنه في مقابلة عمله؛ وهو الصحيح (6).
(1) في "ب": "الرجال".
(2)
وقال بقول مالك عمومًا: شريح والشعبي وإسحاق، وروي عن عمر رضي الله عنه.
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (4/ 1446)، و"المغني" لابن قدامة (6/ 601)، و"الذخيرة" للقرافي (8/ 229)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 35).
(3)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (4/ 1446)، و"الذخيرة" للقرافي (8/ 229)، و"مواهب الجليل" للحطاب (6/ 646).
(4)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 37).
(5)
انظر: "البيان" للعمراني (6/ 217)، و"روضة الطالبين" للنووي (4/ 189).
(6)
المرجعان السابقان.
أما إذا لم يعمل على مال اليتيم، فلا يجوز له الأكلُ، وإن كان فقيرًا؛ لأنه أكل بغير المعروفِ (1).
فإن قيل: إنما أبيح له الأكلُ لأجل الفقر، لا لأجل العمل، ولو كان لأجل العمل، لجاز للغنيِّ (2)، ولم يجب عليه الاستعفافُ، ولَمَا كان لذكر الفقر فائدةٌ.
قلت: وإنما لم يأخذ الغنيُّ في مقابلة عمله؛ لبيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد روينا في "صحيح البخاري" عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: أنها نزلت في والي اليتيم إذا كان فقيرًا أنه يأكلُ منه مكانَ قيامِه عليه بالمعروف (3)(4)،
(1) اختلف العلماء فيما يجوز للولي من الأكل من مال اليتيم على أقوال كثيرة من أهمها: الأول: أنه الأخذ على وجه القرض، ويقضي إذا أيسر، وهو قول عمر وابن عباس وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبي العالية وعبيدة والأوزاعي.
الثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف، وروي عن ابن عباس والحسن وعكرمة وعطاء وقتادة والنخعي والسدي. قال القرطبي: وعليه الفقهاء.
الثالث: الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملًا، روي عن ابن عباس وعائشة وعطاء.
الرابع: أنه الأخذ عند الضرورة، فإن أيسر قضاه، وإن لم يوسر فهو في حل، وهو قول الشعبي.
انظر: "تفسير الطبري"(3/ 256)، و"الحاوي" للماوردي (6/ 340)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 422)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 571)، و"تفسير الرازي"(5/ 1/ 198)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 359)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 86)، و"المغني" لابن قدامة (6/ 343)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 38).
(2)
"للغني" ليست في "ب".
(3)
في "ب": "بمعروف".
(4)
رواه البخاري (4299)، كتاب: التفسير، باب: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ
…
... . .} ، =
ولأن القيامَ على مال اليتيم فرضُ كفايةٍ لإصلاح حاله، وفرضُ الكفاية لا يجوزُ أخذ الرزق عليه إلا للفقير دون الغني؛ كولاية القضاء (1).
* إذا تمَّ هذا، فقد انقسم العلماء في هذه الآية على ضربين:
فقال بعضهم: هي منسوخةٌ بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، ويروى عن ابن عباسٍ وزيدِ بنِ أسلم (2).
وهذا ضعيفٌ باطلٌ لا يصحُّ عنهما؛ فإن الله سبحانه حرم أكلَ أموالِهم بالظلم، وأباحه (3) بغير الظلم، والمعروفُ غيرُ الظلمِ؛ لأنه في مقابلة عمله، فلا تعارض بينهما، فلا نسخ.
وقال جمهورهم: هي محكمةٌ (4).
= ومسلم (3019)، في أوائل كتاب: التفسير.
(1)
فقد ذهب المالكية والشافعية إلى أنه إذا تعين عليه القضاء وعنده ما يكفيه: لا يجوز له أخذ أجرة على القضاء، فإن كان محتاجًا لا يكفيه ما يملكه: جاز له أن يأخذ عليه قدر كفايته.
أما الحنفية فقالوا: إن كان محتاجًا جاز له الأخذ، وإن كان غنيًا فقد اختلفوا فيه: فقال بعضهم: لا يحل له أن يأخذ؛ لأن الأخذ للحاجة، ولا حاجة هنا، وقال بعضهم: له الأخذ وهو الأفضل.
وذهب الحنابلة إلى أنه يحل له الأخذ، سواء كان غنيًا أم فقيرًا.
