الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الحدود)
69 -
(10) قوله عز وجل: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15].
الفاحشة هنا: الزنا، مقتصٌّ من قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، ومن قوله:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
* وبين اللهُ سبحانه أن نصابَ الشهادةِ على هذهِ الفاحشة أربعةٌ من المؤمنين (1)، فقال هنا:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقال في موضع آخر:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]، وقال:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8].
= و"المحلى" لابن حزم (9/ 279)، و"الحاوي" للماوردي (8/ 94)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 263)، و"المغني" لابن قدامة (6/ 192)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 70).
(1)
وهذا إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم. انظر: "المغني" لابن قدامة (12/ 363).
* وقيد الشهداءَ (1) بالإضافة إلى المؤمنين، وأطلقَ صفتَهم هنا، وقيدَها في موضع آخرَ فقال:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وقال أيضًا:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
فإن قلتم: فقد تميزت هذه الشهادةُ عن سائرِ الشهاداتِ بالحقوقِ، فهل تلحق بها شهادة المرءِ على نفسه، فلا بد من أربع شهادات (2) في الإقرار؛ كسائر الأصول المختصة بالزنا، أو يكفي مرة واحدة كسائر الأصول في الإقرار بالحقوق؟
فالجوابُ أنه يحتملُ الأمرين.
وبالأول: قال أبو حنيفة (3)، وأحمدُ (4)، وإسحاقُ (5).
وبالثاني: قال الشافعيُّ (6) ومالكٌ (7).
(1) في "ب": "الشهادة".
(2)
في "ب": "مرات".
(3)
واعتبر الحنفية اختلاف مجالس المقر دون القاضي، حتى إذا غاب عن بصر القاضي في كل مرة، يكفي هذا لاختلاف المجالس. انظر:"المبسوط" للسرخسي (9/ 92)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 50)، و"شرح فتح القدير" لابن الهمام (5/ 4).
(4)
ويستوي عند الحنابلة أن يكون الإقرار في مجلس واحد أو مجالس، كما نصَّ عليه الإمام أحمد. انظر:"المبدع" لابن مفلح (9/ 74)، و"كشاف القناع" للبهوتي (6/ 98)، و"مطالب أولي النهى" للرحيباني (6/ 189).
(5)
وهو قول الحكم وابن أبي ليلى. انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 263).
(6)
انظر: "الحاوي" للماوردي (13/ 206).
(7)
انظر: "الذخيرة" للقرافي (12/ 58)، و"جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص: 515). وهو قول الحسن وحماد بن أبي سليمان وأبي ثور. انظر: "الإشراف" لابن المنذر (7/ 263)، وقد اختاره ابن المنذر.
والراجح إلحاقُ أبي حنيفةَ؛ لأن إلحاقَ الشيء بالأصول التي من جنسه أولى من غير جنسه، ويَعْضِدُه الحديثُ وظاهرُ القرآن.
أما الحديث، فما روينا في "الصحيحين" من حديثِ أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: أتى رجلٌ من المسلمين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله إني زنيت، فأعرضَ عنه، فتنحَّى تِلقاءَ وجهه، فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه حتى عَدَّ (1) أربع مراتٍ، فلما شهدَ على نفسه أربعَ شهادات (2)، دعاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أَبكَ جُنونٌ؟ " قال: لا، قال:"فَهَلْ أَحصَنْتَ؟ " قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذْهَبُوا بِهِ فارْجمُوُهُ"(3).
وأما ظاهرُ القرآن العزيز، فقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]، فسمى الإقرارَ شهادةً، وقد (4) اشتركا في التسمية، فاعتبر فيها العددُ؛ كشهادة الغير.
وأما إطلاقُ قوله صلى الله عليه وسلم: "واغْدُ يا أنيْسُ عَلى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارجُمْها"(5)، محمولٌ على تقييد حديث أبي هريرةَ -رضي الله تعالى
(1) في "ب": "ثنى عليه".
(2)
قال الإمام ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام"(4/ 117): وفي قول الراوي: "فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله
…
" إشعارٌ بأن الشهادة أربعًا هي العلة في الحكم.
(3)
رواه البخاري (6430)، كتاب: المحاربين، باب: لا يرجم المجنون والمجنونة، ومسلم (1691)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا.
(4)
في "ب": "فقد".
