الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام القصاص والديات)
90 -
* سبب نزولها ما رُوي أن عياشَ بنَ أبي ربيعةَ المَخْزوميَّ أسلمَ، فقدمَ المدينةَ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بمكةَ، فردَّه أخواه لأمه: أبو جَهْل، والحارثُ ابنا هشامٍ، ومعهما الحارثُ بنُ زيدٍ العامري، فَفَتَنَهُ أخواه حتى ارتدَّ، فعيَّرهُ الحارثُ بنُ زيدٍ، فقال له: لَئِنْ كانَ الذي كنتَ عليه هُدًى، لقد تركْتَ الهُدى، ولئن كانَ ضلالةً، لقد كنتَ عليها، فحلفَ عَيّاشٌ ليقتلنَّهُ حيثُ يلقاه، ثم عادَ مسلِماً إلى المدينة، فأسلمَ الحارثُ بنُ زيدٍ، وهاجر، فرآه عياشٌ بظاهرِ قُباء، فقتلَه، ثم عاد (1)، وهو لا يعلَمُ بإسلامه، فأخبرَ عياشٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية (2)(3).
(1)"ثم عاد" ليس في "أ".
(2)
انظر: "تفسير البغوي"(1/ 573).
(3)
انظر سبب النزول هذا مع اختلاف يسير في: "تفسير الطبري"(5/ 215)، =
ولا خِلافَ في أن حكمَها عامٌّ غيرُ مختصٍّ به.
* فحرم اللهُ سبحانه فيها قتلَ المؤمنِ تَحْريماً مُغَلَّظاً لا يوجدُ في سائرِ المحرَّمات، فاْوجبَ الكَفَّارَةَ في خَطَئِه مع ضَمان متلفِهِ، وهو المقتولُ، وقال:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].
وهذا أمرٌ مُجْمَعٌ عليه بينَ الأمة.
* وأوجبَ الشافعيُّ الكفارةَ في قتلِ العَمْدِ وشبه العَمْد؛ لأنه أولى وأحرى بالوجوب من الخطأ (1).
وبه قال الزهريُّ (2) ومالك (3).
وقال الثوريُّ (4)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
.....
= و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1031)، و "أسباب النزول" للواحدي (ص: 162)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 162).
(1)
انظر: "مختصر المزني"(ص: 254)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 62).
(2)
وكذا قرر ابن المنذر والقرطبي في "تفسيره" مذهب مالك، مع أن المشهور من مذهبه أنه لا كفارة في القتل العمد ولكن يستحب له أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين أو يتقرب إلى الله بما أمكنه من الخير. انظر:"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 23)، و "الكافي" لابن عبد البر (ص: 595)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 228)، و "المحلى" لابن حزم (10514)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 313)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 331).
(3)
وللإمام أحمد روايتان: الأشهر أنه لا كفارة في قتل العمد، انظر:"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 200، 221)، و "المغني" لابن قدامة (8/ 402).
(4)
الراجح من مذهب أبي حنيفة وأصحابه: الكفارة في القتل شبه العمد أيضاً، انظر:"المبسوط" للشيباني (4/ 437)، و "المبسوط" للسرخسي (26/ 66)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (4/ 177)، و"بدائع الصنائع" للكاساني =
وأبو حنيفةَ (1) وأصحابهُ (2): لا تجبُ الكَفَّارةُ بِقَتْلٍ غير الخَطَأ، واختارهُ ابنُ المنذر (3).
وهذا على أصلِهم من منع القياسِ في الكفاراتِ (4)، وهو قول الباجِيِّ وابنِ القَصّار من المالكيَّة (5).
وظاهرُ الخطابِ أن وجوبَ الكَفَّارةِ والديةِ متعلِّقٌ بالقاتل، والمعنى: فعليه تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ، وديةٌ مسلَّمَةٌ إلى أهله.
ويحتمل أن يكونَ التقديرُ: فالواجبُ تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ، وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله.
* وقد أجمع المسلمون على تَعَلُّقِ الكفارةِ بالقاتلِ وُجوباً وفِعلاً، وأما الدِّيَةُ، فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بوجوبها على العاقِلَةِ (6)(7)، وكذا فعلَ عمرُ
= (7/ 251)، و"العناية شرح البداية" للبابرتي (15/ 157).
(1)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 23).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 402).
(3)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 23)، و"تفسير البغوي"(1/ 463)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 331).
(4)
انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (3/ 218).
(5)
حكى القرافي عكس هذا القول عن ابن القصار والباجي وأن مذهبهم كمذهب الشافعي في جواز القياس في الكفارات. انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 133).
(6)
لعله يقصد حديث أبي هريرة رضي الله عنه: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى أن دية المرأة على عاقلتها.
رواه البخاري (6512) كتاب: الديات، باب: جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد، ومسلم (1681) كتاب: القسامة، باب: دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني.
(7)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 194)، و"المحلى" لابن حزم =
وعليٌّ (1)، ولم يخالفْهُما أحدٌ من الصحابة، فهو إجماع.
ودليلُهُ مخصِّصٌ لعموِم قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2)[الإسراء: 15].
ولا التفاتَ إلى خلاف الأصَمِّ وابنِ عُلَيَّةَ والخوارِج في منعِ تَحَمُّلِ العاقِلَةِ، وتمسَّكوا بالآيةِ، وبالقياسِ، ولا دليلَ لهمْ معَ قِيام النصِّ والإجماع (3).
والحكمةُ في ذلك أن ديةَ المُسلم كثيرةٌ لا يطيقُها القاتلُ وحدَه إلا نادراً، ولا يمكنُ إهدارُ دمِ المقتولِ عندَ فقرِ القاتل، فكانتْ على عاقلته؛ حفظاً للدماء (4).
= (11/ 48)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 320).
(1)
إن كان القتل عمداً فقد اتفق الفقهاء على أن دية القتل العمد تجب على القاتل في ماله وحده، ولا تحملها العاقلة، أما إن كان شبه عمد أو خطأ فهي على العاقلة كما ذكر المصنف. انظر:"الموطأ" للإمام مالك (2/ 865)، و"مختصر المزني" (ص:238)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (9/ 302)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (6/ 102).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 194)، و "المحلى" لابن حزم (10/ 401)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 309).
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 340)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 255).
(4)
ذهب ابن حزم: إلى أن الحكمة تعبدية فقط، فهكذا أمرنا الشارع وما علينا إلا السمع والطاعة، والا فإن القول بعدم تحمل العاقلة هو الذي يؤيده العقل البشري، قال ابن حزم: لولا ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان هذا القول الذي لا يجوز خلافه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ولاه الله البيان عن مراده تعالى فقال:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وذهب غيره إلى أن الحكمة مع أنها تعبدية قد تعقل في هذه المسألة وأنها =
* واختلف قولُ الشافعي في العاقِلة، هل تحملُ الديةَ ابتداءً، أو تجبُ على القاتل، ثم تحملُها العاقِلةُ، بحسبِ تقديرِ الإضْمارِ.
فمن أضمرَ: (فعليهِ تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله)، جعلهم مُتَحَمِّلين (1)، ومن أوجبَ عليهم ابتداءً تمسَّك بظاهرِ الحديثِ، وأضمر:(فالواجبُ تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلمة إلى أهله)(2).
* وأمر اللهُ سبحانه بتأدية الدية إلى أهله.
فيجوزُ أن يريدَ بأهله أولياءه.
ويجوز أن يريد به ورثَتَهُ (3).
= لا تخالف القياس وقواعد الشرع العامة، فمن الحكمة أن هذا من باب المواساة وخاصة أن القتل خطأ؛ أي: أن القاتل ليس متعمداً والخطأ يعذر فيه الإنسان فإيجاب الدية في ماله فيه ضرر عظيم عليه من غير ذنب تعمده هذا من جانب، وإهدار دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثته.
فكان من محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد أن أوجب الدية على العاقلة والمواساة واجبة في عرف الكرماء وهو من باب التكافل والتناصر المطلوب في المجتمع المسلم وتفضي إلى حفظ الدماء واستبقاء الأحوال.
وهذا بخلاف القتل العمد فإن الجاني متعمد ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلاً أن يحمل عنه.
