المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الطلاق)

- ‌(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة)

- ‌(أحكام الخلع)

- ‌(النَّهي عن مضارَّة المطلقة)

- ‌(النهى عن عَضْل المطلقات)

- ‌(من أحكام الرضاع)

- ‌(عدة المتوفى عنها زوجها)

- ‌(التعريض بخطبة المعتدَّة)

- ‌(طلاق المفوّضة)

- ‌(حكم المطلقة قبل المس وبعد الفرض)

- ‌(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف)

- ‌(عدَّةُ المتوفَّى عنها)

- ‌(متعة المطلقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(صدقة التطوع)

- ‌(تحريم الرِّبا)

- ‌(وجوبُ تركِ التَّعامُل بالرِّبا)

- ‌(المُداينة)

- ‌(الرَّهن)

- ‌سُورَةُ آلَ عِمْرَانَ

- ‌(النَّهي عن اتخاذ الكافرين أولياء)

- ‌(فَرضُ الحجِّ)

- ‌(الشوري)

- ‌سُورَةُ النِّسَاءِ

- ‌(من أحكام اليتامي)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الوصية)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(من أحكام التوبة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الطهارة والصلاة)

- ‌(من أحكام الإمامة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام السَّلام)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام القصاص والديات)

الفصل: ‌(من أحكام الجهاد)

(من أحكام الجهاد)

87 -

89 (29 - 31) قوله عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 88 - 90].

اختُلِفَ في سببِ نُزولها:

روينا في "الصحيحين"، واللفظُ للبخاريِّ: عن زيدِ بنِ ثابتٍ -رضي الله تعالى عنه-: أنه لما خرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أُحُدٍ، رجعَ ناسٌ مِمَّنْ خرجَ معهُ، وكانَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِرقتين: فرقةٌ تقولُ نقاتلِهم، وفرقةٌ تقول: لا نقاتلهم، فنزلت:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88].

وقال: "إنها طَيْبَةُ تَنْفي الذُّنوبَ كما تَنْفي النارُ خَبَثَ الفِضَّةِ"(1).

(1) رواه البخاري (3824)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (2776)، في أوائل كتاب: صفه المنافقين وأحكامهم، وهذا لفظ البخاري.

ص: 432

وقال مجاهدٌ: هم قومٌ خرجوا إلى المدينةِ، وأسلموا ثم ارتدوا (1)، فاستأذنوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الرجوعِ إلى مكةَ ليأتوا ببضائِعَ لهم يَتَّجِرون فيها، فخرجوا، وأقاموا بمكة (2)، فاختلف المسلمونَ فيهم، فقائل يقولُ: هم منافقون، وقائلٌ يقول: هم مؤمنون (3).

وقال بعضهم: هم قومٌ أسلموا بمكة، ثم لم يُهاجروا، وكانوا يُظاهرون المشركين (4).

وقال بعضُهم: نزلتْ في قومٍ من قريشٍ، قَدِموا المدينةَ وأسلموا، ثم نَدِموا على ذلك، فخرجوا كهيئة المُتَنَزِّهين حتى إذا تباعدَوا من المدينة، كتبوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّا على الذي فارقناك عليهِ من الإيمان، ولكنّا اجْتَوَيْنا (5) المدينةَ، واشتقنا إلى أرْضِنا، ثم إنهم خرجوا في تجارةٍ لهم نحوَ الشامِ، فبلغَ ذلكَ المسلمين، فقال بعضهم: نخرجُ إليهم (6) لنقتلَهُم ونأخذَ ما مَعَهُم؛ لأنهم رغَبِوا عن ديننا، وقالت طائفةٌ: كيف تقتلونَ قوماً على دينِكم لم يَذَروا ديارَهُمْ؟! وكانَ هذا بعَيْنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو ساكتٌ لا يَنْهى واحداً من الفريقين، فنزلتْ هذه الآيةُ (7).

(1)"ثم ارتدوا" ليس في "أ".

(2)

"بمكة" ليس في "أ".

(3)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 193)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 1024).

(4)

وهذا قول ابن عباس، انظر:"تفسير الطبري"(5/ 193)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1023).

(5)

اجتوينا: اجتويتَ البلدَ: إذا كرهتَ المقام فيه، وإن كنت في نعمة. "اللسان"(4/ 158).

(6)

"إليهم" ليس في "ب".

(7)

انظر: "تفسير الثعلبي"(3/ 355)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 459).

ص: 433

وجميعُ ما ذكروه من الأسباب مُحْكَمٌ في العَصْر الذي فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فمن خرجَ من فِئَةِ المسلمين، والتحقَ بفئةِ المشركين، فُهو مُرْتَدٌّ.