(5)
رواه البخاري (6440)، كتاب: المحاربين، باب: الاعتراف بالزنا، ومسلم (1697)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، عن أبي هريرة،=
عنه -، فلا دليل فيه على خلاف أبي حنيفة.
* ثم أمر الله سبحانه بإمساكهِنَّ في البيوت حتى يتوفاهُنَّ الموتُ، أو يجعلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا، وإمساكُهن حفظٌ لهنَّ عن الزنا، وليس بحكمٍ ولا حَد، وقد اعتقده كثيرٌ من الناس حكمًا، وسمَّوه حَدًّا، ولعلهم سَمَّوْهُ تجوزاً، أو ملاحظةً للوضع اللغويِّ؛ فإن الحدَّ في اللغة هو المنعُ (1)، وأما أنه حَدّ حقيقيٌّ شرعيٌّ، فلا (2).
* وقيَّد الله سبحانه اللاتي يأتينَ الفاحشةَ بكونهنَّ من نساءِ المؤمنين.
- فيحتمل (3) أن يكونَ أرادَ حقيقةَ التقييدِ، فلا يتناولُ الحكمُ غيرَ نساءِ المؤمنين.
= وزيد بن خالد الجهني.
قال ابن دقيق العيد: ولعله يؤخذ منه: أن الإقرار مرة واحدة يكفي في إقامة الحد، فإنه رتب رجمها على مجرد اعترافها، ولم يقيده بعدد. انظر:"شرح عمدة الأحكام"(4/ 112).
(1)
انظر: "التعريفات" للجرجاني (113)، و"لسان العرب"(3/ 140) مادة (حدد).
(2)
قال ابن العربي في "أحكام القرآن"(1/ 461): واختلف في هذا السجن هل هو حدّ أو توعد بالحد؟ على قولين:
أحدهما: أنه توعد بالحد.
والثاني: أنه حد.
والصحيح: أنه حد جعله الله عقوبة محدودة إلى غاية مؤذنة بأخرى هي النهاية.
وإنما قلنا: "إنه حد"؛ لأنه إيذاء وإيلام، ومن الناس من يرى أنه أشد من الجلد، وكل إيذاء وإيلام حد؛ لأنه منع وزجر.
وإنما قلنا: "إنه ممدود إلى غاية": إبطالًا لقول من رأى من المتقدمين والمتأخرين أنه نسخ.
(3)
في "أ": "ويحتمل".
- ويحتمل أن يكون جَرى التقييدُ بالمؤمنين لمواجهته (1) إياهم بالخطاب.
وبالأول قال أبو حنيفةَ (2) ومالكٌ (3)، فاشترطا الإِسلامَ في المحدودِ (4) بالرجم والجلدِ الذي استقر حكمًا مبينًا لهذه الآية، فيكون إطلاقهُ أيضًا مبيَّنًا بتقييدِ المبيَّنِ بنساءِ المؤمنين، فأنه (5) إذا كان اللفظ مفتقرًا إلى البيان لإجماله، فهو مقيدٌ بحالٍ أو صفةٍ، فورد لفظٌ مُبَيِّنٌ لذلك الإجمال (6)، وهو حالٌ من ذلك التقييد، حمل على التقييد، وصار مبيِّناً (7).
ويشهد للتقييد التقييدُ في الآية التي تليها، وهو قوله:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16].
ويشهد له أيضًا الاعتبارُ بالتقييد؛ كقوله تعالى: {وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55].
وبالاحتمال الثاني قال الشافعيُّ (8)، ويشهدُ له ما رويناه في "الصحيحين" من حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: إن اليهودَ
(1)"لمواجهته" ليس في "أ".
(2)
انظر: "رد المحتار" لابن عابدين (3/ 154).
(3)
انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 295).
(4)
في "ب": "المحدودة".
(5)
في "أ": "وأنه".
(6)
في "أ": "للإجمال".
(7)
في "ب" زيادة "ومتبَيَّناً".
(8)
انظر: "الحاوي" للماوردي (9/ 385) وبه قال أحمد. انظر: "المغني" لابن قدامة (12/ 317). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(12/ 70): وقد ذهل ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الإحصان الموجب للرجم الإسلام، وردّ عليه: بأن الشافعية وأحمد لا يشترطان ذلك.
جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا (1) أن امرأةً منهم ورجلا زَنَيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تجدونَ في التَّوراةِ في شأنِ الرَّجْمِ؟ "، فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبدُ الله بنُ سَلامٍ: كذبتم، فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضعَ أحدُهم يدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلها، وما بعدَها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفعْ يدكَ، فرفعِ يدَهُ، فإذا فيها آيةُ الرجمِ، فقال: صدقتَ يا محمَّد، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فرُجِما (2).
