المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة) - تيسير البيان لأحكام القرآن - جـ ٢

[ابن نور الدين]

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الطلاق)

- ‌(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة)

- ‌(أحكام الخلع)

- ‌(النَّهي عن مضارَّة المطلقة)

- ‌(النهى عن عَضْل المطلقات)

- ‌(من أحكام الرضاع)

- ‌(عدة المتوفى عنها زوجها)

- ‌(التعريض بخطبة المعتدَّة)

- ‌(طلاق المفوّضة)

- ‌(حكم المطلقة قبل المس وبعد الفرض)

- ‌(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف)

- ‌(عدَّةُ المتوفَّى عنها)

- ‌(متعة المطلقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(صدقة التطوع)

- ‌(تحريم الرِّبا)

- ‌(وجوبُ تركِ التَّعامُل بالرِّبا)

- ‌(المُداينة)

- ‌(الرَّهن)

- ‌سُورَةُ آلَ عِمْرَانَ

- ‌(النَّهي عن اتخاذ الكافرين أولياء)

- ‌(فَرضُ الحجِّ)

- ‌(الشوري)

- ‌سُورَةُ النِّسَاءِ

- ‌(من أحكام اليتامي)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الوصية)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(من أحكام التوبة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الطهارة والصلاة)

- ‌(من أحكام الإمامة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام السَّلام)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام القصاص والديات)

الفصل: ‌(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة)

(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة)

37 -

(37) قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229].

والكلام في جملتين:

الجملة الأولى: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} معناه: الطلاق الذي يملكُ فيه الرجعةَ مَرّتان، {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وهو الثالثة.

ويروى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سئلَ عن الثالثةِ فقالَ: "تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ"، أو كما قال (1).

وهذه الآية قال قومٌ: هي ناسخةٌ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] كما قدمناه، وقال قومٌ غير ذلك (2).

(1) رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 4)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 340)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(13/ 16)، عن أنس بن مالك. وفي الباب، عن أبي رزين العقيلي.

(2)

انظر: "ص:412".

ص: 32

* وقد جعل الله -سبحانه- عَدَدَ الطلاق ثلاثاً، وأجمع عليه المسلمون في حق الأحرار (1).

وأما العبيدُ:

- فذهب أبو محمدِ بنُ حَزْمٍ وجماعةٌ من أهلِ الظاهرِ إلى أنهم كالأحرار وتمسكوا بالعموم (2)؛ كما تمسَّكوا بالعموم في إلحاق عِدَّةِ الإماءِ بعدة الحرائر (3).

- وذهب جمهورُ أهل العلم إلى أن للرقِّ تأثيراً في نُقْصان العدد في الطلاق.

* ثم اختلفوا في تعيينه.

فاعتبره قومٌ بالرجال دون النساء، فإن كان الزوجُ رقيقاً ملكَ طَلْقتين، سواء كانتِ الزوجةُ حُرَّةً أو أَمَةً، وإن كان حُرًّا، ملكَ ثلاثا، ولو كانت الزوجة أَمَةً.

وبه قال عثمانُ وزيدُ بنُ ثابتٍ وابنُ عباسٍ. وإليه ذهبَ مالك والشافعيُّ -رضي الله تعالى عنهم- (4).

(1) انظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 128).

(2)

انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 230).

(3)

المرجع السابق (10/ 306).

(4)

وهو قول قبيصة بن ذؤيب وعكرمة وسليمان بن يسار والشعبي ومكحول وابن المسيب وإسحاق وابن المنذر، وهو قول الإمام أحمد، لكنهم قالوا: الطلاق بالرجال؛ وإن كان الزوج حراً ملك ثلاث طلقات، وإن كان عبداً ملك طلقتين، سواء كانت الزوجة حرة أم أمة. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 289، 291)، و"التفريع" لابن الجلاب (2/ 75)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 477)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 533).

ص: 33

- واعتبره قومٌ بالنساء، وبه قال عليٌّ وابنُ مسعودٍ، وإليه ذهبَ أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه- (1).

- واعتبره قومٌ بأيِّ الجانبين كان، وبه قال عثمانُ البَتِّيُّ، ويروى عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- (2).

ومستندهم (3) القياسُ على نقصان حَدِّ الأمة عن الحُرَّةِ.

ويظهر لي قوةُ مذهبِ المُلْحِقين (4)؛ لأن الحكمةَ التي شرعَ لها هذا العددُ موجودةٌ في نفوس العبيد؛ لأن (5) الله سبحانه وتعالى لم يُضيِّقْ على الرجال بتحديد طَلْقتين خشيةَ المشقةِ عندَ الندم، ولم يسمح لهم بأكثرَ من ذلك خشيةَ المشقةِ على النساء بالتضرُّر.