وكانَ منِ التحقَ بدارِ الحربِ مُرْتَدًّا غادِراً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُرْتَدًّا كافِراً، وكذا من ظاهرَ المُشركين على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

فإن قال قائل: فالسببُ الرابعُ يقتضي أنَّ من خَرَج إلى دار الحرب مُسْتَوْطِناً لها، وهو معَ ذلك باقٍ على الإيمانِ غيرُ مظاهرٍ للمشركين أنهُ مرْتَدٌّ كافِرٌ كهؤلاء.

قلنا: إنما كفروا، لخبرِ الله عنهم بأنهم كفروا، وأنهم يَوَدُّون كُفْرَ سائرِ المؤمنين، ولم يَكْفُروا بمجرَّدِ الاستيطانِ بدارِ الحرب، ويدلُّ على ذلكَ قولُه تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]، فأوجب على المؤمنين نُصْرَتَهُمْ في دارِ الحربِ، وسَمَّاهم مؤمنين، ولا يجبُ إلا نصرةُ مؤمِنٍ، وأما المرتَدُّ، فلا تجبُ نصرتُهُ.

ولأنَّ سَعْدَ بنَ خَوْلَةَ مِمَّنْ ماتَ بِمَكَّةَ ولم يُهاجر -كما قال عيسى بنُ دينارٍ وغيرُه (1)(2) - أو هاجرَ ثم رجعَ بعد شهودِهِ وَقْعَةَ بَدْرٍ -كما قالَ البخاريُّ (3)، وهو مؤمن بالاتفاقِ (4)، ولكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَثى له، كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.

فإن قال: فظاهرُ الآيةِ يقتضي أنهم ارتدُوا بتركِ الهجرةِ والرجوعِ عنها

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 180).

(2)

وقد ردَّ هذا القول غير واحد. انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 587).

(3)

انظر: "صحيح البخاري"(4/ 1466).

(4)

وانظر: "شرح البخاري" لابن بطال (3/ 279)، و "شرح مسلم" للنووي (11/ 79).

ص: 434

فقط، وأنهم لا يُقْبل إسلامُهم إلا مع الهجرة؛ ولا يُقبل بدون الهجرة؛ لأن الله سبحانه نَهى عن مُوالاتهم حتى يهاجروا في سبيل اللهِ، وأمرَ بقتلهم عندَ امتناعهم عن الهجرة.

ويدل على هذا الظاهرِ قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، فلم يعاتبهمُ الله إلا على تَرْكِ الهجرةِ، وجَعَلَها سبباً لمأواهم جهنمَ.

ويدلُّ عليهِ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، في حديثِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ المخرَّجِ في "الصحيحين": أنه لما مرضَ بمكَّةَ، عادَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال:"اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحابي هِجْرَتَهُمْ ولا تَرُدَّهُمْ على أَعْقابِهِمْ"(1).

قلنا: لأجلِ هذهِ الظواهرِ قال الواحديُّ والبَغَوِيُّ من الشافعيةِ في "تفسيريهما": لم يكنِ الله ليقبلَ بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إسلاماً إلا بهجرة، ثم زادَ البغويُّ فقال: ثم نُسِخَ ذلكَ بعدَ الفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ"(2)(3).

والذي قالاه غير صحيح؛ لما قدمته من دلالة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72].

وموضعُ الدلالةِ أنَّ الله سبحانه سَمّاهم مؤمنين، وأمرَ بِنُصْرتهم، ولا يأمرُ إلا بنصرةِ مؤمنِ، وأما المرتَدُّ، فلا تجوزُ نُصرته بحالٍ.

(1) رواه البخاري (1233)، كتاب: الجنائز، باب: رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، ومسلم (1628)، كتاب الوصية، باب: الوصية بالثلث.

(2)

انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 584).

(3)

انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 469)، و"تفسير الواحدي"(1/ 284).

ص: 435

فإن قيل: فالمرادُ به المستضعفون غيرُ المستطيعين، فيكونُ عامًّا مَخْصوصاً بالمستضعفين؛ بدلالةِ هذه الآيات والظواهرِ.

قلنا: نصرةُ المستضعفينَ واجبة على كلِّ قومٍ، سواءٌ كان بينَنا وبينَهُم ميثاقٌ، أم لا؛ لأن لهم حكمَ المؤمنين؛ لكمال إيمانهم؛ لأنهم معذورون، وأما غيرُ المستضعفين، فغير معذورين، فوجبتْ نصرتُهم على الحَرْبِيِّ؛ لإيمانهم، ولا تجب نُصرتُهم على المعاهَدِ؛ لنُقصان إيمانِهم.