انظر: "المغني" لابن قدامة (14/ 9)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 456)، و"روضة الطالبين" للنووي (11/ 137)، و"أدب القضاء" لابن أبي الدم (ص: 101)، و"تبصرة الحكام" لابن فرحون (1/ 33).
(2)
انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 89)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 258)، و"نواسخ القرآن" (ص: 251)، و"زاد المسير" كلاهما لابن الجوزي (2/ 87).
(3)
في "ب": "وأباحها".
(4)
انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 89)، و"الإيضاح لناسخ القرآن =
واختلفوا في تفسير المعروف، فقيل: هو الأكل قرضًا يؤديه إذا أَيْسَرَ.
* وقوله تعالى: {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} ؛ معناه: في رَدِّ ما استقرضتُم من أموالهم، ويروى هذا القولُ عن عمر، وابن عباسٍ، والشعبيِّ، ومجاهدٍ، وابن جبيرٍ، وأبي العالية، والأوزاعيِّ، وهو أحد قولَي الشافعي.
وقيل: هو ما يسدُّ جوعه إذا احتاج، وليس عليه ردُّه، وهو القولُ الصحيحُ للشافعيِّ، ويروى عن الحسنِ، وقتادةَ، والنخعيِّ، وعطاءِ بنِ أبي رباح.
وقيل: هو الأكلُ من الغَلَّةِ والربحِ، دونَ الأكلِ من الناضِّ (1)، ويروى عن الشعبيِّ، والضَّحّاكِ، وأبي العاليةِ أيضًا.
وقيل: هذا خاصٌّ بالسفرِ من أجلِ مالِ اليتيم، وأما في الحَضر، فيمتنع مطلقًا، قاله أبو حنيفةَ وصاحباه (2).
وأمر الله سبحانه الأولياءَ بالإشهادِ على الدفع إليهم إرشادًا لا إيجابًا (3)؛ خوفًا من الاختلاف فيما بعد.
= ومنسوخه" (ص: 208)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 86).
(1)
الناضُّ من المتاع؛ هو ما تحوَّل وَرِقًا أو عينًا.
قال الأصمعي: اسم الدراهم والدنانير عند أهل الحجاز: الناضُّ والنضُّ، وإنما يسمونه ناضًّا إذا تحول عينًا بعدما كان متاعًا؛ لأنه يقال: ما نضّ بيدي منه شيء. "اللسان"(مادة: نضض)(7/ 237).
(2)
انظر: "أدب القضاء" لابن أبي الدم (ص: 101 - 102)، و"تبصرة الحكام" لابن فرحون (1/ 33).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 425)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 571)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 365)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 1/ 40).
قال القرطبي: وقالت طائفة: هو فرض، وهو ظاهر الآية. انظر: "الجامع=
* وفيه إشارةٌ إلى أن قول القَيِّمِ من غيرِ شهودٍ غيرُ مقبولٍ في الدفع، وإلا لَما أمر (1) بالإشهاد عليه، وهو كذلك، ولم أعلم فيه مخالفًا (2)، والله أعلم وأحكم.
* * *
= لأحكام القرآن" (3/ 1/ 40). وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 502).
(1)
في "ب": "أمرنا".
(2)
لم أقف على هذه المسألة ولا الاتفاق عليها، إلا ما ذكره ابن العربي والقرافي والقرطبي: أنه لا بد أن يشهد إذا دفع إليه المال وإلا فهو ضامن.
انظر: "أحكام القرآن"(1/ 425)، و"الذخيرة"(8/ 241)، و"الجامع لأحكام القرآن"(3/ 1/ 40).
* أما قول المصنف رحمه الله: "ولم أعلم فيه مخالفًا"، فقد قال الجصاص في "أحكام القرآن" (2/ 365):"قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد في الوصي إذا ادَّعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه: أنه يصدق"، انتهى. وهذا ينقض إطلاق المصنف رحمه الله عدم العلم بالمخالف.
ثم نسب الجصاص في الموضع نفسه عن مالك أنه قال: لا يصدق الوصي أنه دفع المال إلى اليتيم، وهو قول الشافعي.
وقال الرازي في "تفسيره"(5/ 1/ 200): قال مالك والشافعي: لا يصدق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصدق. وكذلك في "البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 523) وقول المالكية -كما نص عليه الرازي- في "التفريع" لابن الجلاب (2/ 257).
وقال الحنابلة: إذا ادعى أنه دفع إليه ماله بعد بلوغه ورشده، فإن القول قول الولي دون بينة. انظر:"الإنصاف" للمرداوي (5/ 341).