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 342)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (2/ 36).
(1)
في "ب": "محتملين".
(2)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 206)، و"المجموع"(6/ 102)، و"روضة الطالبين" كلاهما للنووي (9/ 357)، و"شرح الزركشي"(3/ 8).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 199)، و"تفسير الواحدي"(1/ 281)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 581).
فبيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن المرادَ بأهل المقتول ورثتُه.
روي أن عمرَ -رضي الله تعالى عنه- لم يُوَرِّثِ المرأةَ من ديةِ زوجِها، فقال له الضَّحّاكُ بنُ قيسٍ (1): كتبَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ وَرِّثِ امرأةَ أَشْيَمَ الضّبابِيَّ من دية زوجِها، فرجعَ عمرُ رضي الله تعالى عنه (2).
* وعلق اللهُ سبحانه هذهِ الأحكامَ بقتلِ المؤمنِ، وأطلقه، فوقعَ على الذكرِ والأنثى، والصغيرِ والكبير، والحرِّ والعبد (3).
والحكمُ كذلكَ بإجماعِ المسلمين، إلا في العبدِ.
فقال طائفةٌ من أهل الكوفة: تجبُ فيه الديةُ؛ لظاهر الآية، ولا يبلغ
(1) في السنن الأربعة وعامة كتب الحديث: الضحاك بن سفيان وفي بعضها: الضحاك بن قيس، قال النووي: وهو غلط صريح لا حيلة فيه. أي والصواب: الضحاك بن سفيان. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 237).
(2)
رواه أبو داود (2927)، كتاب: الفرائض، باب: في المرأة ترث من دية زوجها، والترمذي (2110)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2642)، كتاب: الديات، باب: الميراث من الدية، والإمام مالك في "المؤطأ"(2/ 866)، والإمام الشافعي في "مسنده"(203)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 452)، عن الضحاك بن سفيان الكلابي.
(3)
لم يذكر المصنف مسألة هل يقتل الحر بالعبد، فمذهب الحنفية أنه يقتل الحر بالعبد واستثنوا عبد نفسه، وبه قال الظاهرية، ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة أنه لا يقتل به. انظر:"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 168)، و "الموطأ" للإمام مالك (2/ 873)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 289)، و"الأم" للإمام الشافعي (6/ 25)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 19)، و "المغني" لابن قدامة (8/ 221)، و "الإحكام" لابن حزم (7/ 366).
بها ديةَ الحرِّ، بل ينقص منها شيء؛ اعتباراً بنقصانِه عن درجةِ الحُرِّ في الحَدِّ وغيره (1).
وقال الشافعيُّ، ومالك، وأبو يوسفَ: تجبُ فيه القيمةُ، بالغةً ما بَلَغَتْ؛ قياساً على سائر الأموال، فقيدوا إطلاقَ الآيةِ بالقياس (2).
وقال أبو حنيفةَ: تجبُ فيه القيمةُ، ولا يُزاد بها على ديةِ الحرِّ (3).
* وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الجنينَ تجبُ فيه الديةُ، وأن ديتَهُ غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أو وَليدَةٌ.
روى الشيخان عن أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: اقتتلتِ امرأتانِ من هُذَيْلٍ، فرمَتْ إحداهُما الأخرى بحجرٍ، فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ديةَ جَنينِها غُرَّةٌ عبدٌ أو وليدةٌ (4).
* ثم بين حكمَ المؤمنِ الذي أهلُه كفار، فأوجبَ الكفارةَ بقتله، ولم يوجبِ الديةَ، سواء كانوا محارِبين أو معاهَدين، فقال: {فَإِن كَانَ مِن
(1) انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 310).
(2)
وهو مذهب أحمد. انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (8/ 25)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 20)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 131)، و"المبسوط" للسرخسي (27/ 29)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 238).
(3)
انظر: "المبسوط" للسرخسي (27/ 28)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (4/ 151).
(4)
رواه البخاري (6512)، كتاب: الديات، باب: جنين المرأة، ومسلم (1681)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين، ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني.
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، لأن الله سبحانه سكتَ عن الدية، ولم يوجبْها قبلُ.
وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ (1)، والأوزاعيُّ وأبو ثورٍ (2)؛ لأن أهلَه كفارٌ ليسوا له بأولياء.
وعن مالك روايتان، والمشهورُ كمذهبِ الجماعةِ (3).
والمعروفُ من مذهبِ الشافعيّ (4) وجوبُ ديتِه للمسلمين تُجْعَلُ في بيتِ المال (5).
* ثم بين اللهُ سبحانَه حُكْمَ الذي له ميثاقٌ، فأوجب فيه الكفارةَ والديةَ،
(1) نظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 271)، و "العناية شرح الهداية" للبابرتي (8/ 69)، و"أحكام القرآن" للشافعي (ص: 287)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 65).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 217)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 324).
(3)
وكذا لأحمد روايتان والراجح من مذهبهما أن لا دية عليه. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 603)، و"الذخيرة" للقرافي (12/ 357)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 217).
(4)
لم أقف على هذا القول للشافعي.
(5)
هناك فرق في الحكم يتبع لتفسير الآية، بين من فسرها بالمقتول إن كان مؤمناً في دار الحرب وقتل خطأ، أو كان في دار الإسلام وقتل خطأ.
قال أبو بكر الجصاص: هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا لأنه غير جائز أن يكون مراده في مؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال وأن كون أقربائه كفارًا لا يوجب سقوط ديته لأنهم بمنزلة الأموات حيث لا يرثونه. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 215)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 342)، و "المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 93).
فقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
ولكن الله سبحانه أطلقَ صفتَه، ولمْ يقيدْه بصفةِ الإيمان كما قيدَ غيرَه.
فأخذَ جمهورُ أهل العلمِ كابنِ عباسٍ، والشعبيَّ، والنَّخَعيِّ (1) بإطلاقه (2)، وبه قال الشافعيُّ (3).
فأوجبوا الكفارةَ في قتلِ الذَّمَّيِّ، والمعاهَد.
ومنهم من قَيَّدَه بصفةِ الإيمان، وأعاد الضميرَ على المؤمنِ، ولم يوجبِ الكفارةَ في قتله، ونُسب إلى أهل الحجاز (4).
* وبين الله سبحانه أن الكفارةَ تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فمن لم يجدْ فصيامُ شَهْرين متتابعين، ولم يَذْكُرِ الإطعامَ في حَقَّ العاجِزِ، فدلَّ على أنه لا يجب (5).
(1) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 514)، و"تفسير الطبري"(5/ 208)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 165).
(2)
وهو قول الحنفية والحنابلة. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 220)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 217).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 603)، "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 120).
(4)
عن إبراهيم النخعي في المسألة روايتان. انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 165)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 325)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 213).
(5)
وهو مذهب الحنفية والمالكية وقول عند الشافعية والحنابلة، انظر:"المبسوط" للسرخسي (7/ 4)، و "تفسير البغوي"(1/ 463)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 536)، و"البيان والتحصيل" لابن رشد (5/ 197).
وللشافعي قولٌ ضعيف أنه يجبُ إطعامُ ستينَ مسكيناً؛ قياساً على الظهار (1).
* وأحكم الله سبحانه فرضَ الديةِ مُجْمَلاً، وجعل بيانَها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبَّينَ أن الدية مِائةٌ من الإبلِ، وأن ديةَ المرأةِ على نصفِ ديةِ الرجل، وبيَّن أن ديةَ الجنين غُرَّة عبدٌ أو وليدَة، وأجمع المسلمون على ذلكَ (2)، إلا ما حكي عن الأصَمّ وابن عُلَيَّةَ أنهما جعلا دِيَةَ المرأةِ كديةِ الرجلِ (3).
* واختلفوا في أهل الذمَّة:
فذهب الشافعيُّ إلى أنه على الثلث من ديةِ المسلمِ، ذُكْرانُهم كذكرانهم، وإناثُهم كإناثهم (4).
وبه قال عمرُ وعثمانُ وجماعةٌ من التابعين (5).
(1) وهو قول عند الحنابلة. انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 217)، و" الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 432)، (13/ 69)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 380)، و "الشرح الكبير" لابن قدامة (9/ 671)، و"الكافي" لابن مفلح (4/ 145).