وأما الجوابُ عن الظواهرِ، فهو أن الهجرةَ كانت عُنواناً للإيمان، وميزاناً للإسلامِ في زمنِ النبِّي صلى الله عليه وسلم، يتبينُ فيها المؤمنُ من المنافقِ:

فمنافقُ مكة تبينَ بتركِ المهاجَرَةِ من مكةَ إلى المدينة، وإذا أخبرَ اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بكفرِه، فهو كافرٌ.

ومنافقُ المدينةِ يتبينُ بتركِ المُجاهدةِ في سبيلِ الله -سبحانه- مع رسوله، قال الله سبحانه:{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90]، فسماهم كَفَرَةَ.

وكان الفرقُ بينهم أن منافقَ دارِ الحربِ تجري عليه أحكامُ المحاربين منَ القتلِ والأسرِ والاسترقاق، ومنافقَ دارِ الإسلام يُعْصَمُ دمُه ومالُه وولدُه بالإسلام، وتجري عليه أحكامُ المسلمين.

وأما إذا لم يُهاجِرْ من مكةَ إلى المدينة، ولم يخبر اللهُ سبحانه بردَّتِهِ وكفرِه، فإنه باقٍ على إيمانِه (1).

(1) ذكر العلماء في حكم الهجرة من دار الحرب ثلاث حالات:

الأولى: الوجوب لمن قدر عليها ولا يمكنه إقامة دينه.

الثاني: من لا يقدر على الهجرة لمرض أو إكراه أو ضعف، فهذا لا هجرة عليه. =

ص: 436

ويدلُّ عليه قولهُ تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] الآية، وكان العباسُ -رضي الله تعالى عنه- أقام بعد إسلامِه بمكةَ، ولم يقلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إن إسلامَهُ لا يتمُّ مع الوقوفِ بدار الحربِ.

وقد ذكرَ الشافعيُّ هذا الحُكْمَ كما ذكرتُه، واستدلَّ له بوقوفِ العباس كما ذكرته (1).

وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء: 97] الآية، فإنها نزلتْ في قومٍ تكلَّموا بالإسلامِ، ثم خرجوا مع المشركينَ إلى بَدْرٍ مُكَثِّرينَ لِسَوادِهم، فقُتلوا يومَ بدرٍ، وأخبرَ اللهُ سبحانه بكفرِهم وظُلْمِهم لأنفسِهم (2).

فإن قيل: فإن الملائكةَ لم تعاتبْهم إلا على عَدَمِ الهجرة.

قلنا: جعل الله سبحانه هذا قاطعاً لحجَّتِهم، وإلا فقدْ أخبرَ الله تعالى بظُلْمهم لأنفسِهم، والظلمُ هو الكفر (3).

= الثالث: الاستحباب، وقال بعضهم بالوجوب على من يقدر عليها وهو يتمكن من إظهار دينه وإقامته.

انظر: "الأم" للشافعي (4/ 161)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 103)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 557)، و"المغني" لابن قدامة (9236).

(1)

انظر: "الأم" للشافعي (4/ 161).

(2)

ويؤيد هذا القول سبب النزول الأول الذي رواه البخاري، وانظر:"تفسير الطبري"(5/ 233)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 1046)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 345).

(3)

لا يسلَّم أن الظلم هنا هو الكفر، فالآية عامة فقد تعم من كفر وقاتل المسلمين، ومن ترك الهجرة وهو على إيمانه لكنه لا يقدر على إقامة دينه فهو ظلم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية. انظر:"أحكام القرآن" للشافعي =

ص: 437

وأما حديثُ سعدٍ، فإنه لا يدلُّ إلا على تعظيمِ شأنِ الهجرةِ.

* وقد اختلفَ أهلُ العلم في موتِ المُهاجِر بمكةَ:

فقالَ بعضُهم: الموتُ بمكةَ والمُقام بها يُحْبطُ الهجرةَ، سواءٌ كانَ بالضرورةِ، أو بالاختيار، واستدلَّ بدعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ مع أصحابه، ولأنَّ سعدَ بنَ خولَةَ الذي رَثىَ له النبيِّ صلى الله عليه وسلم ماتَ في حجَّةِ الوداعِ بعدَما شهدَ بدراً وغيَرها، على ما ذكره ابنُ شهاب (1).