وأما استدلالُ الجمهورِ، ففيه ضعفٌ؛ لأن القياس لا يُخَصِّصُ العمومَ

(1) وبه قال أصحاب أبي حنيفة والكوفيون، والثوري والحسن بن حي وإبراهيم والحسن وابن سيرين ومجاهد وطائفة، وروي عن علي وابن مسعود وابن عباس، فهؤلاء قالوا: طلاق الأمة طلقتان سواء كان زوجها حراً أم عبداً، وطلاق الحرة ثلاث، سواء كان زوجها حرأ أم عبداً. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 290)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 537)، و "المغني" لابن قدامة (10/ 534).

(2)

وروي عن ابن عباس -أيضاً- فهؤلاء قالوا: أيهما رق نقص طلاقه، فطلاق العبد طلقتان وإن كانت تحته حرة، وطلاق الأمة اثنتان وإن كان زوجها حراً. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 290)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 533).

(3)

أي: الجمهور على اختلاف أقوالهم المتقدمة.

(4)

أي: من ألحق الأمة بالحرة في عدد الطلاق ولم يفرقوا بينهما، وهم أهل الظاهر، كما تقدم.

(5)

في "ب": "فإن".

ص: 34

على قولِ جماعةٍ من أهلِ العلمِ بشرائِط الاستدلال.

وإن سلموا، فهذا القياسُ ضعيفٌ؛ لاعتبار ما بُني على التغليظ في حقِّ العبيدِ، وهو تقليل عَدَدِ الطلاق بما بُني على التخفيفِ في حقِّهَم وحقِّ غيرهم من الأحرار.

وكان الأولى أن يقال: هذا الزوجُ رقيقٌ، ولم يضيقِ الشرعُ عليه في عَدَدِ الحَدِّ، فلِمَ يُضَيَّقُ عليه في عدد الطلاق.

نعم، قد يقال: في الرجعة ملكٌ وسلطانٌ على الزوجة، والعبيدُ لا سلطانَ لهم ولا ملك، فمن لُطْفِ الشارع بهم أنْ جعلَ لهم سلطانًا أضعفَ من سلطانِ الأحرار وأَنْقَصَ، فجاز لنا حينئذ أن نعتبر النقصانَ بالنقصان، فالاعتبارُ في مقدارِه لا في أصله، ولولا هذا لما اخترتُ مذهبَ الجمهورِ، والله أعلم.

* فإن قلتم: فقولُ الله سبحانه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فيه إيماءٌ إلى أن الثلاثَ إنما يقعْنَ في ثلاثِ كلماتٍ بثلاثِ مرات، فإن لفظ المرتين يقتضي التكرار، ولأن قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] يقتضي التكرار أيضاً؛ لما فيه من معنى الترتيب، فما الحكم فيما إذا قال: أنتِ طالق ثلاثًا بكلمةِ واحدة، هل تقع عليها الثلاث، أو لا يقعُ عليها إلا واحدةٌ؟

قلت: اختلف أهلُ العلمِ في ذلك.

- فأخذ بهذا الظاهرِ أهلُ الظاهر، وقومٌ من أهل العلم لم يوقعوا إلا طلقةً واحدةً (1).

(1) وقال به طاوس ومحمد بن إسحاق والحجاج بن أرطأة. وحكي عن علي وابن مسعود وابن الزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس. انظر: "الاستذكار" لابن =

ص: 35

وعمدتُهم في ذلكَ ما رواه ابنُ طاوسٍ، عن أبيه: أن أبا الصَّهْباء قال لابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: إنما كانت الثلاثُ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم تُجْعَلُ واحدةً، وأبي بكر، وثلاثٍ من إمارة عمر، فقال ابن عباس: نعم (1).

واحتجوا أيضاً بما رواه عِكرمةُ، عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-، قال: طلق رُكانَةُ زوجته ثلاثاً في مجلسٍ واحد، فحزِن عليها حزناً شديداً، فسألهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"كيفَ طَلَّقْتَها؟ " قال: طلقتُها ثلاثًا في مجلس واحد، قال:"إنَّما تلكَ طلقةٌ واحدةٌ، فارْتَجِعْها"(2).

- وذهب جمهورُ فقهاءِ الأمصارِ إلى وقوعِ الثلاثِ (3).