واعتذر الحنفيةُ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رجمهما بحكمِ التوراةِ، وأن ذلكَ عندَ قدومِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ (3)، وادَّعَوا أن آيةَ الرجمِ نزلتْ بعد ذلك، فكانَ (4) الحديثُ منسوخاً (5).
وهذا خطأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما تَجِدُونَ في التوراةِ في شَأنِ الرَّجْمِ؟ "، فدلَّ على أن ذلكَ بعدَ نزولِ الرجمِ وتقرُّرهِ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والنسخُ يحتاج إلى تاريخٍ، وبعيدٌ أن يجدوه منقولاً. ولو اعتذروا بكونِ ذلك عقوبة كليَّة جاءت خصيصًا لنبيه صلى الله عليه وسلم مؤاخذةً لهم من عند الله سبحانه بنقيضِ قصدِهم؛ حيث قصدوا الرخْصَةَ معَ وجُودِ حكمِ اللهِ عندَهم الذي استُحفظوه، وكانوا
(1) في "ب" زيادة "له".
(2)
رواه البخاري (6450)، كتاب: المحاربين، باب: أحكام أهل الذمة وإحصانهم، إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام، ومسلم (1699)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.
(3)
انظر: "المبسوط" للسرخسي (9/ 41)، و"شرح عمدة الأحكام"، لابن دقيق (4/ 121)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 170).
(4)
في "ب": "وكان".
(5)
قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى تحقيق التاريخ؛ أعني: ادعاء النسخ. انظر: "شرح عمدة الأحكام"(4/ 121) وعنه نقل المؤلف رحمه الله اعتذار الحنفية.
عليه شهداءَ، فأوجبَ ذلكَ عليهم عقوبة وانتِقاماً لإعراضهم عن قبولِ حكمٍ يعتقدونه إلى حكم يَجْحدونه ويكفرون به = كان أقربَ من دعوى النسخ.
ولا شكَّ أن قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] لفظٌ ظاهرهُ العُموم، فيجوز أن يكونَ أُريد به التخصيصُ، إما بالأبكارِ من النساءِ، أو بالثَّيّبات منهن، ويجوزُ أن يكونَ على عمومهِ فيعمَّ البكْرَ والثَّيِّبَ، هذا هو المُتَعَينُ عندي؛ لإطلاق اللفظِ على حقيقةِ عمومهِ، وليَس هنا دليلٌ على التخصيص بالأبكار أو بالثيّبات.
فإن قلتم: فهل نجد بياناً يعضد قولك؟
قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا عني، خُذوا عني، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُن سَبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِئةٍ وتَغْريبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بالثيِّبِ جَلْدُ مِئَةٍ والرَّجْمُ"(1)، فذكر البكرَ والثيّبَ بعدَ أن ذكر الضميرَ العائدَ عليهنَّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"قد جعلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا"، وضم إلى بيانهن بيانَ حكمِ المذكور الذي في الآية الثانية، فدَّل على أنه على عمومه.
إذا تقرَّرَ هذا، فقد قال بعض المفسرين، وبعض مؤلفي الناسخ والمنسوخ: إن هذه الآيةَ في البِكْرين (2) تردُّ التي بعدَها في المُحصَنين (3)، وقال أكثرُهم: هذه في المحُصَنيَن (4)، والتي بعدَها في البِكرين (5)(6).
ولقد أخطؤوا خطأ فاحشًا من جهة اللغة؛ حيث أطلقوا اللفظَ المختصَّ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
في "أ": "البكر".
(3)
في "ب": "المحصنتين".
(4)
في "ب": "المحصنتين".
(5)
في "أ": "البكر".
(6)
انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 214 - 215).