وقال بعضُهم: إنما يحبطُ الهجرةَ ما كانَ بالاختيارِ، وأما بالضرورةِ، فلا؛ لأن سعدَ بنَ خولةَ لم يهاجرْ من مكةَ حتى ماتَ بها؛ كما قال عيسى بنُ دينار وغيُره، أو ماتَ بمكةَ بعدَما هاجرَ وشهِدَ بدراً، وانصرفَ إلى مكة (2)؛ كما قالهُ البخاري (3).

* فإن قال قائل: فما حكمُ الهجرةِ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعده؛ قلنا: أما في زمنه، فأجمعت الأمةُ على وجوبِ الهجرة من مكةَ إلى المدينِة -شَرَّفها اللهُ- حتى قال الواحديُّ والبَغَوِيُّ: إنها شرطٌ في الإسلام؛ كما قدمتُه عنهم.

= (2/ 16)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 543).

(1)

قال ابن عبد البر: لم يختلفوا في أن سعد بن خولة مات بمكة في حجة الوداع إلا ما ذكره الطبري محمد بن جرير فإنه قال: توفي سعد بن خولة سنة سبع والصحيح ما ذكره معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبيه: أنه قال: توفي في حجة الوداع. انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 587).

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 79)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 180).

(3)

تقدم ذكر قول عيسى بن دينار، والبخاري.

ص: 438

* واختلفوا فيما عدا مكة.

فقال أبو عبيدٍ: لا تجبُ عليه الهجرةُ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرْ من أسلمَ من العربِ بالمهاجرة إليه، ولم ينكرْ عليهم مُقامَهُمْ ببلدِهم، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعثَ سريَّةً، قال لأميرها:"إذا لقيتَ عَدُوَّكَ منَ المُشْركينَ، فادْعُهُم إلى ثَلاثِ خِصالٍ -أو ثلاثِ خلالٍ- فَأيَّتَهُنَّ أَجابوكَ، فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهمُ: ادعُهم إلى الإسلامِ، فإن أجابوا (1)، فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهُم، ثم ادعُهُمْ إلى التحوُّلِ عن دارِهم إلى دارِ المهاجرين، وأَعْلِمْهم أنَّهم إن فَعلوا ذلك، أنَّ لهم ما لِلمْهاجرين، وأن عليهم ما عَلى المُهاجرين، فإن أَبْوا واخْتاروا ديارَهم (2)، فأَعْلِمْهم أنهم يكونونَ كأعرابِ المُسلمين، يَجْري عليهم حُكْمُ اللهِ الذي يَجْري على المؤمنين، ولا يكونُ لهم في الفَيْءِ والغنيمةِ نصيبٌ إلا أن يُجاهِدوا مع المسلمين"(3).

وقال الجمهورُ: تجبُ الهجرةُ من سائرِ بلادِ الحَرْبِ إلى سائر (4) بلادِ الإسلام على مَنْ لا يقدرُ على إظهارِ دينهِ، ولا تجبُ على من يَقْدِرُ على إظهارِ دينه، إما بعشيرةٍ أو رئاسة؛ كما جازَ ذلك للعباس -رضي الله تعالى عنه-، لكن تُستحبُّ له (5) المهاجرةُ (6).

(1) في "ب": "أجابوك".

(2)

في "ب": "دارهم".

(3)

رواه مسلم (1731)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إيا هم بآداب الغزو وغيرها، عن بريدة الأسلمي.

(4)

"سائر" ليس في "أ".

(5)

"له" ليس في "أ".

(6)

انظر: "شرح البخاري" لابن بطال (8/ 105)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 104)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 190)، و"الإنصاف" للمرداوي (4/ 121).

ص: 439

* وكذا الحكمُ في الهجرة في زمننا تجبُ عليهِ إن كانَ لا يتمكنُ من إظهارِ دينه، ويُستحبُّ إن كان يتمكنُ من إظهار دينه.

* والبدعة تجري مَجْرى الكُفْر في وجُوبِ الهِجْرةِ أو استحبابِها (1).

* وأما سائرُ المعاصي، فتستحبُّ، ولا تجبُ الهجرةُ لأجلِها، إلا أن يغلبَ عليها الحرامُ، فإن طلبَ الحلالِ فرضٌ (2).

* ثم استثنى الله القومَ الذين يَصِلون إلى أهلِ العهدِ والميثاق، فقال:{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90].

والذين بينهم وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ همُ الأَسْلَمِيُّون، وذلكَ أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وادع هلالَ بنَ عُوَيْمِرٍ الأَسْلَمِيَّ قبلَ خرُوجِه إلى مكةَ على ألَاّ يُعينَه ولا يُعينَ عليه، ومن وَصَلَ إلى هِلالٍ من قومِه وغيرِهم، ولجأ إليهم، فلهمْ من الجِوارِ مثلُ ما لِهلالٍ (3).