واعتمدوا ما رواه أصحابُ ابنِ عباسٍ؛ كمجاهدٍ وسعيدِ بنِ جبيرٍ وعطاءٍ وعمرو بن دينارٍ ومالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ (4) ومعاويةَ (5) بنِ أبي عياشٍ الأنصاري، وغيرِهم: أن ابنَ عباس -رضي الله تعالى عنهما- كان يفتي بوقوع الثلاث (6).

= عبد البر (17/ 19، 21)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 334)، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي (2/ 87)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 120).

(1)

رواه مسلم (1472)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق الثلاث.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 265)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(2500)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 239).

(3)

وهو قول الأئمة الأربعة. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 18 - 19)، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي (2/ 89)، و"المغني" لابن قدامة (10/ 334)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 120).

(4)

في "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (11/ 38): "الحارث" بدل "الحويرث".

(5)

في "الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 15): "النعمان" بدل "معاوية".

(6)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (17/ 15)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي =

ص: 36

فعن سعيدِ بن جُبيرة أنَّ رجلاً جاءَ إلى ابنِ عباسٍ، فقال: طلقتُ امرأتي ألفاً، فقال: تأخذُ ثلاثاً، ودعْ تسع مئة وسبعة وتسعين (1).

وعن مجاهد: قال رجلٌ لابنِ عباسٍ: طلقت امرأتي مئة، فقال: ثلاثاً، ودع سبعاً وتسعين (2).

وكلهم حكى أنه أجاز الثلاثَ، وأمضاهُنَّ.

فإن قلتم: فكيف جاز اعتمادُ قولِ ابنِ عباسٍ مع صِحَّةِ ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قلنا: قال الشافعيُّ: يشبه -والله أعلم- أن يكونَ ابنُ عباس قد علم أن كان شيئاً فنسخ.

فإن قيل: فما دلَّ على ما وصفت؟

قلتُ: لا يشبه أن يكونَ يروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم يخالفُه لشيء لم يعلمْهُ كانَ من النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: فلعل هذا شيءٌ روي عن عمر، فقال فيه ابنُ عباس بقولِ عمر.

قلنا: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمرَ في نِكاح المُتْعَةِ وبيع الدينارِ

= (11/ 38)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 1/ 120).

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(11350)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(17804)، والدارقطني في "سننه"(4/ 13)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 337).

(2)

رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 550)، والإمام الشافعي في "المسند"(192)، وفي "الأم"(5/ 139)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(17803)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 337).

ص: 37

بالدينارينِ، وفي بيع أمهاتِ الأولاد، وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه خلافه؟

فإن قيل: فلمَ لمْ يذكره؟

قيل: قد يسأل الرجلُ عن شيء، فيُجيب فيه، ولا يتقصَّى الجوابَ، ويأتي على الشيء كله، ويكون جائزًا له، كما يجوز له لو قيل: أصلِّى الناسُ على عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس؟ أن يقول: نعم، وإن لم يقلْ: ثم حُوِّلَتِ القِبْلَةُ.

قال: فإن قيلَ: فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر.

قيل -الله أعلم-: وجوابُه يخالف ذلك كما وصفت (1)، انتهى.

قلت: ولا يخفى على ذي نظر صافٍ ما في هذا الجوابِ من التكلُّفِ والتعسف، ومن تجويزِ النسخِ بالظَّنِّ والاحتمال، وهذا من الشافعيِّ خلافُ مذهبه وأصوله.

وقال غيرُ الشافعيِّ: يشبه أن يكونَ الحديثُ منصرفًا إلى طلاق البَتَّةِ الذي معناها الثلاثُ (2)، وذلك أنه قد رويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رُكانَةَ أنه جعل البَتَّةَ واحدةً، وكان عُمر يراها واحدة، ثم تتابع الناسُ في ذلك، فألزمَهُمُ الثلاثَ (3).

وبه عمل عمرُ بنُ عبد العزيز، وقال: لو كان الطلاقُ ألفًا ما أبقتِ البتَّةُ

(1) انظر: "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي (ص: 549)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 338)، و "معرفة السنن والآثار"(11/ 38).

(2)

انظر: "معرفة السنن والآثار"(11/ 40)، و "السنن الكبرى" كلاهما للبيهقي (7/ 338).

(3)

رواه مسلم (1472)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق الثلاث، عن ابن عباس.

ص: 38

منه شيئاً، من قال البتة، فقد رمى الغايةَ القصوى (1).

