المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الطلاق)

- ‌(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة)

- ‌(أحكام الخلع)

- ‌(النَّهي عن مضارَّة المطلقة)

- ‌(النهى عن عَضْل المطلقات)

- ‌(من أحكام الرضاع)

- ‌(عدة المتوفى عنها زوجها)

- ‌(التعريض بخطبة المعتدَّة)

- ‌(طلاق المفوّضة)

- ‌(حكم المطلقة قبل المس وبعد الفرض)

- ‌(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف)

- ‌(عدَّةُ المتوفَّى عنها)

- ‌(متعة المطلقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(صدقة التطوع)

- ‌(تحريم الرِّبا)

- ‌(وجوبُ تركِ التَّعامُل بالرِّبا)

- ‌(المُداينة)

- ‌(الرَّهن)

- ‌سُورَةُ آلَ عِمْرَانَ

- ‌(النَّهي عن اتخاذ الكافرين أولياء)

- ‌(فَرضُ الحجِّ)

- ‌(الشوري)

- ‌سُورَةُ النِّسَاءِ

- ‌(من أحكام اليتامي)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الوصية)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(من أحكام التوبة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الطهارة والصلاة)

- ‌(من أحكام الإمامة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام السَّلام)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام القصاص والديات)

الفصل: ‌(من أحكام الرضاع)

(من أحكام الرضاع)

41 -

(41) قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233].

أقول: أنزل اللهُ -سبحانَه- في شأنِ المُرْضِعاتِ آيتين:

إحداهما خاصَّة بالوالداتِ المُطَلَّقاتِ، وهي التي في سورة الطَّلاقِ (1)، وسيأتي الكلامُ عليها إن شاء الله تعالى.

والأخرى هذه، ويحتملُ أن تكونَ عامَّةً في المطلقاتِ والمُزَوَّجاتِ، ويحتمل أن تكونَ خاصَّةً بالمزوَّجات، وهو أظْهر الاحتمالين (2)، والله أعلم.

ص: 73

فإن قلتم: فما الدليلُ (1) على أن هذه في المزوَّجات؟

قلت: إيجابُه فيها ما يجبُ للزوجةِ من النفقةِ والكسْوَةِ؛ كما قال اللهُ تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، وقولِه تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233]، فأباح الاسترضاع للآباءِ مُطْلَقًا، ولم يبحه في آيةِ الطلاق إلا عند التَّعاسرِ.

وقد اشتملتْ هذه الآيةُ على جُمَلٍ من الأحكام:

الجملة الأولى: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ} [البقرة: 233]، فأوجب الله سبحانه على الوالدات أنْ يُرضعْنَ أولادهُنَّ، فورد الوجوب مصادمًا لهنّ.

- فمنهم من أَخَذ بظاهرِ الخِطاب، فأوجبَ على الوالدةِ المزوَّجَةِ أن ترضعَ للزوجِ ولدَهُ، وهو قول أبي ثور (2)، ومالكٍ في أحدِ قوليه (3)، وأحسبه مذهبَ أبي حنيفة (4)، وكان هذا من جملة منافعِها المستحقة للزوج؛ بدليل أنَّه لم يوجب على الزوج إلا النفقةَ والكُسوةَ التي هي من خصائص الزوجيَّةِ.

(1) في "ب": "دلَّك".

(2)

وهو قول ابن حزم والظاهرية، وابن أبي ليلى والحسن بن حي. انظر "المحلى" لابن حزم (10/ 337)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 430).

(3)

لم أجد هذا القول عن مالك ولا في المذهب هكذا مطلقًا إلا عن القاضي عبد الوهاب، كما يأتي بعد قليل، ولكن حكاه ابن حزم وابن قدامة. انظر:"المحلى" لابن حزم (10/ 337)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 430).

(4)

مذهب الحنفية: أن الأم لا يجب عليها إرضاع ولدها قضاءً، أما ديانة فيجب عليها، لهذا قالوا: لا يجوز لها أن تأخذ أجرة الإرضاع. انظر: "البناية" للعيني (5/ 535 - 534).

ص: 74

- ومنهم من حمل هذا الأمر على الاختيار، واستدلَّ عليه بآية الطلاق، وسوَّى بين المطلَّقة والمزوَّجة.