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 388)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 214)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 228)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 307)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 316).
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 289)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 67).
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (6/ 105)، و "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 237).
(5)
وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، وعطاء. انظر:=
وذهبَ مالكٌ إلى أن ديتَه على النِّصْفِ من دِيَةِ المُسلم (1)، وبه قالَ عروةُ بنُ الزبيرِ وعمرُ بنُ عبدِ العزيز (2).
وذهب أبو حنيفةَ (3) والثوريُّ (4) إلى أن دِيَتَهُ كديةِ المسلم، وهو مروي عن عمرَ وعثمانَ أيضاً، وبه قالَ جماعةٌ من التابعين (5).
وتمسكوا في ذلك بآثارٍ.
* واختلفوا في المجوسِيِّ أيضاً.
فذهب الشافعيُّ ومالكٌ إلى أن ديتَه خُمْسُ ثُلُثِ ديةِ المسلم (6)، وبه قال جماعةٌ منَ التابعين (7).
=و"المصنف" لابن أبي شيبة (5/ 407)، و"تفسير الطبري"(5/ 214)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 117).
(1)
وهو الراجح عند الحنابلة. انظر: "الاستذكار"(8/ 116)، و "التمهيد" كلاهما لابن عبد البر (17/ 359)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 310)، و"المغني " لابن قدامة (8/ 312).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 213)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 116)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 327).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 214)، و"المبسوط" للسرخسي (26/ 84).
(4)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 310)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 290).
(5)
وهو مروي عن النخعي والشعبي ومجاهد وعطاء والزهري والحسن انظر: "تفسير الطبري"(5/ 213).
(6)
وهو مذهب الحنابلة. انظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 864)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 116)، و"أحكام القرآن" للشافعي (1/ 284)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 311)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 313).
(7)
منهم الحسن وعكرمة وعطاء ونافع وعمرو بن دينار. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 117)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 327).
وقال أبو حنيفة: ديتُه مثلُ ديةِ المسلم (1).
وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيز: هو كاليهوديَّ والنصرانيَّ، وهو النصفُ عنده (2).
واحتجَّ الشافعيةُ بأن ذلك رُوي عن عمرَ وعثمانَ وابنِ مسعود، ولم يُعْرَفْ لهم مُخَالِفٌ (3).
* وأما المعاهَدُ، فإن كان كتابياً، فهو كالذميَّ، وإن كان مجوسياً أو وثنياً، فهو كالمجوسيَّ (4).
وذهب قومٌ إلى أنه لا يجبُ في المعاهَدِ ديةٌ، إلا أن يكونَ كتابياً، فحملَ بعضُهم إطلاقَ المقتولِ في قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] على تقييد الإيمان في القتيلين الأوَلَيْن، فحمله على المؤمن الذي بين المعاهدين، أو المنتقلِ من المعاهدين إلى دارِ الإسلام.
ومنهم من تركَه على إطلاقه، وذهبَ فيه إلى النسخ.
قال (5) ابنُ أبي أويسٍ: إن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] منسوخٌ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 214)، و "الأم" للشافعي (7/ 320)، و"المبسوط" للسرخسي (26/ 85).
(2)
انظر: "المصنف" لعبد الرزاق (6/ 127)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 313).
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 311)، و "المغني" لابن قدامة (8/ 313).
(4)
انظر: "الأم" للشافعي (6/ 105)، و"تفسير الطبري"(5/ 212)، و" الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 116).
(5)
"قال" ليس في "أ".
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، فليس لأحد غير المسلم ديةٌ من الكفار غيرَ أهل الذمَّة؛ لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يعاهدْ بعد نزول (براءة) أحداً من الناس.
قال: وكانت هذه الآيةُ نزلتْ في المسلمَيْن اللَّذين قتلهما أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ بآية (براءة)(1).
ونقل عن ابن شهابٍ عن عطاءٍ مثلُ ذلك في النسخِ والسببِ والحكمِ (2).
* إذا تمَّ هذا، فبينَ الفقهاءِ خِلافٌ في صفةِ أسنانِ الإبل (3)، وتغليظِ الدية (4)،
(1) في قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 5].
(2)
وانظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي (ص: 134)، و"تفسير البغوي"(1/ 462).
(3)
مختصر الخلاف في أسنان الإبل: ففي العمد قال الشافعي: ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها. وذهب أحمد إلى أن دية العمد أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة.
أما في دية الخطأ فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنها أخماس؛ خمس بنو مخاض وخمس بنات مخاض وخمس بنات لبون وخمس جذاع وخمس حقاق.
وقال المالكية والشافعية: هي أخماس، غير أنهم جعلوا مكان (بني مخاض)(بني لبون ذكوراً).
واختلف في شبه العمد فقال أبو حنيفة وأحمد مثل العمد، وقال الشافعي تؤخذ من ثلاثة أسنان، واختلفت الرواية عن مالك بين نفيها على الإطلاق وإثباتها.
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 390 - 394)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 207)، و"اختلاف الأئمة العلماء" لابن هبيرة (2/ 231)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 307)، "التفريع" لابن الجلاب (2/ 213).
(4)
اختلف في تغليظ الدية على من قتل في الشهر الحرام أو في الحرم أو قتل ذي =
وتخفيفها (1)، وفي إبدالها (2)، وتفصيلُ ذلك يطولُ، وموضعُه كتبُ الفقه.
* * *
91 -
(33) قوله جَلَّ ثناؤه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]
= الرحم؛ فذهب الإمام أحمد: أن عليه الدية وثلث الدية.
وذهب أبو حنيفة والشافعي: أن التغليظ في أسنان الإبل لا الزيادة في العدد.
وذهب مالك إلى عدم التغليظ وأن أحكام الله عز وجل على الناس في جميع البقاع واحدة. انظر: "الأم" للشافعي (6/ 113)، "الإشراف على مذاهب العلماء" - لابن المنذر (7/ 394 - 395)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 137)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 255).
(1)
تخفيف الدية يكون في القتل الخطأ بتحمل العاقلة لها وتأجيلها وفي نوع الإبل وأسنانها. انظر: "المبسوط" للسرخسي (26/ 92)، و"المهذب" للشيرازي (2/ 211).
(2)
قد اختلف في إبدال الدية بالذهب والفضة؛ فقال الشافعية: الدية من الإبل ولا يجوز إبدالها، وذهب الجمهور إلى جواز إبدالها بالذهب على أهل الذهب وبالفضة على أهل الفضة.
ولم يختلف الذين ألزموا أهل الذهب الذهب أن الدية من الذهب ألف دينار.
واختلفوا فيما يجب من الفضة.
واختلفوا في إبدالها بالبقر والغنم والحلل فأبو حنيفة ومالك قصروا الإبدال على الذهب والفضة، وقال غيرهم بجواز إبدالها. انظر:"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 388 - 390)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 308)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 289 - 291)، و"التفريع" لابن الجلاب (2/ 213)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 316).
نزلت في مِقْيَسِ بنِ صبابةَ الكِنانيِّ، وقد كانَ أسلمَ هو وأخوه هشامٌ، فوجدَ أخاهُ قتيلاً في بني النجّار، فأرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (1) زهيرَ بنَ عياضٍ الفهريَّ - وكانَ من المُهاجرينَ منْ أهل بدر - مع مِقْيَسٍ إلى بني النجار: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتُمْ قاتلَ هشامِ بنِ صبابَة أن تدفعوه إلى مقيسٍ، فيقتصَّ منه، وإن لم تعلموهُ أن تدفعوا إليه ديتَه، فقالوا: سَمْعاً وطاعةً للهِ ورسوِله، ما نعلمُ له قاتلاً، ولكنا نؤدي له ديتَه، فأعطَوْه مئة من الإبل، ثم انصرفا إلى المدينة راجعين، فتغفل مقيسٌ زهيراً، فرماه بصخرة، فشجَّه (2)، ثم ركبَ بعيراً، وساق بقيتَها إلى مكة مرتدًّا، وقال في ذلك أبياتاً منها:[البحر الطويل]
قتلتُ بهِ فهراً وحَمَّلْتَ عَقْلَهُ
…
سَراةَ بني النَّجَّارِ أربابِ فارعِ
فأدركتُ ثأري واضطَجَعْتُ مُوَسَّداً
…
وكنتُ إلى الأوثانِ أولَ راجِعِ
فنزل فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا (93)} [النساء: 93]، وهو الذي استثناهُ النبي صلى الله عليه وسلم يومَ فتحِ مكة عَمَّنْ أَمَّنَهُ، فقُتل وهو متعلقٌ بأستارِ الكعبة (3).