وقال الضحاك عن ابن عباس: أرادَ بالقومِ الذين بينكم وبينهم ميثاق:

(1) قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها السلف.

قال ابن العربي: وهذا صحيح، فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه قال الله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 611).

(2)

وورد عن ابن عباس تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} .

انظر: "تفسير البغوي"(4/ 74)، و"الفروع" لابن مفلح (6/ 186)، و"الإنصاف" للمرداوي (4/ 121).

(3)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 192 - 193)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(5744)، وعبد بن حميد، وابن المنذر في "تفسيريهما"، كما نسبه إليهما السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 610)، عن مجاهد.

ص: 440

بني بكر بن زيدِ مناةَ، كانوا في الصلحِ والهُدْنة (1).

وقال مقاتل: هم خُزاعَةُ (2).

وأما الذيَن جاؤوه صلى الله عليه وسلم ضَيِّقةً صدورهم من قتاله ومن قتال المشركين، فهم بنو مُدْلِجٍ (3).

ومعنى (يَصِلون): يَنْتَمون وينتسبون، قال الأعشى:[البحر الطويل]

إذا اتصلتْ قالتْ لبكرِ بنِ وائلٍ

وبكرٌ سَبَتْها والأنوفُ رَواغِمُ (4)

* والاستثناء مختصٌّ بالقتلِ دون المُوالاة؛ فإن موالاةَ الكافرِ لا تجوزُ بحالٍ، سواءٌ كان حربياً أو معاهداً أو منافقاً، قال الله تعالى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]، الآية، وإنما استثناهم اللهُ سبحانه لأجلِ الوفاءِ بالعهدِ والميثاق؛ كما أمر به في كتابه العزيز (5).

(1) انظر: "تفسير الثعالبي"(3/ 357)، و"تفسير البغوي"(1/ 460)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 309).

(2)

انظر: "تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1757)، و"تفسير البغوي"(1/ 461)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 158).

(3)

انظر: "تفسير البغوي"(1/ 461)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 309).

(4)

انظر "ديوانه": (ق: 70/ 34)، (ص: 375)، وقد قالها في هجاء زيد بن مُسْهر الشيباني، ومطلعها:

هريرةَ ودِّعْ وإن لام لائمُ

غداةَ غدٍ أم أنت للبينِ واجمُ

(5)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 595)، و"تفسير البغوي"(1/ 460)، و"تفسير البيضاوي"(2/ 231)، و"تفسير الواحدي"(1/ 280).

ص: 441

* فإن قال قائل: فظاهرُ حكمِ الآية أن المرتدَّ إذا لجأ إلى أهلِ عهدٍ لا يُتعرَّض له، سواءٌ شُرِطَ ذلكَ في عَقْدِ الهُدْنَةِ أم لا؟ قلنا: قال أبو الحسنِ الواحديُّ والبغويُّ من الشافعية في "تفسيريهما": نهى الله سبحانه عن قتلِ هؤلاء المرتدِّين إذا اتَّصلوا بأهلِ عهد المسلمين؛ لأن من انضمَّ إلى قومٍ ذوي عهدٍ، فلهُ حكمُهم في حَقْنِ الدم (1)(2).

والمشهورُ من مذهبِ الشافعيِّ؛ حكايةُ قولين في جوازِ شرطهم تركَ من جاءهم من المسلمين مرتدًّا، والصحيحُ الجوازُ، وأما إذا لم يشترطوا (3)، فيجب عليهم التمكينُ من رَدِّةِ لإقامة الحدِّ عليه (4).

وأما الآيةُ، فإنها محمولةٌ على أنهم لم يشرطوا ذلك كما تقدم في شرطِ الأسلميين الذين شَرَطوا دخولَ من اتصلَ بهم، أو (5) لجأ إليهم في العهدِ والميثاقِ.

(1) انظر: "تفسير البغوي"(1/ 573).

(2)

انظر: "تفسير البغوي"(1/ 461)، و"تفسير الواحدي"(1/ 280).

(3)

في "أ": "يشرطوا".

(4)

أي: إن شرط المعاهدون ترك من جاءهم من المسلمين مرتداً فهل هذا الشرط جائز أو لا؟ قولان عند الشافعية، وهناك قول ثالث بجواز شرطهم ترك من ارتد من الرجال، وعدم جواز شرطهم ترك من ارتد من النساء، وأكثر الشافعية على جواز هذا الشرط.

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 367)، و "منهاج الطالبين" للنووي (ص: 140)، و "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 265).

(5)

في "ب": "و".

ص: 442