فإما أنَّه جعل آية الطلاق مبيِّنةً لآية البقرة، أو (1) أنَّه رأى سياق الآية لبيانِ مدَّةِ الرَّضاعِ، لا لبيانِ إيجابه، وهو مذهب الشافعي (2).

وله أن يقول: إنما ذكرتِ (3) النفقةُ والكسوةُ مَثَلًا وَتنبيهًا عَلى أن غالب كسب المرأة هو (4) منفعة بُضْعِها، وإذا اشتغلت برضاع ولدها وحضانته انقطعتْ عن (5) النكاحِ غالبًا، وفاتَ كَسْبُها؛ فضرب الله سبحانه هذا مثلًا يُحتذى به في تقدير الأجرة على ذوي اليَسار.

- ومشهور مذهب مالكٍ أنَّه يجب على الدَّنِيَّةِ إرضاعُ ولدِ زَوْجها، ولا يجبُ على الشريفة (6)؛ نظرًا إلى عادة الناس وعُرْفِهم، ولهذا وجه قويٌّ، وهو من المعاشرة والائتمار بالمعروف.

الجملة الثانية: قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]

(1)"ب": "و".

(2)

وهو مذهب الحنابلة، وهو قول الثوري. انظر:"الحاوي" للماوردي (11/ 494)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 88)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 430).

(3)

في "ب": "ذكر".

(4)

في "ب": "وهو".

(5)

في "ب": "من".

(6)

وهذا هو المذهب. وهناك من قال منهم؛ كالقاضي عبد الوهاب: لا يلزمها، إلا أن لا يقبل غيرها. وقال ابن رشد: يستحب للأم أن ترضع ولدها.

انظر: "المدونة"(2/ 304)، و"المقدمات الممهدات" لابن رشد (1/ 496)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 278)، و"الذخيرة" للقرافي (4/ 270).

ص: 75

* بيَّن الله - سبحانه - أن تمامَ مدةِ الرَّضاع حَوْلان كامِلان (1)، فلو أرادتِ الوالدةُ أن تُرْضِعَ الولدَ أكثرَ من حَوْلَيْنِ، لم تستحقَّ أجرةً، وإن كانت مُطَلَّقَةً؛ لأنه فوقَ تمامِ مُدَّةِ الرَّضاعِ، وإن أراد أَحَدُ الأبوين أن يفطمَه لدونِ الحولين، لم يجزْ إلا عن تشَاور (2).

* ثم ظاهرُ الخطابِ أنَّه عامٌّ في جميع الأولاد.

- وبه قال عامَّةُ أهلِ العلم بالقرآن (3).

- وروي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -: أنَّه قال: هذه الآية في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر، فرضاعُهُ ثلاثةٌ وعشرون شهرًا، فإن مكثَ ثمانيةَ أشهر، فرضاعهُ اثنان وعشرون شهرًا، فإن مكثَ تسعةَ أشهرٍ، فرضاعهُ أَحَدٌ وعشرون شهرًا؛ لقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (4)[الأحقاف: 15].

[وقد استنبط أهل العلم من هذه الآية مع قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}: أن أقل مدة الحمل ستة أشهر](5).

(1) في "ب": "حولين كاملين" وهو خطأ.

(2)

انظر: "تفسير الرازي"(3/ 1/ 127)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 116)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 148).

(3)

وقد نسب هذا إلى الجمهور. انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 312)، و"تفسير الرازي"(3/ 1/ 128)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 273)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 150).

(4)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 442)، عن عكرمة، عن ابن عباس. ونسبه السيوطي في "الدر المنثور"(7/ 442) إلى عبد بن حميد في "مسنده"، وابن أبي حاتم في "تفسيره".

(5)

ما بين معكوفتين ليس في "أ".

ص: 76

قال (1) أَبو الأسود الدُّؤَلِيُّ: رُفِعَتْ إلى عُمَرَ رضي الله عنه امرأةٌ ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فأبى عليٌّ -رضي الله تعالى عنه- ذلك، فقال: لا رجمَ عليها، فبلغ ذلك عمرَ، فأرسل إلى عليٍّ فسأله عن ذلك، فقال: لا رجمَ عليها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وقال (2) الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ستة أشهر وحولان كاملان، لا رجم عليها، فخلَّى عنها عمر -رضي الله تعالى عنه - (3).