بالإناثِ، وهو قوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ} على الذكور؛ إذ لا يُعرف في اللسان أن جمعَ الإناثِ يتناولُ الذكورَ، لا منفردينَ ولا مجتمعين مع الإناث، نعم يجوزُ في لغةٍ شاذةٍ إطلاقُ جمعِ المؤنثِ على جمع (1) المذكر مَجازًا في جمع الموصولِ خاصَّة؛ كقولِ الشاعر:[البحر الوافر]
فَما آباؤُنا بأمنَّ مِنْهُ
…
عَلَينا اللائي قَدْ مَهَدُوا الحُجُورَا (2)
ولا يجوزُ تنزيلُ قولهم على هذا؛ لأن القرآن لم يردّ باللغة الشاذة، ولو لم تكن شاذةً، لَمّا جازَ؛ لقولهِ تعالى:{يَأْتِينَ} ، ولو كانَ المرادُ به اللغة المذكورة لقال: يأتون؛ كقوله: مهدوا الحُجورا، وللتقييد بالنساء؛ كقوله تعالى:{مِنْ نِسَائِكُمْ} ، فليس على تخصيصهم إحدى الآيتين بإحدى الصفتين دليلٌ، وإنما هو تحكُّمٌ باطل.
* ثم اختلف أهلُ العلم:
- فقال بعضهم: هذه الآيةُ منسوخةٌ بآية الجَلْد (3)(4)؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "قد جعلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا"، وأضاف البيانَ إلى اللهِ تعالى.
- وقال بعضُهم (5): ليست منسوخةً؛ لأن الله سبحانه علقَ البيانَ بوقتٍ،
(1)"جمع" ليست في "أ".
(2)
البيت لرجل من بني أسلم. انظر: "شرح ابن عقيل"(1/ 145). وانظر الكلام فيه على جواز إطلاق جمع المؤنث على المذكر.
(3)
في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
…
} الآية: [النور: 2].
(4)
انظر: "تفسير الطبري"(4/ 297)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 214)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 309)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 44)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 36)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 22).
(5)
هو مكي بن أبي طالب في "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه"(ص: 214).
وقد بيَّنَ اللهُ سبحانه السبيلَ بالحُدود، وضعفه بعضهُم بأن الوقتَ غيرُ معلومٍ ولا محدودٍ [وإنما كان يمتنعُ من النسخِ لو قال:(حتى يتوفاهنَّ الموتُ)، أي: يبلغن إلى وقتِ كذا] (1).
وهذا التضعيفُ ضعيفٌ، بل الصوابُ أنها ليستْ بمنسوخةٍ؛ لأن النسخَ لا يكون إلا بعد استقرارِ حكمٍ متقدّمٍ، وهذه الآية لم يبين الله فيها حُكْمًا، وإنما وعدَ عباده ببيانِ الحكم في الوقت الذي يريدُه، وأمرهم بإمساك الزواني؛ حفظًا لهم من الزنا؛ وانتظاراً لوعده وقضائه، ثم منَّ اللهُ على عبادِه ببيانه وشرعِه في الوقتِ الذي أراده، فهذا بيانٌ لا نسخٌ، ونظيرُه إذا قَالَ السيدُ من العربِ لعبدِه: سالمُ احبسْ عبدَكَ غانِمًا الذي أساء (2) حتى يموتَ، أو يأتيكَ قضائي فيه، فلا يقال: إن السيدَ حكمَ في غانمٍ بحكمٍ، وإنما حبسَهُ لأجلِ القضاء.
وبهذا يتبيَّنُ (3) لكَ أن آيةَ السيفِ (4) نسخَتْ كلَّ عفوٍ وصَفحٍ عن المشركين، وإن كان قد علَّق قضاءه بوقتٍ غير معلوم؛ كقوله تعالى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، وقوله تعالى:{فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} [الأعراف: 87]؛ لأن العفو والصفح والصبر حكمٌ مستقرٌّ، وهو الكفُّ عن قتالِهم، والاستسلامُ معهم.
(1) ما بين معكوفتين ليس في "أ".
(2)
"الذي أساء": زيادة من "ب".
(3)
في "أ": "تبين".
(4)
في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
70 -
(11) قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16].
* قد بينتُ أن هذه الآيةَ مختصةٌ بالذكور، وأن الآيةَ الأولى خاصَّةٌ بالإناث عامَّةَّ فَي أنواعهن، ثم كذلك هذه عامَّةٌ في أنواعِ الذكورِ من الِبْكرين والثَّيبين (1)، وإنما قلت هذا؛ لأن الله سبحانه ذكرَ الإناثَ بلفظ يخصُّهُنَّ، وذكر الذكورَ بلفظٍ يخصُّهم، وقيدَ لفظَ الإناثِ بقوله:{مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15]، وقيدَ لفظَ الذكور بقوله:{مِنْكُمْ} [النساء: 16]، ففي التقييد دلالتان: التقييد بالنساء، والتقييد بكونهن من نساء المؤمنين.