* وقد أجمعتِ الأمةُ على تعظيمِ شأنِ القتل؛ كما عظمه الله تعالى، ورسولُه صلى الله عليه وسلم فهو أكبرُ الكبائرِ بعدَ الشركِ بالله تعالى.
* ثم اختلفوا في توبتِه وتخليدِه في النار -نعوذ بالله الكريم من ذلك-.
(1) رسول الله صلى الله عليه وسلم. ليس في "أ".
(2)
في "ب": "فشدخه".
(3)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 217)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 1037)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(296)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(29/ 29).
فالمشهور عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - أنه: كان يقول: لا توبةَ له (1).
ويقول (2): إن آية الفرقان (3)، وهي (4) قولُه تعالى:{وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا} [الفرقان:70] إلى آخرها نزلتْ في ناس من أهل الشركِ، وآيةُ النساء (5) نزلتْ في الرجلِ إذا عرفَ الإسلامَ وشرائِعَهُ (6).
(1) رواه البخاري (4486)، كتاب: التفسير، باب: قول تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} .
(2)
في "أ": "ويقال".
(3)
انظر: "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه"(ص: 43)، و"قلائد المرجان" (ص: 137 - 138).
(4)
في "أ": "وهو".
(5)
وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].
(6)
روى البخاري عن ابن عباس (4488)، كتاب: التفسير، باب: قول تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
…
}، ومسلم (3023)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} ، وأبو داود (4273)، كتاب: الفتن والملاحم، باب: في تعظيم قتل المؤمن. ولفظ أبي داود: عن سَعِيدِ بن جُبَيْرِ قال: سَأَلْتُ ابن عَبَّاسٍ فقال: لمَا نَزَلَتْ التي في الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ، قال مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ قد قَتَلْنَا النَّفْسَ التي حَرَّمَ الله، وَدَعَوْنَا مع الله إِلَهًا آخَرَ، وَأَتينَا الْفَوَاحِشَ، فَأَنْزَلَ الله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فَهَذهِ لأُولَئِكَ، قال: وَأَمَّا التي في النِّسَاءِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية، قال: الرَّجُلُ إذا عَرَفَ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ، لَا تَوْبَةَ له، فَذَكَرْتُ هذا لِمُجَاهِدٍ، فقال: إلا من نَدِمَ.
وروى سعيد بنُ جبير عنه أنه قال في آية الفرقان: هذه آيةٌ مكيةٌ نسختها آيةٌ مدنيةٌ التي في "سورة النساء"(1).
وروي عن زيد بن ثابتٍ - رضي الله تعالى عنه -: أنه قال: لما نزلتْ التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا} عَجِبْنا من لينها، فلبثنا سبعةَ أشهرٍ، ثم نزلتِ الغَليظةُ بعد اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية (2).
وسأل رجلٌ ابنَ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما،- فقال: إني قتلتُ نفساً، فهل لي من توبةٍ؟ فقال له ابنُ عمرَ: أَكْثِرْ مِنْ شربِ الماءِ الباردِ.
قال مالك: يريدُ أنه من أهلِ النار.
ورويَ أن رجلاً سأل أبا هريرة، وابنَ عمر، وابنَ عباس -رضي الله تعالى عنهم- عن رجل قتل مؤمناً متعمداً، هل له من توبة؟ فكلهم (3) يقول: هل تستطيع أن تحييه؟ هل تستطيع أن تبتغي نفقاً في الأرض (4) أو سلماً في السماء (5)؟
وبقول ابنِ عباس قالتِ المعتزلةُ (6).
وقال جمهورُ أهلِ العلمِ من الصحابةِ وغيرهم، وجميع أهل السنة: إن
(1) رواه البخاري (4484)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
…
}، ومسلم (3023)، كتاب: التفسير، في أوله.
(2)
رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ"(ص: 427)، وانظر:"تفسير البغوي"(1/ 465).
(3)
في "ب": "وكلهم".
(4)
"في الأرض": ليست في "أ".
(5)
انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (5/ 434)، و"شعب الإيمان" للبيهقي (6/ 206)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 632).
(6)
انظر: "تفسير النيسابوري"(2/ 475)، و"عمدة القاري" للعيني (18/ 183).
له توبةً، وأمرُه إلى الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه (1).
واختلفت بهم الطرقُ في الكلامِ على الآية.
فمنهم من ذهبَ إلى النسخ (2)، فقال: إنها منسوخةٌ بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].
وروي عن عليٍّ أنها منسوخةٌ بآيتين: آيةٍ قبلَها، وآيةٍ بعدها في النظم (3)، وهي قولُه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} إلى قوله: {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} [النساء: 116].
والقول بالنسخ بعيدٌ؛ لما سأذكره بعدُ -إن شاء الله تعالى- من عدم التعارضِ بينهما.
وما روي عن عَليٍّ -رضيَ الله تعالى عنه - يجبُ حملُهُ على معنى قولِ ابنِ عمر -رضي الله تعالى عنهما -: كنا معشرَ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نشكُّ في قاتلِ المؤمن وآكلِ مالِ اليتيمِ وشاهدِ الزورِ وقاطعِ الرحمِ حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، فأمسكنا عن الشهادة، يعني: الشهادة لهم بالنار (4).
ومنهم من ذهب إلى وقفِ حكمها على سَببها؛ فمن قتلَ مؤمناً متعمداً
(1) انظر: شرح مسلم " للنووي (17/ 82) و (18/ 159)، و"تفسير ابن كثير" (3/ 328)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 496).
(2)
انظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي (ص: 203).
(3)
في "أ": "النساء".
(4)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 126)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 971).
مستحلاً لدمِه كمِقْيَسِ بنِ صُبابة، فهو مخلَّدٌ في النارِ إذا ماتَ على كفره، وهذا قولٌ قويٌّ حسنٌ (1).
ومنهم من ذهبَ إلى التأويل، فحمل الخلودَ على طول المُقام؛ كقول الله تعالى:{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} [الهمزة: 3]، وكقولهم: فلانٌ خالدٌ في السجن: إذا طالَ مُقامُهُ فيه (2)، وهذا القولُ باطلٌ؛ لأنه يقتضي أنه لابدَّ من دخولهِ النار، ثم يطولُ مُقامهُ، ثم يخرجُ منها، وهذا لم يقلْ به أحدٌ من الفريقين.
وقال جمهورُهم: تأويلُه: فَجَزاؤه ذلكَ إنْ جازاه، رواه عاصمُ بنُ أبي النجودِ عن ابنِ جبيرٍ عن ابنِ عباس- رضي الله تعالى عنهما - (3): أنّه قال: هو جزاؤه إن جازاه (4).
وروي عن ابن سيرينَ عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: "هو جزاؤه إن جازاه"(5).
(1) انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 344)، و"تفسير الطبري"(5/ 217)، و"تفسير الثعلبي"(3/ 365)، و"كشف المشكل" لابن الجوزي (2/ 359).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (17/ 83)، و"تفسير الرازي"(10/ 110).
(3)
في "ب" زيادة: "عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
(4)
رواه ابن المنذر في "تفسيره"(2/ 627 - الدر المنثور) من طريق عاصم بن أبي النجود. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 1038) من طريق أبي روق.
(5)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(5819)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(8606) وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 281)، والديلمي في "مسند الفردوس" (7213). وقال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 538). وقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (4/ 186): رواه العلاء بن ميمون، عن حجاج الأسود، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً. قال العقيلي: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به.
وقال بهذا التأويل إبراهيم التيميُّ، وعَوْنُ بنُ عبدِ الله، وبَكْرُ بن عبد الله، وغيرُهم (1).
وقد قال من اعتقد هذا: إن الله إذا وعد بالحسنى، وعدَ ولم يخلف، وإذا وعدَ بالعذابِ، جازَ أن يعفوَ (2).