* وكذلك استنبطوا منها أن الرضاعَ المُحَرِّمَ ما كان في مدة الحولين (4)، واستدلوا (5) بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الرضاعةُ من المجاعة"(6).

وسيأتي الكلام على هذا في سورة النساء - إن شاء الله تعالى -.

الجملة الثالثة: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا}

(1) في "أ": "وقال".

(2)

في "أ": "قال".

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(13444)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 442).

(4)

وهو قول جماهير أهل العلم. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (18/ 256)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 114)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 319)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 149).

(5)

في "ب": " فاستدلوا".

(6)

رواه البخاري (2504)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، ومسلم (1455)، كتاب: الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة، عن عائشة.

ص: 77

* أوجب الله سبحانه فيها للمرضِع على والد الطفل رزقَ المرضعةِ وكسوتَها (1):

فيحتمل أن يكون ذلك لأجل الزوجية كما رآه (2) مالك (3).

ويحتمل أن يكون لأجل الرضاع - كما رآه الشافعي - فهو أجرة المرضعة (4).

ويترجَّح قول مالك؛ لأن الأجر لا يقدَّرُ بالنفقة والكسوة، وإنما يقدر بالنفقة والكسوة حقوقُ الزوجية.

ومثل هذا قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَهُنَّ عليكُم رزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْروفِ"(5).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "خُذي ما يَكْفيكِ ووَلَدَكِ بالمَعْروفِ"(6).

وللشافعي أن يقول: إنما ضربه الله مثلَا يهتدى به في تقدير الأجرة كما قَدَّمْتُه، وإنما ذكرَ اللهُ -سبحانَهُ - النفقةَ؛ لأنَّ المرضعةَ تتغذَّى بالنفقة، والمولودُ يتغذى بِلِبانِها، فبتمامِ بِنْيَتهِا تتمُّ بِنيةُ المولود، وبصلاحِ جسدهِا

(1) انظر: "تفسير الرازي"(3/ 2/ 129)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 105)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 150).

(2)

في "ب": "رواه".

(3)

وهو مقضى قوله المتقدم بوجوب الرضاع بشرطه.

(4)

وهو مقتضى قول من يقول بأن الرضاع لا يجب على الأم، كما تقدم.

(5)

رواه مسلم (1218)، كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر بن عبد الله في حديثه الطويل.

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 78

يصلُح جسدُه، والكِسوة من تمامِ صلاح الجسد، وتوابعِ النفقة، فجُحل قدرًا للاعتبار به (1).

* وكما أوجبَ اللهُ سبحانه نفقةَ المولودين على الوالدين، أقاس أهل العلم وجوب نفقة الوالدين على المولودِين (2) إذا احتاجوا وعجزوا عن الاستقلال بأنفسهم، وعلى هذا حصلَ الإجماعُ (3)، والله أعلم

الجملة الرابعة: قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233].

* نهى الله سبحانه الوالدِينَ عن المُضارَّةَ لبعِضهم بعضًا بالمَوْلودِ، فلا يجوزُ للوالدة أن تمتنعَ من رَضاعِه إذا لم يوجد غيرُها، أولم يَقبل إلا ثديَها، ولا يجوز للوالد أن ينزعَهُ عنها إلى مرضعةٍ غيرِها، ولا يسافرَ به عِنادًا، فهما فيه على السواء (4)، ولهذا خَيَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم غلامًا اختصم فيه أبوه وأمُّه، فقال:"هذا أبوكَ، وهذِه أمُّكَ، فاخْتَرْ أَيَّهُما شِئْتَ"(5).

(1) في "أ": "قدر الاعتبار به".

(2)

في "ب": "المولود".

(3)

انظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 142)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 373).

(4)

انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 313)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 275)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 241)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 153/1).

(5)

رواه أبو داود (2277)، كتاب: الطلاق، باب: من أحق بالولد؟ والنسائي (3496)، كتاب: الطلاق، باب: إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد، والترمذي (1357)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا، وابن ماجة (2351)، كتاب: الأحكام، باب: تخيير الصبي بين أبويه، عن أبي هريرة.

ص: 79

الجملة الخامسة: قولهُ عز وجل: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] * هذه الجملة مُشْكِلَةٌ من وَجْهين، وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في المَعْنِيِّ بالإشارة، وفي المعنيِّ بالوارث.

فقال قوم: المعنيُّ بالوارث كلُّ من يرثُ المولودَ، والمعنيُّ بالإشارة ما وجب على المولود له من النفقة.