وهذا أيضاً باطلٌ؛ لما رويناه عن الشافعي قال: أخبرني عمِّي محمدُ بنُ عليِّ بنِ شافعٍ، عن عبد الله بنِ (2) السائبِ، عن نافعِ بن عجيرة بن عبد يزيد: أن رُكانةَ بن عبد يزيد طلَّق امرأته سُهَيْمَةَ البَتَّةَ، ثم أتى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله! إني طلقتُ امرأتي سهيمةَ البتة، واللهِ ما أردت إلاّ واحدة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لركانةَ:"واللهِ ما أردتَ إلا واحدة؟ "، فقال رُكانةُ: واللهِ ما أردتُ إلَّا واحدةً، فردَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها ثانيةً في زمن عمر، والثالثةَ في زمن عثمان (3).

فلو كانت البتةُ في عهده واحدةً، لما حَلَّفَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: إن عمر كان يرى البتةَ واحدةً، فلما رأى تتَابُعَ الناسِ، جعلها ثلاثاً، فليس بصحيحٍ؛ فقد أمر من طلق البتةَ أن يمسك أهله، ولم يحلفه وتكرر ذلك منه.

وإنما الذي حَمَلهم عليه عمرُ رضي الله عنه ما روى أيوبُ السَّخْتِيانيُّ عن غير واحد، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- في قصة أبي الصَّهْباء قال: بلى، كان الرجلُ إذا طلقَ امرأته ثلاثاً قبلَ أن يدخلَ بها، جعلوها واحدةً على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، وصدراً من إمارة

(1) رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 550)، ومن طريقه الإمام الشافعي في "الأم"(5/ 139)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(18148).

(2)

في "ب": "بن علي بن".

(3)

رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 153)، وأبو داود (2206)، كتاب: الطلاق، باب: في البتة، والدارقطني في "سننه"(4/ 33)، والحاكم في "المستدرك"(2808)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 342).

ص: 39

عمر، فلما أن رأى الناسَ تتابعوا فيها، قال: أجيزوهنَّ عليهم (1).

فإن قيل: فهذا مثلُ ما رويت عنه أولاً، ولم يختلفِ الحالُ إلا في المدخولِ بها، فلا يتمُّ جوابُك.

قلنا: ويشبه أن يكون المرادُ بالثلاث في غير المدخولِ بها الثلاث التي تترى وتتابع (2)؛ كقوله: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنت طالق.

فقد روى الشعبيُّ عن ابن عباسٍ في رجلٍ طلقَ امرأتَهُ ثلاثاً قبلَ أن يدخُلَ بها، قال: عقدة كانت بيده، أرسلها جميعاً، فإذا كانت تترى، فليس بشيء (3).

وقال عكرمةُ: شهدتُ ابنَ عباس جمعَ بينَ رجلٍ وامرأتِه طَلَّقها ثلاثاً، وفَرَّقَ بين رجل وامرأته طلقها ثلاثاً، أُتي في رجل قال لامرأته: أنتِ طالق، أنت طالق، أنت طالق، فجعلها واحدة، وأُتي في رجل قال لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ففرق بينهما.

فإن قلت: فكيف يمكنُ الجمعُ بين حديث ابنِ عباسٍ وحديثِ رُكانَة، وأن حديث ركانة يقتضي أن البتةَ توجبُ الثلاثَ، إلا أن يريدَ واحدةً، وحديثُ ابن عباسٍ يقتضي أن الثلاثَ كانت واحدة، وهنَّ أولى بإيجاب الثلاث من البتَّة؟

قلت: أما الجمع على مذهب مالكٍ فبيِّن، وذلك أنه لا يوقع الثلاثَ باللفظِ الصريح (4)، ويوقعها بالكنايات الظاهرة؛ كقوله: أنتِ طالقٌ البتةَ،

(1) رواه أبو داود (2199)، كتاب: الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث.

(2)

هذا كلام البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 338).

(3)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 339)، عن الشعبي.

(4)

أي: اللفظ الصريح المفرد، لكن إن قال: هي طالق ونوى ثلاثًا وقع ما نوى.=

ص: 40

ولا سبيل لي عليكِ، وأنتِ عليَّ حرامٌ (1)، لأن الظاهر من هذه الألفاظ البينونة، والبينونةُ لا تحصلُ إلا بالثلاث، أو بِعِوَضٍ، ولا عِوَضَ هنا.

وأما على مذهب الشافعيِّ، فيُحمل حديثُ ابن عباسٍ على غيرِ المدخول بها؛ كما قدمته من رواية أيوبَ السَّخْتِيانيّ، ويكون الصريحُ والبتةُ في إيجاب الثلاثِ سواءً (2)، والله أعلم.

وأما الجوابُ عمّا احتجوا به من حديث رُكانة.

فقيل: إنه وهم، وإنما روى الثقاتُ: أن رُكانةَ طلَّق زوجتَه البتةَ كما قدمناهُ من رواية الشافعيّ (3).