ويشهد لهذا (3) ما روى ثابتٌ البُنانيُّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله تعالى عنه- أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"من وَعَدَهُ اللهُ على عملهِ ثواباً، فهو مُنْجِزُهُ له، ومن وَعَدَهُ على عَمَلِهِ عِقاباً، فَهُوَ فيهِ بالخِيارِ"(4).
وهذا هو الوجهُ المختارُ عندي في الجمعِ بين الآياتِ المتعارِضَةِ الواردِة في القتلِ، وبيانُ صفةِ الجَمْعِ أن نقول:
إن قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] مُطْلَقٌ في الأحوال.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60] مقيِّدٌ لآية
(1) ومحمد بن سيرين وأبي مجلز وعمرو بن دينار. انظر: "تفسير الطبري"(5/ 217) و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1038)، و"اعتقاد أهل السنة" للالكائي (6/ 1056).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 217)، "تفسير البغوي"(1/ 465)، و"تفسير الثعلبي"(3/ 365)، و"تفسير القرطبي"(5/ 334).
(3)
في "أ": "هذا".
(4)
رواه البزار في "مسنده"(6882)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(3316)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(8516)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 191). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 211): وفيه سهيل بن أبي حزم وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (12/ 566): قال البزار: سهيل لا يتابع على حديثه.
النساء، ويجوزُ تقييدها بها، وإن كانتْ متقدمةً في النزول عليها (1).
ولهذا قال مجاهدٌ: فجزاؤه جهنمُ خالداً فيها، إلا أن يتوبَ، لكن قولَهُ يقتضي أنه إذا لم يتبْ كان خالداً في النار، وليسَ الأمرُ كذلك عندَ أهلِ السنةِ (2).
والأولى أن يقيدَ إطلاقُها بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]؛ فإنه سبحانه لم يقيدْ غفرانَه بالتوبة، وإنما قَيَّدَهُ بمشيئته سبحانه، ويكون المعنى:(فجزاؤه جهنم خالداً فيها إنْ جازاه، إلا أن يغفر اللهُ له)، فتعين حَمْلُ الآية على ما أَوَّلَها به السلفُ الصالحُ - رضي الله تعالى عنهم (3) -.
فإن قال قائل: فهلا خَصَصْتُمْ عمومَ قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} بقوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} ، ويكون المعنى: ويغفرُ ما دونَ ذلك لمن يشاء، إلا أن يكونَ قاتلاً متعمِّداً؛ فإنه لا يَغْفِرُ له، وتكون آيةُ القتلِ بياناً منه سبحانه أنه لم يشأ المغفرة له.
قلنا: إنما قيدنا آيهَ القتل بآية المغفرة؛ لوجوه دلَّت على ذلك:
أحدها: قوةُ دلالتها وبُعْدُها من التأويل؛ فإنها جمعتْ في دَلالتها بين
(1) وليس التقييد مختص بآية الفرقان، فقبول التوبة من العمومات المعلومة في الدَّين، والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وكذلك أحاديث قبول التوبة المطلقة كثيرة، ويؤيده حديث قبول توبة قاتل المئة نفس. انظر:"تفسير القرطبي"(5/ 334)، و"تفسير ابن كثير"(3/ 328).
(2)
انظر: "تفسير ابن كثير"(3/ 328).
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(3/ 297)، و"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (8/ 493)، و"الاعتقاد" للبيهقي (ص: 189)، و"شرح السنة" للبغوي (1/ 92)، و"الاعتصام" للشاطبي (2/ 248).
دَلالةِ المَفهوم والمنطوق، فقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} يقتضي بمفهومه أن الله سبحانه يَغْفِرُ لمنْ لا يشركُ به، فهو كافٍ في دلالة التقييد، فزاده تأكيداً وبياناً، فقال:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
وثانيها: تظاهرُ الآياتِ والأحاديثِ المؤكدة بحكمها الواردة بمعناها؛ كقول الله جل جلاله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94]، وقوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
ولا ينبغي أن يُذْهِبَ إثمُ القتلِ أجرَ الإيمانِ والتوحيد، وإلا لكانَ السيئاتُ يذهبْنَ الحسناتِ، والحسناتُ لا يذهبْنَ السيئاتِ، وذلك مخالف لنصَّ القرآن العزيز.
وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (1)[الزلزلة: 7 - 8].
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً، لَمْ تَضُرَّهُ معهُ خَطيئةٌ، ومن لقيهُ يشركُ به شيئاً، لم ينفعْهُ معهُ حسنةٌ"(2).
وروى جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما -: أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان - فقال: "مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً، وَجَبَتْ لهُ الجَنةُ، ومَنْ ماتَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً، وجَبَتْ لهُ النارُ"(3).
(1) انظر: "المحرر الوجير" لابن عطية (2/ 65)، و"التفسير الكبير" للرازي (10/ 189 - 192)، و "تفسير القرطبي"(5/ 334).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 170)، والطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 19 - معجم الزوائد)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح ما خلا التابعي فإنه لم يسم.
(3)
رواه عبد بن حميد في "مسنده"(1060)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/=
ويروي عُبادةُ بنُ الصامِتِ - رضي الله تعالى عنه -: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال- وحوله عصابةٌ من أصحابه -: "بايِعوني على ألاّ تُشْرِكوا باللهِ شيئاً، ولا تَسْرِقوا، ولا تَزْنوا، ولا تَقْتُلوا أولادَكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تَفْتَرونَهُ بينَ أَيْديكُم وأَرْجَلِكُم، ولا تَعْصوا في معروفٍ، فَمَنْ وفَى منكم، فأجرُه على الله، ومن أصابَ من ذلكَ شيئاً، فعوقبَ به (1) في الدنيا، فهو كفَّارَةٌ له، ومن أصابَ من ذلكَ شيئاً، ثم سَتَرَهُ اللهُ، فهو إلى الله، إن شاءَ عَفَا عنه (2)، وإن شاءَ عاقَبَهُ"، فبايعناه على ذلك (3).
وقال ابنُ عمر - رضي الله تعالى عنهما -: كنا معشرَ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نشكُّ في قاتلِ المؤمنِ، وآكلِ مالِ اليتيم، وشاهدِ الزورِ، وقاطعِ الرحم، حتى نزلت:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، فأمسكنا عن الشهادة (4)، يعني: الشهادة لهم بالنار.
وثالثها: دلالةُ الإجماعِ في نظائِرها على جوازِ التوبة منها؛ كالفرارِ من الزحف، والتعدِّي في المواريث.
قال الله سبحانه في الفرار من الزحف: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [الأنفال: 16].
= 232 - 233). ورواه مسلم (93)، كتاب الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئاً دَخل الجنة، نحوه.
(1)
"به": ليست في "أ".
(2)
في "أ": "غفر".
(3)
رواه البخاري (18)، كتاب: الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار، ومسلم (1709)، كتاب: الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها.
(4)
تقدم تخريجه.
وقال تعالى في المواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى أن قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14].
فقد توعَّدَ الموليَّ يومَ الزحف بأَنَّ مأواهُ جهنمُ، والمتعديَ في حدوده بالخلود في النار.
وقد أجمعَ المسلمون على قَبول توبتِهم، فوجبَ بهذهِ الأدلَّةِ القضاءُ بآية المغفرةِ على آية العذاب.
قال قريشُ بنُ أَنسٍ: كنتُ عندَ عَمُرِو بْنِ عُبَيْدٍ في بيته، فأنشأَ يقولُ: يؤتى بي يومَ القيامة، فأُقامُ بين يَدَي الله، فيقول: قلت: إن القاتلَ في النارِ، فأقول: أنتَ قلتَ، ثم تلا هذه الآية:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]، حتى فرغ منها، فقلتُ له -وما في البيت أصغرُ مني-: أرأيتَ إن قالَ لكَ: فإني قلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (116)} [النساء: 116] من أين علمتَ أني لا أشاءُ أن أغفرَ لهذا؟ قال: فما استطاعَ أن يردَّ عليَّ شيئاً (1).