ويروى عن إبراهيمَ، والحسنِ، ومُجاهِدٍ، وعَطاءٍ، وقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وأحمدَ، وإسحاقَ. وروي عن مالكٍ، وسُفيَانَ، وأهلِ العراق أيضًا (1).

ثم اختلفوا: فقالَ قتادةُ: هو وارثُ الصبيِّ، رجلًا كان أو امرأةً، ويلزمهم على قدر مواريثهم، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ (2).

وقال غيرُه: يختص بالوارث من الرجال (3)، واستدلوا بأن عمر رضي الله عنه أجبر (4) عَصَبَةَ صَبِيٍّ أن ينفقوا عليه، الرجالَ دونَ النساء (5).

(1) ويروى عن عمر بن الخطاب وابن جبير وابن أبي ليلى ومقاتل في آخرين. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 500)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 313)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 242).

(2)

وهو قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 501)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 304)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 242)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 154).

(3)

وهو قول عطاء والحسن ومجاهد والنخعي. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 500 - 501)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 313)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 242)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 154).

(4)

في "ب": "خيَّر".

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(12183)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 500)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 432)، عن سعيد بن المسيب: أن =

ص: 80

ولكن الحنفية خَصُّوا الوجوبَ بكل ذي رَحِمٍ محرمٍ، وإن لم يرثْ (1)، ويلزمُ منه أنَّ من ليس له ذو رَحِمٍ محرمٍ يتركُه ضائعًا، وإن كان له عَصَبَة وَرَثةٌ، ولا يجب عليهم شيء، فهم لم يوافقوا ظاهر القرآن، ولا ما فعل عمرُ رضي الله عنه (2).

وقال مالكٌ في روايةِ ابن القاسم: إنها منسوخة (3).

قال النحاس: والذي يشبه أن يكون الناسخُ لهذا عنده -والله أعلم- أنَّه لما أوجب الله تعالى للمتوفَّى عنها زوجُها من مال المتوفَّى نفقةَ حولٍ والسُّكنى، ثم نسخ ذلك، ورفعه، فنسخ ذلك أيضًا عن (4) الوارث (5).

= عمر بن الخطاب حبس بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة. وروى ابن جرير الطبري في "تفسيره"(2/ 501)، عن الزهري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغرم ثلاثة كلهم يرث الصبي أجر رضاعه.

(1)

حكاه الطبري في "تفسيره"(2/ 501) عن أبي حنيفة وصاحبيه أنهم قالوا: الوارث الَّذي يلزمه الإرضاع هو من كان ذا رحم محرم للمولود، فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم، كابن العم والمولى ومن أشبههما، فليس من عفا الله بقوله:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . وانظر: "تأويلات أهل السنة" للماتريدي (1/ 189)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 314)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 154).

(2)

نقل القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(2/ 1/ 154) عن أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق قوله: قالوا قولًا ليس في كتاب الله، ولا نعلم أحدًا قاله. وانظر:"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 69).

(3)

ذكر ذلك عنه: ابن العربي في كتابيه: "أحكام القرآن"(1/ 276)، و"الناسخ والمنسوخ"(2/ 97)، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(2/ 1/ 155).

(4)

في "ب": "على".

(5)

انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 68 - 69).

قال ابن العربي: وجهه: أن علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون =

ص: 81

وهذا قولٌ باطل وتأويلٌ فاسد؛ فإن النسخَ لا يكونُ إلا بالتوقيف، ولا يجوز بالتأويل والقياس (1) على منسوخ آخر، وليته إذا (2) لم يعلم سكتَ عمَّا لم يعلمْ؛ إذ السكوتُ بمن لم يعلمْ أوجبُ وأسلمُ (3).

- وقال قوم: المعنيُّ بالإشارة تركُ المضارَّة.

قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} : [البقرة: 233] على الوارثِ ألا يضارَّ والدةً بولدها (4).

وبه قال الشافعي، وكذا مالكٌ في روايةِ ابنِ وَهْب وأَشْهَبَ عنه (5).

= التخصيص نسخًا؛ لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم، وجرى ذلك في ألسنتهم حتَّى أشكل ذلك على من بعدهم. انظر:"أحكام القرآن" له (1/ 276).