* ثم أمر اللهُ -سبحانه- بإيذاء الذَّكَرَيْنِ إذا زنيا، والإيذاءُ أمر مُجْمَلٌ لا يُعرفُ المُرادُ منه، فيجوز أن يُرادَ به التوبيخُ والضربُ (2)، فبين هذا المجملَ مع بيان السبيلِ الذي وعدَ به اللهُ سبحانه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"خُذوا عَنِّي، [خُذُوا عَنِّي"، الحديث.
فآيةُ الجلد مبينةٌ لجنسِ الإيذاءِ في حقِّ البِكْرِ، وآيةُ الرجمِ ناسخةٌ للأذى
(1) انظر: "تفسير الطبري"(4/ 295)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 307)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 215)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 42)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 22).
وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 86).
(2)
فيه قولان:
أحدهما: أن المراد: الأذى بالكلام والتعيير. روي عن ابن عباس، وبه قال: قتادة والسدي والضحاك ومقاتل.
والثاني: أنه التعيير والضرب بالنعال. وروي عن ابن عباس أيضًا.
انظر: "تفسير الطبري"(4/ 296)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 35)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 42)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 86)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 463).
في حقِّ الثيّبِ؛ إذ لا يجوزُ في اللسانِ إطلاقُ الأذى على الرجمِ والقتلِ حتى تكون مبينة لمُجْمَلِه، وإنما يُطلق الأذى على ما دون ذلك.
فهذه الآيةُ بعضُها مبيَّنٌ وبعضُها منسوخٌ، إلا أن يثبتَ تعيينُ الإيذاءِ بنوعٍ معلومٍ مستقرٍّ في الشرع، فتكون هذه الآيةُ منسوخةً في حقِّ البكرِ والثيِّبِ، وثبوت ذلك طريقه] (1) [النقل الصحيح، ولقد أخطأ من خصَّ الأنثيين بالبكرين (2)، حتى تحكم.
ونسخُ الأولى بالثانية من وجهين] (3): من طريق اللغة والنقل.
أما اللغة، فَلِمَا قدمتُ، فلا يجوز أن يجعل المذكر ناسخًا لخطابِ المؤنث الذي لا يجوزُ إطلاقهُ على المذكَّرَ (4) بحالٍ.
وأما النقلُ، فلقوله صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وتَغْريبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ جَلْدُ مئةٍ والرَّجْمُ"(5) ولم يقل: [خذوا عني](6)، خذوا عني (7)، قد جعل الله لهن سبيلًا هو الأذى، فدلَّ على بطلانِ قوله.
* وفي الآية دليلٌ على أن الزانيَ إذا تابَ سقطَ عنُه الحَدُّ؛ لأن اللهَ سبحانه أمرنا بالإعراضِ عنه، ولو كانَ واجبًا لم يسقطْ، ولَما أَمَرنَا بالإعراض،
(1) ما بين معكوفتين ليس في "ب".
(2)
انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 215). وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 86).
(3)
ما بين معكوفتين ليس "أ".
(4)
في "أ": "الذَّكر".
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
ما بين معكوفتين ليس في "ب".
(7)
ما بين معكوفتين ليس في "ب".
وهذا أحدُ قولَي الشافعيِّ -رحمه الله تعالى- (1).
وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ -رحمهما الله تعالى- والشافعيُّ في القول الجديد: إن الحدَّ لا يسقطُ بالتوبةِ (2).
واستدلَّ قائلوه بإطلاقِ قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، ولا دليلَ فيه؛ لأنه مطلقٌ، وهذا مقيدٌ بالتوبة، والمقيدُ قاضٍ على المطلقِ باتفاقِ أهل العلمِ بشروط الاستدلال.
وهذا عندي أقوى دليلًا، وبه أقول؛ للنص المذكور في الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم في ماعز:"هَلَّا تَرَكتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ" لَمَّا أخبروه أنه قال: رُدُّوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا مَسَّهُ ألمُ الحجارة (3).
* وعطفُ الإصلاحِ على التوبة:
- يحتملُ أن يُرادَ به الإصلاحُ بنفسِ التوبة، أي (4): فإن تابا وأصلحا بالتوبة.
- ويحتمل أن يرادَ به: فإن تابا وأصلَحا العمل، وهو الظاهر؛ لأن
(1) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 285)، و"الحاوي" للماوردي (13/ 370). وهو المعتمد عند الحنابلة. انظر:"المبدع" لابن مفلح (9/ 152)، و "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 384).
