المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(من أحكام الطهارة والصلاة) - تيسير البيان لأحكام القرآن - جـ ٢

[ابن نور الدين]

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الطلاق)

- ‌(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة)

- ‌(أحكام الخلع)

- ‌(النَّهي عن مضارَّة المطلقة)

- ‌(النهى عن عَضْل المطلقات)

- ‌(من أحكام الرضاع)

- ‌(عدة المتوفى عنها زوجها)

- ‌(التعريض بخطبة المعتدَّة)

- ‌(طلاق المفوّضة)

- ‌(حكم المطلقة قبل المس وبعد الفرض)

- ‌(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف)

- ‌(عدَّةُ المتوفَّى عنها)

- ‌(متعة المطلقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(صدقة التطوع)

- ‌(تحريم الرِّبا)

- ‌(وجوبُ تركِ التَّعامُل بالرِّبا)

- ‌(المُداينة)

- ‌(الرَّهن)

- ‌سُورَةُ آلَ عِمْرَانَ

- ‌(النَّهي عن اتخاذ الكافرين أولياء)

- ‌(فَرضُ الحجِّ)

- ‌(الشوري)

- ‌سُورَةُ النِّسَاءِ

- ‌(من أحكام اليتامي)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الوصية)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(من أحكام التوبة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام القضاء)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الطهارة والصلاة)

- ‌(من أحكام الإمامة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام السَّلام)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام القصاص والديات)

الفصل: ‌(من أحكام الطهارة والصلاة)

(من أحكام الطهارة والصلاة)

83 -

(25) قوله جل جلاله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43].

* نهانا الله سبحانه عن قُربانِ الصلاة في حالِ السُّكْرِ، وبَيَّنَ لنا العِلَّةَ المانعةَ أنها عدمُ عِلْمِ المُصَلّي بما يقولُ.

"والإجماعُ منعقدٌ على أن السُّكْرَ إذا بلغَ بالشاربِ إلى حَدِّ التخليطِ، لا تصحُّ صلاتُه، وفعلُها حرامٌ؛ لوجودِ العِلَّةِ الموجِبَةِ للفساد (1).

* وأما الشاربُ إذا صَلَّى في مبادِئِ النشوة ودبيبِ السكر؛ بحيث يعلمُ ما يقولُ، فصلاتهُ جائزةٌ صحيحة، وجميع أعماله (2) وأقواله كذلك؛ لعدم العلة، ولأنه لا يُسَمَّى سَكْرانَ، ولأنه داخلٌ في جُملة المكلفين (3).

وسواءٌ حملنا كلمةَ (حتى) على التعليل، أو على الغاية؛ فإن وجود

(1) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 120)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 572).

(2)

في "ب": "أفعاله".

(3)

انظر: "الأم" للشافعي (1/ 69)، و"المجموع" للنووي (3/ 8)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 204) و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 218).

ص: 387

العلمِ من الشارب بما يقولُ، وعدَم العلم به، علَّةٌ لصحةِ الصلاةِ وفسادِها طرداً وعكساً؛ لأن الغايةَ بمنزلةِ العِلَّةِ للحُكْم المعيَّن.

* وإن صلَّى في حالِ اختلاطِ عقلهِ، فلا تصحُّ صلاتُه اتفاقاً؛ للآية.

* واختلفوا هل يلحقُ بها سائرُ أقواله أو لا؟

فذهب قومٌ إلى الإلحاق، فقال الليث: كلُّ ما كان من منطقِ السكرانِ، فموضوعٌ عنه، ولا يلزمهُ طلاقٌ ولا عتقٌ ولا نكاحٌ ولا بيعٌ ولا حَدٌّ في قذف، وكلُّ ما جَنَتْهُ جوارحُه، فلازم له، فيُحَدُّ في الشربِ والقتلِ والزنا والسرقةِ (1).

وبه قال داودُ، وأبو ثورٍ، وإسحاقُ، وجماعة من التابعين؛ كالقاسمِ بنِ محمدٍ، وطاوسٍ، وعطاءٍ، وأبانَ بنِ عثمان (2).

وثبتَ عن عثمانَ أنه كان لا يرى طلاقَ السكران (3)، وبه قالَ الشافعيُّ في قولهِ القديم، واختاره المزنيُّ، وابنُ سُريج، وأبو سهلٍ الصعلوكيُّ، وابنُه من الشافعية (4).

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 208)، "المحلى" لابن حزم (10/ 210)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 203).

(2)

وكذا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، انظر:"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 226)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 205)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 48).