ثم قال الشافعيُّ: فإن قال قائلٌ: فهل من سُنَّةٍ تدلُّ على هذا؟ قيل: نعم، أنا سفيانُ، عن الزهريِّ، عن عروةَ بن الزُّبير، عن عائشة: أنه سمعها تقول: جاءت امرأةُ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني كنت عندَ رفاعةَ، فطلقني، فَبَتَّ طلاقي، فتزوجتُ عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبيرِ، وإنما (4) معه مثل هُدْبَةِ الثوب، فتبسَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"أتريدينَ أن ترجِعي إلى رفاعة؟ لا حتَّى يذوقَ عُسَيْلَتَكِ، وتَذوقي عُسَيْلَتَهُ" قال: وأبو بكرٍ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخالدُ بنُ سعيدٍ بالبابِ ينتظرُ أنْ يؤذَنَ له، فنادى: يا أبا بكر! ألا تسمعُ ما تجهرُ به هذهِ عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)؟

= انظر: "التفريع" لابن الجلاب (2/ 74).

(1)

انظر: "التفريع" لابن الجلاب (2/ 74).

(2)

انظر رواية عكرمة والجواب عنها في: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (11/ 40 - 41).

(3)

انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 339).

(4)

في " أ": "وأنا".

(5)

رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 192)، وفي "اختلاف الحديث" (ص:=

ص: 41

قال: فإن قيل: فقد يحتملُ أن يكونَ رفاعةُ بَتَّ طلاقَها في مَرّاتٍ.

قلت: ظاهره في مرة واحدة، وبتَّ إنَّما هي ثلاثٌ إذا احتملَتْ ثلاثاً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسَيْلَتَكِ"، ولو كانت حَسَبَتْ طلاقَها بواحدة، كان لها أن ترجعَ إلى رفاعةَ بلا زوج.

فإن قيل: أطلَّق أحدٌ ثلاثاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قيل: نعم، عُوَيْمِرٌ العَجْلانِيُّ طلقَ امرأتَهُ ثلاثاً قبلَ أن يخبره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنها تحرم عليه باللّعانِ، فلما أعلمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهاه (1).

وفاطمةُ بنتُ قيسٍ تحكي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ زوجَها بتَّ طلاقها، تعني -والله أعلم-: أنَّه طلقها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليسَ لكِ عليهِ نفقة"(2)؛ لأنها -والله أعلم- لا رجعةَ لهُ عليها، ولم أعلمْه عابَ طلاقَ ثلاثٍ معاً.

قال: فلما كان حديثُ عائشةَ في رِفاعَةَ موافقاً ظاهرَ القرآن، وكانَ ثابتاً، كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبيِّنِ فيه جداً.

قيل (3): ولو كان الحديثُ الآخر له مخالفاً، كان الحديثُ الآخر يكون

= 550)، والبخاري (4960)، كتاب: الطلاق، باب: من أجاز طلاق الثلاث، ومسلم (1433)، كتاب: النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره. وهذا لفظ مسلم.

(1)

رواه البخاري (4959)، كتاب: الطلاق، باب: من أجاز طلاق الثلاث، ومسلم (1492)، في أول كتاب اللعان، عن سهل بن سعد الساعدي.

(2)

رواه مسلم (1480)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، عن فاطمة بنت قيس.

(3)

"قيل" ليست في "أ".

ص: 42

منسوخاً (1)، والله أعلم، وإن كان ذلكَ ليس بالبيّن فيه جداً (2). انتهى كلامه، رحمة الله تعالى عليه.

قلت: ولا يخفى علي ذي نظر صحيح وقلبٍ سَلِمَ من الهَوى ما في استدلالِ أبي عبدِ الله من ضعْفٍ (3)، وما في تأويله من الوهن؛ حيث جعل ظاهر القرآن خلافَ الظاهر منه، وحيث ادَّعى النسخَ بالاستدلال والاجتهاد معَ ظهورِ الاحتمال، وحيث جعل الحُجَّةَ في فتوى الصحابي إذا خالفت روايته، وذلك بخلاف أصوله وأصول أصحابه وأتباعه، وكلُّ هذا غَفْلَةٌ منه -رحمه الله تعالى-، ولو وقع على الجواب الذي قدمته، لما عَدَل عنه، ولا استقام له حينئذ الاستدلال بإجماع عمر وأهل عصره -رضي الله تعالى عنهم-.

* * *

(1) في " الأم": "ناسخاً" بدل "منسوخاً".

(2)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (8/ 660 - 661).

(3)

في "ب": "الضعف".

ص: 43