(2)
انظر: "شرح فتح القدير"(5/ 429)، و"جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص: 522)، و"الذخيرة" للقرافي (10/ 218)، و"الحاوي" للماوردي (13/ 370)، و"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 8)، وهو الأظهر عند الشافعية.
(3)
رواه أبو داود (4419)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 217)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(28767)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2393)، والحاكم في "المستدرك"(8082)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 219)، عن نعيم بن هزال.
(4)
"أي": ليست في "أ".
العطفَ يقتضي الغَيْرِيَّةَ، ولأن به تتبيَّنُ التوبةُ الخالصةُ لله -تعالى- من التوبةِ للتَّقِيَّةِ.
* وقد اختلفَ الشافعيةُ في اشتراطِ الإصلاح، والصحيحُ اشتراطهُ (1).
* وينبغي أن يُعْلَمَ أن الإصلاحَ شرطٌ لمسقط الحَدِّ، لا أنه مُسْقِطٌ للحدِّ بنفسِه، وقد وهم بعضُ الشافعية، فجعل نفسَ الإصلاح مسقطًا للحدِّ، وليس كذلك.
* ولما أطلقَ الله سبحانه الإصلاحَ في الأزمانِ، ولم يقيِّدْه لنا، نظرْنا في بيانه، وفي (2) الدلالة عليه، فوجدنا الشرعَ قد قَدَّر حولًا في فراقِ الأمرِ المألوفِ امتحانًا للإنسان، فغرَّبَ البِكْر إذا زنى عامًا؛ عقوبةً له بفراقِ وطنهِ المألوف المحبوبِ، فاستدللنا بذلكَ على أنه (3) من ادَّعى نفي نفسِه عن مألوفها وشهواتِها، فلا بدَّ من امتحانِه بعامِ، كتغريبِ البكرِ إذا زنى، وهذا الاعتبارُ أحسنُ من الاعتبار بحولِ الزكاةِ والجزية؛ فإن ذلكَ من باب الرفقِ بالأموال.
ولما رأى إمامُ الحرمين والغزاليُّ، -رحمهما الله تعالى- مباينةَ هذا الحولِ للزكاةِ (4) والجزية، وأن اعتبارَهُ به غيرُ مطابقٍ (5)، رجعا إلى الأمر
(1) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 285)، و "روضة الطالبين" للنووي (10/ 159).
(2)
في "ب" سقطت "في".
(3)
في "ب" سقطت "أنه".
(4)
في "ب": "الزكاة".
(5)
في "ب": "جائز".
المقصودِ به، وهو الدلالةُ على صدقِه في توبته، فوجداه يحصل بمضيِّ مدة يغلب على الظنِّ صدقُه فيما ادعاه، ويختلف ذلك بأمارات الصدق، وقُوَّتِها وضعفها.
والأولُ قولُ أكثر الشافعيةِ، وهو الأولى؛ لما بينتُه.
ومنهم من قدر ستةَ أشهرٍ، وحُكي عن نصِّ الشافعيِّ -رحمه الله تعالى- (1).
وظاهر إطلاق الآية أن التوبةَ تسُقط الحدَّ، سواء تابَ قبلَ الوصول إلى القاضي، أو بعده، وفيه خلافٌ (2)، واتِّباعُ الظاهر أولى وأليقُ بباب الحدِّ.
* * *
(1) انظر: "الحاوي" للماوردي (13/ 370)، و"روضة الطالبين" للنووي (10/ 159)، و"نهاية المحتاج" للرملي (8/ 307)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 438)، و"الإقناع" له أيضًا (2/ 635). وانظر "فتح الباري" لابن حجر (5/ 258).
(2)
قال النووي: في سقوط الحد بالتوبة طريقان: أحدهما: تخصيصهما بمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فإن تاب بعد الرفع لم يسقط قطعًا، والثاني: طردهما مع الحالين. وقد يرجع هذا الخلاف إلى أن التوبة بمجردها تسقط الحد أم يعتبر الإصلاح؟ إن اعتبرناه، اشترط مضي زمن يظهر به الصدق، فلا تكفي التوبة بعد الرفع. انظر:"روضة الطالبين"(10/ 159).
وقال قبل هذا (10/ 146): وإنما لا يسقط الحد بالتوبة على قول في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فالتوبة تسقط أثر المعصية.