وأما ما روي عن ابن عباسٍ وغيرهِ من السَّلَفِ -رضي الله تعالى عنهم - من قولهم: لا توبةَ للقاتلِ، فمحمولٌ على التغليظِ وتنفيرِ الناس من هذِه الكبيِرةُ؛ فإن الأولى لأهل الفَتْوى سلوكَ سبيلِ التغليظِ، ولا سيَّما في القتل.
يدلُّ على ذلك ما روي: أن سفيانَ بنَ عُيَيْنةَ سُئِلَ عن توبةِ القاتل،
(1) رواه سعيد بن منصور في "سننه"(4/ 1347)، والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 281 - 282)، وابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث"(1/ 83)، والبيهقي في "البعث والنشور"(1/ 46)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(12/ 182).
فقال: كان أهل العلم إذا سئلوا، قالوا: لا توبة له، وإذا ابتليَ الرجل، قالوا له: تُبْ (1).
وما روي عن عطاءٍ، عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: أن رجلاً سأله: ألقاتلِ المؤمنِ توبةٌ؟ فقال: لا، وسألهُ آخَرُ: ألقاتلِ المؤمن توبة؟ قال: نعم، فقيل له: قلت لذلك توبة، ولذلك لا توبةَ له، قال: جاءني ذلك، ولم يكنْ قتلَ، فقلت له: لا توبة لك؛ لكيلا يقتل، وجاءني هذا، وقد قَتلَ، فقلت له (2): لكَ توبةٌ؛ لكيلا يلقيَ بيدهِ إلى التهلكة (3).
وروي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -: أنه قال: دعا اللهُ -جَلَّ ذكرُه- إلى المغفرةِ مَنْ زعَمَ أَنَّ عُزَيْراً ابنُ الله، ومن زعمَ أنَّ الله فقيرٌ، ومن زعم أن يدَ الله مغلولةٌ، ومن زعم أن اللهَ ثالثُ ثلاثة، يقول الله سبحانه لهؤلاء:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]؟ قال: وقد دعا إلى توبةِ مَنْ هو أعظمُ جُرْماً من هؤلاء، مَنْ قالَ: أنا رَبُّكُمُ الأَعْلى، ومَنْ قال: ما علمتُ لكمْ من إله غيري، قال: ومن أيَّسَ العِبادَ مِن التوبةِ، فقد جَحَدَ كِتابَ الله، ومن تابَ إلى الله، تابَ الله
(1) في "أ": "قالوا: له توبة". والأثر رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 16).
(2)
"له "ليس في "أ".
(3)
قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف"(1/ 343): رواه الواحدي في "تفسيره الوسيط" من طريق إسحاق بن راهويه، ثنا أبو داود الحفري، ثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عطاء، عن ابن عباس.
وروى نحوه ابن أبي شيبة في "المصنف"(27753)، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ " (ص: 137). قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(4/ 187): رواه ابن أبي شيبة ورجاله ثقات.
عليه، قال الله تعالى:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} (1)[التوبة: 118].
قال ابنُ عباسٍ: فكما لا ينفعُ مع الشركِ إحسانٌ، كذلكَ نرجو أن اللهَ يغفرُ ذنوب المُوَحِّدين (2).
فإن قالَ قائل: فقد رويتُم النسخَ بآيةِ القتل (3) لآية الفرقانِ (4) عن ابنِ عباسٍ وزيدِ بن ثابتٍ رضي الله تعالى عنهم (5).
قلنا: أما قولُ زيدِ بنِ ثابتٍ، فمحمولٌ على أن الغليظة نسخت من اللينة، ليَّنَها الهنيء (6) الذي لا نَكَدَ (7) فيه، وأما حكمُها فلم تنسخه.
وأما ابنُ عباس، فلم يقلْ بالنسخِ، وإنما حَمَل آيةَ الفرقانِ على المشركين، وحمل آيةَ النساءِ على المؤمنِ الذي التزمَ أحكامَ المؤمنين.
وأما روايةُ سعيدِ بنِ جبير عن ابن عباس: أن هذه مكيةٌ، وتلكَ مدنيةٌ نسختها (8).
(1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(4/ 315) وعزاه إلى ابن جرير وابن المنذر.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(16/ 130). وانظر: "تفسير ابن كثير"(3/ 140)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 534).
(3)
أية القتل هي: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].
(4)
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
"الهنيء": ليست في "أ".
(7)
"نكد": ليست في "أ".
(8)
رواه البخاري (4484)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الفرقان، ومسلم =
فلعل قوله: نسختها، زيادةٌ من بعضِ الرواةِ عن ابن جبيرٍ.
فالمشهورُ من روايةِ ابن جُبيرٍ ما ذكره البخاريُّ في "جامعه" عن ابن جُبَيرٍ قال: آية اختلفَ فيها أهلُ الكوفةِ، فرحلتُ فيها إلى ابنِ عباسٍ، فسألتُه عنها، فقال: نزلتْ هذه الآيةُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93]، هي آخر ما نزلَ، فما نسخَها شيء (1).
وهذا ينفي أن تكونَ منسوخةً، ولا يثبتُ أن تكونَ ناسخة لآية الفرقان.
وهو وإن صحَّ عنه، فليس على توقيفه عن النبي صلى الله عليه وسلم دليلٌ، وإنما قالهُ ابنُ عباسٍ باجتهادِه، واستدلَّ بتأخُّرِ نزولِ آية النساء، وقد قامتِ الأدلةُ التي قدمتُها عندَ غيره على إحكام الآيتين، وأنه (2) لا معارضة بينهما.
وأنكر مَكَيُّ بنُ أبي طالب إمكانَ النسخِ في الآيتين؛ لأنهما خبرٌ من الله سبحانه عن حكمِه، وحكمُهُ يستحيلُ فيه النسخُ؛ لإفضائه إلى الكذبِ (3).
وهذا غَفْلَة منه؛ فإن الآيتين لَفْظُهُما لفظُ الخَبَرِ، ومعناهُما الحُكْمُ الذي يجوزُ وقوعُه على وجهينِ من التخليدِ وعدمِ التخليدِ، وكلُّ ما جازَ وقوعُهُ على وجهين، جاز الحكمُ بنسخِه، ولأنه لو كانَ الأمرُ على ما ذكر، لما جازَ
= (3023)، كتاب: التفسير، باب قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} . رواه البخاري (4314)، كتاب: التفسير، باب:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، ومسلم (3023)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} ، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 15)، وغيرهما، وهذا لفظ البيهقي.
(2)
في "أ": "وأن".
(3)
انظر: "البحر المحيط" للزركشي (3/ 158)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (1/ 315).
الغفرانُ عن الفرارِ من الزحفِ وأمثالهِ إذا لم يتبْ، وهذا لا يقولُهُ أحدٌ من أهل السُّنَّة.
وجميعُ ما مضى في حكم اللهِ سبحانه في الدارِ الآخرة، وأما أحكامُ الله عليه في دارِ الدنيا، فإنه يجبُ عليهِ القصاصُ.
* وهل تجبُ عليه الديةُ مع القصاص، أو لا تجب إلا برضاه واختياره؟
فيه خلافٌ سبقَ ذكرُه في سورة البقرة.
* ومتى وجبتْ عليه الديةُ، وجبت عليهِ حالَّةٌ مُغَلَّظَةٌ، ولا تحملُ العاقلة منها شيئاً (1).
* واختلفوا في وجوبِ الكَفَّارةِ عليه، وقد مضى ذكرُ ذلك.
* إذا تقرَّرَ هذا، فقد قسمَ اللهُ سبحانه القَتْلَ إلى خَطَأٍ وعَمْدٍ، وذلكَ إجماعٌ.
* واختلفَ أهلُ العلمِ هل بينَ العَمْدِ والخَطَأِ وَسَطٌ، أو لا؟
- فذهب جمهورُ فقهاءِ الأمصارِ إلى أن بينَهما وسَطاً يُسَمَّى شِبْهَ العَمْدِ، فلم يوجبوا فيه القِصاص (2).
- وذهبَ مالكٌ والليثُ إلى أنه لا واسطةَ بينَ القصدِ إلى القتلِ وعدمِ القصد، كما لا واسطةَ بينَ القيامِ والقُعودِ، فأوجبَ فيه القصاص (3).