وقال أيضًا: قول مالك إنه منسوخ هو تسامح في تسمية المخصوص منسوخًا؛ لأن التخصيص نسخ لغة، ولكنه ليس به عرفًا، فأجراه مالك على الأصل في الاقتضاء اللغوي. انظر:"الناسخ والمنسوخ" له (2/ 98).

(1)

في "ب": "ولا القياس".

(2)

في "ب": "إذ".

(3)

قلت: قد ذكر ابن العربي معنى ما ذكره النحاس، ولم يشنع على ذلك، بل وجد له أصلَا فقال: فإذا ارتفع ذلك عن الأصل، فارتفاعه عن الوارث الَّذي هو فرعه أولى، وهذا أصل محقق في مسائل الأصول. انظر:"الناسخ والمنسوخ" له (2/ 98 - 99).

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(19157)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 478).

(5)

وهو قول الشعبي والزهري ومجاهد والضحاك وجماعة من العلماء. انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 108)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 180)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 68)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 276)، و"تفسير الرازي"(3/ 2/ 133)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 242)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 154).

ص: 82

وهذا التأويلُ أرجحُ؛ لكون ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- أعلمَ بالقرآنِ وتأويلِه، ولكونِ الأمِّ وارِثَه، ولا يجبُ لها على نفسها شيءٌ من النفقةِ والكِسْوَةِ في مقابلة رَضاعِهِ، ولأن وجوبَ النفقة والكِسوةِ خاصٌّ بالزوج الَّذي هو أبو المولود، والوارثُ لا يجبُ عليه نفقةٌ ولا كِسوةٌ، وإنما يجب عليه الأجرةُ، وهي لا تقدَّرُ بالنفقة والكِسوة.

- وذهب قومٌ إلى التأويل:

فقالَ بعضُهم: الوارثُ هو الطفلُ، عليه نفقتهُ ونفقةُ الوالِدَيْنِ الفقيرينِ (1)، واختار هذا محمدُ بن جَريرٍ الطَّبَرِيُّ (2).

وقال بعضهم: هو وارثُ الوِلايةِ على الطفلِ، تكون نفقةُ الوالدةِ من ما المولود (3).

وهذان التأويلان ضعيفان.

الجملة السادسة: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233].

* أباح الله سبحانه للوالدين فِصالَ المولود قبل الحَوْلين، إذا أطاقَ، بعدَ التشاور من الوالدين، والتراضي منهما.

ومفهوم هذا الخطاب يقتضي أن الوالدة، إذا فصلَتْ ولدَها من غير

(1) وهو قول الضحاك وقبيصة بن ذؤيب وبشر بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز. انظر: "تفسير الطبري"(2/ 502)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 68)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 242)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 154).

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 505).

(3)

حكى هذا القول: مكي في "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه"(ص: 80) دون نسبته لأحد.

ص: 83

مَشُورة على الأبِ أنَّه لا يجوزُ، وهو كذلك (1)، والله أعلم.

الجملة السابعة: قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].

* أباح الله سبحانه للآباء أن يسترضعوا أولادهم، ولم يجعل ذلك من المضارَّةِ للوالدة، وهو كذلك في المزوَّجةِ؛ لأنها مستحقة المنفعةِ للزوج، والرضاعُ يقطع على الزوج منفعتَه، فله أن يجمع بين مصلحته ومصلحة ولده بما لا ضررَ فيه على الوالدة (2).

ومعنى الشرط: إذا سلمتم أجرةَ ما مضى بالمعروف (3).

وأما في المطلَّقة، فلا يسترضعُ الوالدُ الولَد إلا عند التعاسُر.

وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى- (4).

* * *

(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 277)، و"تفسير الرازي"(3/ 2/ 134)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 242)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 157).

(2)

انظر بعض هذه المعاني في: "تفسير الطبري"(2/ 508)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 277)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 314)، و"تفسير الرازي"(3/ 2/ 135).

(3)

أي: سلّمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعت إلى وقت إرادة الاسترضاع، وهذا قول مجاهد والسدي وابن جريج.

وهناك تأويل آخر وهو: إذا سلمتم ما آتيتم من أجرة بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء الأم. وهو قول ابن جبير ومقاتل وسفيان.

انظر: "تفسير الطبري"(2/ 508)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 314)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 243)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 158).

(4)

في سورة الطلاق عند قوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} .

ص: 84