(3)

رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف"(12308)، وابن أبي شيبة "المصنف"(17973)، وهو قول لابن عباس، كما علقه البخاري عنه وعن عثمان؛ وأشار إلى ترجيحه انظر:"صحيح البخاري"(5/ 2078).

(4)

انظر: "مختصر المزني"(ص: 202)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 62)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 289).

وقد أنكر الماوردي أن يكون هذا قولاً قديمًا للشافعي وتكلم في صحة نسبة هذا =

ص: 388

- وذهب مالك، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ في الجديدِ إلى عدم الإلحاقِ، يروى عن عمرَ، ومعاويةَ، وجماعةٍ من التابعين (1).

ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة: يلزمه كلُّ شيءٍ (2).

وقال مالكٌ: يلزمه الطلاقُ والعتقُ والقَوَدُ، ولا يلزمهُ النكاحُ ولا البيع (3).

وللشافعيةِ اختلافٌ وتفصيلٌ طويلٌ (4).

=القول إليه. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (10/ 236).

(1)

انظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 588)، و"المدونة الكبرى"(5/ 24)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 206)، و"المبسوط" للسرخسي (6/ 176)، و"العناية شرح الهداية" للبابرتي (14/ 361)، و"الأم" للإمام الشافعي (5/ 253)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 497)، و"المغني" لابن قدامة (289/ 7).

(2)

واستثنى من جواز تصرفاته: الردة والإقرار بالحدود الخالصة لله والشهادة على شهادة نفسه. انظر: "المبسوط" للسرخسي (6/ 176)، و"شرح فتح القدير" للكمال بن الهمام (3/ 491)، و"رد المحتار" لابن عابدين (8/ 197).

(3)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 206)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 62)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 203)، و"مواهب الجليل" للحطاب (4/ 43، 242).

(4)

إذا كان السكر بمباح كحالة البنج والاضطرار والإكراه ونحوها، فلا تعتبر أقواله وأفعاله، ولا أثر لعبارته، لعدم تحقق القصد منه. وإذا كان السكر بمحرم فيؤاخذ بأقواله عقاباً وزجراً له، فتصح عقوده كالبيع والزواج، وتصح تصرفاته كالطلاق، وتترتب عليها آثارها. انظر:"مغني المحتاج" للشربيني (2/ 219).

ونقل السيوطي تفصيلاً آخر حيث قال: قال الرافعي: وفي محل القولين أربع طرق:

أصحهما: أنهما جاريان في أقواله وأفعاله كلها ما له وما عليه.

والثاني: أنهما في أقواله كلها كالطلاق والعتاق والإسلام والردة والبيع والشراء =

ص: 389

* ويلحق بالسُّكْر ما في معناه من الحالةِ التي تقتضي اختلاطَ العقل وجهلَ المصلي بما يقول؛ كتخبيطه بأكل قليلٍ للأفيونِ (1) والبَنْجِ (2) والحَشائِشِ -نسأل الله سبحانه العافية لنا ولسائر المسلمين- وكالمغلوبِ بالنُّعاس؛ لوجودِ العلَّةِ المقتضية للنهيِ والفساد (3)، ولما روت عائشةُ

= وغيرها، وأما أفعاله كالقتل والقطع وغيرها فكأفعال الصاحي بلا خلاف لقوة الأفعال.

الثالث: أنهما في الطلاق والعتاق والجنايات، وأما بيعه وشراؤه وغيرهما من المعاوضات فلا يصح بلا خلاف لأنه لا يعلم ما يعقد عليه والعلم شرط في المعاملات.

الرابع: أنهما فيما له كالنكاح والإسلام، أما ما عليه كالإقرار والطلاق والضمان فينفذ قطعاً تغليظاً، وعلى هذا لو كان له من وجه وعليه من وجه كالبيع والإجارة نفذ تغليبا بطريق التغليظ، هذا ما أورده الرافعي وقد اغتر به بعضُهم فقال تفريعاً على الأصل: السكران في كل أحكامه كالصاحي إلا في نقض الوضوء، قلت: وفيه نظر، فالصواب تقييد ذلك بغير العبادات، ويستثنى منه الإسلام، أما العبادات فليس فيها كالصاحي كما تبين، ذلك فمنها الأذان فلا يصح أذانه على الصحيح كالمجنون والمغمى عليه لأن كلامه لغو وليس من أهل العبادة، وفيه وجه أنه يصح بناء على صحة تصرفاته. انظر:"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص:217).

(1)

الأفيون: لبن الخشخاش المصري الأسود، نافع من الأورام الحارة، خاصة في العين، مخدِّرٌ، وقليله نافع مُنَوِّم وكثيره سُمّ. "القاموس" (مادة فون) (ص: 1102).