(1) انظر: "مختصر المزني"(ص: 224) و"الأم" للشافعي (6/ 112)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 44)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 200).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 200)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 321)، و"المهذب" للشيرازي (2/ 196)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 606)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 216).
(3)
انظر: "المدونة الكبرى"(16/ 306)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 164).
واحتجَّ الجمهورُ بأن عمرَ، وعثمانَ، وعليًّا، وزيدَ بن ثَابِتٍ -رضي الله تعالى عنهم -، وأبا موسى، والمغيرةَ بنَ شعبةَ -رضي الله تعالى عنهم - قالوا بإثبات ذلك، ولم يخالفْهُم منَ الصحابةِ أحدٌ، فكان إجماعاً فيه، أو كالإجماعِ (1).
ومما رويَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنَّ في قتيل الخطأ بالسَّوْطِ والعَصا مِئةً من الإبل مُغَلَّظَةً، منها أربعونَ خَلِفَةً"(2)، إلا أنه حديثٌ مضطربٌ عندَ أهلِ
(1) انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 383)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 165)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 297).
(2)
رواه أبو داود (4549)، كتاب: الديات، باب: في دية الخطأ شبه العمد، والنسائي (4799)، كتاب: القسامة، باب: من قتل بحجر أو سوط -ذكر الاختلاف على خالد الحذاء-، وابن ماجه (2628)، كتاب: الديات، باب: دية شبه العمد مغلظة، والإمام الشافعي في "مسنده"(345)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 11)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(5/ 345)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(10/ 42)، والدارقطني في "سننه"(3/ 105)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 44)، عن عبد الله بن عمر.
وينظر ما قيل في اضطراب الحديث، وأن الصحيح فيه هو ما جاء عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، لا عن عبد الله بن عمرو بن العاص:"شرح معاني الآثار" للطحاوي (3/ 189)، و"علل الحديث" لابن أبي حاتم (1/ 461 - 462)، و"موضح أوهام الجمع والتفريق" للخطيب البغدادي (2/ 241)، وابن عبد البر في "الاستذكار"(8/ 45 - 46)، و"الدراية في تخريج أحاديث الهداية" لابن حجر (2/ 261)، خَلِفَة: الخَلِفَة: الناقة الحامل وجمعها خَلِفٌ، بكسر اللام. وقيل: جمعُها مخاضٌ على غير قياس، كما قالوا لواحدة النساء امرأة، وقيل: هي التي استكملت سنة بعد النتاج ثم حمل عليها فلقحت؛ وقال ابن الأعرابي: إذا استبان حملها فهي خَلِفَةٌ حتى تُعشر "اللسان"(مادة حلف)(9/ 94).
الحديث، لا يثبتُ من جهةِ الإسناد، وإن كان أبو داودَ قد خرجه، قاله ابنُ عبدِ البَرِّ (1).
واحتجَّ الجمهورُ من طريقِ النظرِ بأنَ العَمْدَ هو القَصْدُ، والنيةُ لا يطَّلعُ عليها إلا اللهُ تعالى، وإنما الحكمُ بما ظهرَ.
* فمن قصدَ ضرب أحدٍ بآلةٍ تَقْتلُ غالِباً، كان عامِداً، ومن قَصَدَ ضربَ رجلٍ بعينه بآلةٍ لا تقتلُ غالباً، كانَ حكمُه متردداً بينَ العمدِ والخطأ في حَقِّنا، لا في حقيقةِ الأمر عند الله سبحانه.
* ثم اختلفَ الذين قالوا به في حقيقته.
فقال أبو حنيفة: كلُّ ما عدا الحديدِ من القصبِ والنارِ والحجرِ، فهو شبهُ العمد (2).
وقال أبو يوسفَ: شبهُ العَمْدِ ما لا يَقْتلُ مثلُه (3).
وقال الشافعيُّ: هو ما كان عَمْداً في الفِعْل، خَطَأً في القتلِ، أي: لم يقصدْ به القتلَ، فتولد عنه القتلُ، والخطأُ ما كان خَطَأً فيهما، والعَمْدُ ما كانَ عَمْداً فيهما (4).
وهذا تحقيقٌ حسن، فالحنفيةُ نظروا إلى الآلةِ التي حَصلَ بها القتلُ، والشافعيُّ نظرَ إلى الآلةِ والأحوالِ التي كانَ من أجِلها القتلُ، ولكُلٍّ متمسَّكٌ
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 45).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 200).
(3)
وهو قول محمد. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 200)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 166).
(4)
وهو قول أحمد. انظر: "مختصر المزني"(ص: 244)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 215)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 166)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 216).
من الحديثِ والقياس، وموضعُهُ كتبُ الفقه والخلاف.
* * *
92 -
* أمرَ اللهُ سبحاَنُه الغُزاة في سبيلهِ أَنْ يَتبَيَّنوا، أي: يتأنَّوا، ويتعرَّفوا، قال الأعشى:[البحر المتقارب]
تَبَيَّنَ ثُمَّ لرْعَوَى أو قَدِمْ (1)
* وبين النبيُّ صلى الله عليه وسلم صفةَ التبيُّنِ بفِعْله وقولِه، فكان إذا غزا قوماً، فإنْ سمعَ أَذاناً، كَفَّ عنهم، وإن لم يسمعْ، أغارَ عليهم (2).
وروي أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا بعثَ سَرِيِّةً قال: "إذا رأيْتُمْ مَسجِداً، أو سمِعْتُمْ مُؤَذِّناً، فلا تَقْتُلوا أحداً"(3).
(1) انظر "ديوانه": (ق 3/ 75)، ورواية البيت في الديوان:
كما رَاشداً تَجدن امرأً
…
تبَيَّنَ ثم انتهى أو قَدِمْ
(2)
رواه البخاري (585)، كتاب: الأذان، باب: ما يحقن بالأذان من الدماء، عن أنس بن مالك.
(3)
رواه أبو داود (2635)، كتاب: الجهاد، باب: في دعاء المشركين، والترمذي (1549)، كتاب السير، باب: ما جاء في الدعوة قبل القتال وقال: غريب، والنسائي في "السنن الكبرى"(8831)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 448)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(33077)، وسعيد بن منصور في "سننه"(2385)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 108)، عن عصام المزني.
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري " له (3/ 441): قال علي بن المديني:=
فمتى رأى الغزاةُ شِعارَ الإسلامِ في حيٍّ أو بلدٍ، وجبَ عليهمُ الكَفُّ عنهم؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ثم بين صِفَةَ التبيُّنِ في الذين لم تبلغْهُمُ الدعوةُ، أو بلغتْهُم ولم يَبْلُغْهم إنزالُ الحَرْبِ بهم، فكانَ إذا بعثَ سرية قال لأميرها:"إذا لقيتَ عَدُوَّكَ من المُشركين، فادْعُهُمْ إلى ثلاثِ خصال - أو: خِلالِ - فأيتهنَّ أجابوكَ، فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ادْعُهُم إلى الإسلامِ، فإنْ أجابوكَ، فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم إلى التَّحَوُّلِ عن دارِهم إلى دارِ المُهاجرين، وأَعْلِمْهم أنهم إن فَعَلوا ذلكَ أَنَّ لهم ما لِلْمُهاجِرين، وأَنَّ عليهم ما على المُهاجرين، فإنْ أَبَوا، واختاروا دارَهم، فأعلمْهم أنهم يكونونَ كأعرابِ المُسلمين، يجري عليهم حكمُ الله الذي يَجْري على المؤمنين، ولا يكونُ لهم في الفَيْءِ والغَنيمَةِ نصيبٌ، إِلَّا أن يُجاهِدوا مع المُسلمين، فإن هُمْ أَبَوا، فادْعُهُم إلى إعطاءِ الجِزْيَةِ، فإنْ همْ أَجابُوا، فاقبلْ منهمْ، وكُفَّ عنهم، وإن أَبَوا، فاسْتَعِنْ باللهِ، وقاتِلْهم"(1).
فمتى وقع الغزاةُ إلى قومٍ لم تبلغْهُم الدعوةُ، فعلوا بهم ما أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
* فإن قال قائل: فقد ثبتَ أنه صلى الله عليه وسلم كان يُبَّيتُ العدوّ (2) على بني المُصْطَلِقِ وهمْ غازُّون (3).
= إسناد مجهول، وابن عصام لا يعرف، ولا ينسب أبوه.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
روى البخاري (2785)، كتاب: الجهاد، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر، فجاءها ليلاً، وكان إذا جاء قوماً بليل لا يغير عليهم حتى يصبح
…
" الحديث.
(3)
رواه البخاري (2403)، كتاب: العتق، باب: من ملك من العرب رقيقاً، فوهب=
قلنا: اختلفَ أهلُ العلمِ في ذلكَ على ثلاثةِ مذاهبَ.
- منهم من ذهبَ إلى الجَمْعِ، وهمُ الجمهورُ، فحملَ أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالدعاءِ لهم إلى الثلاث الخِصال على الاستحباب، وحَمَلَ فعلَه على الجواز، والحكمُ عندَهُ أنه لا يَجِبُ تكرارُ الدعوةِ إلى المشركين بعدَ بلوغِها إليهم، ولكنها تستحبُّ (1).
- ومنهم من ذهبَ إلى التعارضِ، فذهب جمهورُهم إلى النسخ، فقال: إنَّ فِعْلَهُ ناسخٌ لقوله، وإن ذلك إنما كانَ في أولِ الإسلامِ قبلَ أن تنتشر الدعوةُ، والحكمُ عندهم: أنه لا يجبُ تكرارُ الدعوةِ، ولا يستحبُّ.
- وذهبَ بعضُهم إلى الترجيح، فرجَّحَ قولَه على فعلهِ صلى الله عليه وسلم، فأوجبَ تكرارَ الدعوة (2).
ولو جُمعَ بين الحديثين بان قولَه في الذين لم يتحققْ منهمُ العِناد، وفِعْلَهُ في الذين قد علمَ منهم مَحْضَ العِناد، لكان أولى وأحسن (3)، ولم أقفْ عليه لأحدٍ (4).
= وباع وجامع وفدى وسبى الذرية، ومسلم (1730)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، عن نافع، عن ابن عمر.
والغازُّ: هو الغافل. "اللسان"(مادة غرر)(5/ 13).
(1)
وبه قال نافع والحسن والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر. وصححه النووي. انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 36).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 36).
(3)
وأحسن": ليس في "أ".
(4)
قلت: قد قال الإمام ابن عبد البر بمثل هذا القول. انظر: "التمهيد" له (2/ 216).
* وحرم الله سبحانه قتلَ الرجلِ إذا أظهرَ الإسلامَ، وان غلَب على الظَّنِّ أنه فَعَلَهُ تَقِيّهً، فقال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (94)} [النساء: 94].
وسببُ نزولها ما رواهُ البخاريُّ عن عطاءٍ عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - قال: كان رجلٌ في غُنَيْمَةٍ لَهُ، فلحقه المُسلمون، فقال: السلامُ عليكم، فقتلوهُ، وأخذوا غُنَيْمَتهُ، فأنزل اللهُ عز وجل إلى قوله:{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (94)} (1)[النساء: 94].
وقال ابنُ عباسٍ أيضًا - في رواية أبي صالح: - نزلت هذه في رجلٍ من بني مُرَّةَ بنِ عوف، يقال له: مِرْداسُ بنُ نَهيك، وكانَ من أهلِ فَدَكَ، وكان مُسْلمًا لم يُسْلِمْ من قومِه غيرُه، فسمعوا بِسَريَّةٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم تريدُهم، وكانَ على السريةِ رجلٌ يقالُ له: غالبُ بنُ فَضالةَ الليثيُّ، فهربوا، وأقامَ الرجلُ؛ لأنه كانَ على دين المسلمين، فلما رأى الخيلَ، خاف أن يكونوا من غيرِ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فألجأَ غَنَمَهُ إلى عاقولٍ (2) من الجبلِ، وصَعِد هو إلى الجبل، فلما تلاحقتِ الخيلُ، سمعهم يكبِّرون، فلما سمعَ التكبيرَ، عرفَ أنهم من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كَبَّرَ ونزلَ وهو يقولُ: لا إلَه إلا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، السلامُ عليكم، فتغشَّاهُ أسامةُ بنُ زيدٍ فقتله، واستاقَ غَنَمَهُ، ثم رَجَعوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فَوَجَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وَجْداً شديداً، وقد كانَ سبقَهم قبل ذلك الخبرُ، فقال رسولُ صلى الله عليه وسلم:"قَتَلْتُموهُ إرادَةَ ما مَعَهُ! "، ثم قرأ هذه الآيةَ على
(1) رواه البخاري (4315)، كتاب: التفسير، باب:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} "، ومسلم (3025)، كتاب: التفسير.
(2)
عاقول: ما التبس من الأمور، وأرض عاقول: لا يُهتدى لها. "اللسان"، (مادة عقل)(11/ 463).
أسامةَ بنِ زيدٍ، فقال: يا رسول الله! استغفر لي، فقال:"فكيفَ بلا إلهَ إلا اللهُ؟ "، فقالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مراتٍ، فقال أسامةُ: فما زال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعيدُها حتى وَدِدْتُ أني (1) لمْ أكنْ أسلمتُ إلا يَوْمَئِذٍ، ثم إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استغفرَ لي بعدُ ثلاثَ مراتٍ، وقالَ:"أَعْتِقْ رَقَتة"(2).
وروى أبو ظبيانَ عن أسامةَ قال: قلتُ: يا رسولَ الله! إنما قالها خوفاً منَ السلاح، قال:"أَفَلا شَقَقْتَ عن قلبِه حتى تعلَم أَقالها أم لا؟ "(3).
والسَّلَامُ والسَّلَمُ بمعنى، وهو تحيةُ الإسلام.
فإن قيل: فما حكمُ القاتلِ اليومَ إذا فعلَ مثل هذا؟.
قلنا: يقتلُ قِصاصاً.
فإن قيل: فلمَ لمْ يقتلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أسامةَ بنَ زيدٍ وغيرَهُ؟
قلنا: إنما قتلَهُ أسامةُ متأوِّلًا، فظنَّ أنهُ قالَها تَقيَّةً، وكانَ هذا التأويلُ منه في صَدْرِ الإسلامِ، قبل أن تَسْتَقِرَّ الشريعةُ وتنتشرَ (4).
* * *
(1) في "أ": "أن".
(2)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 224)، عن السدي، بنقص يسير.
ورواه الثعلبي في "التفسير"(3/ 367) من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس بلفظ قريب. قال الحافظ ابن حجر في "العجاب في بيان الأسباب" (1/ 237): رواه الكلبي عن أبي صالح، والكلبي اتهموه بالكذب، وقد مرض فقال لأصحابه في مرضه: كل شيء حدثتكم عن أبي صالح كذب.
(3)
رواه مسلم (96)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله.
(4)
انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 369)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 324)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 218).
93 -
* فيها دليلٌ على أن الجهادَ يسقطُ عن أولي الضررِ، معَ بقاءِ فضل المُجاهدين لهم إذا نَوَوُا الجِهاد لو كانوا سالِمين من الضرَرِ (1).
* وفيها دليل على أن الجِهاد لا يجبُ على جميعِ أعيان المُسلمين (2)؛ إذ قدْ (3) وعدَ اللهُ القاعدين بالحُسْنى كما وعدَ المجاهدين (4)(5).
* * *
94 -
(36) قولُه عَزَّ جَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 97 - 98].
قد تقدَّم الكلُام على حكمِهما في الهِجْرَةِ.
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 315)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 467).
(2)
أما في حالة النفير العام إن نزل العدو بأرض الإسلام فهو حينئذ فرض عين. انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (1/ 289)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (4/ 191)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/ 38).
(3)
"قد" ليس في "أ".
(4)
انظر: "أحكام القرآن" للشافعي (2/ 33)، و "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 277)، و "تفسير الثعلبي"(3/ 370)، و "المهذب" للشيرازي (2/ 277).
(5)
للإمام ابن القيم رحمه الله تفصيل وتقسيم حسن في هذه المسألة، حيث قال: جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، ثم شرع بتفصيل كل نوع من هذه الأنواع وبيان حكمه. انظر:"زاد المعاد" لابن القيم (3/ 71 - 75).