(2)

البِنْج: بالكسر: نبتٌ مُبستٌ، مخبِّطٌ للعقل، مجنّن، مسكِّن لأوجاع الأورام والبثور ووجع الأذن، وأخبثه الأسود، ثم الأحمر، وأسلمه الأبيض. وبنجه تبنيجًا: أطعمه إياه. "القاموس"(مادة: بنج)(ص: 166).

(3)

انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 206)، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 203).

ص: 390

-رضي الله تعالى عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وهو يصلي، فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عنهُ النومُ؛ فإنَّ أَحَدَكُمْ إذا صَلَّى وهو يَنْعُسُ، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ فَيَسْتَغْفِرُ، فيَسُبُّ نَفْسَهُ"(1).

* وحرمِ سبحانه علينا أيضاً قُربان الصلاة في حالِ الجَنابةِ حتى نَغْتسلَ، إلا أن نكون مُسافرين عادِمين للماء؛ فإنه أباحَ لنا قُربانَها إذا تيمَّمْنا صعيداً طيباً، فقال:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، والتقدير: ولا جُنُباً حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل، فتقربونها، وإن لم تغتسلوا.

ثم قربانُها بغيرِ اغتسالٍ مطلقٌ في هذه الجملة، مقيدٌ بقَصْدِ الصعيدِ الطيبِ في الجملة التي بعدَ هذه.

فإن قال قائل: فهذا يقتضي أن الجنبَ لا يقرب الصلاة في الحضر إذا عدم الماءَ، ولا يجوز له التيممُ؛ لما في الاستثناء من الحَصْر.

قلنا:

- يحتمل أن يريد به الحصرَ في الإباحة؛ كما ذكرت، فدلَّ على أنه لا يجوز له في غير ذلك الحال؛ كما هو قولُ أبي حنيفة (2).

- ويحتمل أن يكونَ الاستثناءُ ورَد على الغالب في الوجود؛ فإنَّ الماءَ لا يعدمُ غالباً إلا في السفر، وعدمُه في الحَضَر نادر، فلا يدلُّ على عدم

(1) رواه البخاري (209)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين، أو الخفقة وضوءاً، ومسلم (786)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: أمر من نعس في صلاته، وهذا لفظ مسلم.

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 170)، (4/ 2)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (1/ 25)، و"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 249).

وهناك من الحنفية من أجاز التيمم حال فقد الماء لغير المسافر، انظر: و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (1/ 25)، و"العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 184).

ص: 391

الجواز، فيلتحق به ما في معناه من حالاتِ العدمِ؛ كما هو قولُ مالكٍ، والأوزاعيِّ، والشافعي (1).

إلا أن الشافعيَّ قالَ: إذا قدرَ على الماء، فعليه الإعادةُ (2).

وما ذكرتُه من الأحكام هو على قولِ جماعةٍ من الصَّحابةِ والتابعينَ والمفسرين أن المرادَ بالنهي عن قُربان الصلاةِ نفسُها (3).

وقال فريقٌ منهم: المرادُ بالنهيِ مَوْضِعُ الصلاة الذي هو المَسْجِدُ، فالصلاةُ على هذا داخلة في النهيِ من باب الأولى (4).

قال عطاءُ بنُ يسارٍ عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم- في قوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 34]: لا تقربِ المسجدَ وأنتَ جنب إلا أنْ يكونَ طريقُك فيه، فتمرَّ ماراً (5).

وروى الليثُ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيب: أن رجالاً من الأنصار كانت

(1) وهو قول الإمام أحمد أيضاً. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 206)، "الأم" للشافعي (1/ 45)، و "المجموع" للنووي (2/ 184)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 148).

(2)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 257)، و"الشرح الكبير" للرافعي (2/ 337)، و "روضة الطالبين" للنووي (1/ 122).

(3)

وهو قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل وابن زيد. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 175)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 552)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 90).

(4)

وهو قول ابن عباس في رواية وابن مسعود وأنس وسعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار وعكرمة والزهري. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 552)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 202)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 91).

(5)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 98).

ص: 392

أبوابُهم في المسجدِ، فتصيبهم جنابةٌ، ولا ماءَ عندهم، فيريدون الماءَ، ولا ممرَّ لهم إلا في المسجد، فأنزل الله هذه الآية (1).

وقد اختلف أهلُ العلم في ملابسةِ الجنبِ المسجد، فقال جمهورُ السلفِ: يجوزُ له العبورُ دونَ القَرار (2)، وبه أخذ الشافعيُّ (3).

فهؤلاء منهم من يقول بهذا التأويل؛ كابنِ عباسٍ، فجرى على تأويله (4).

ومنهم من يقول بالقول الأول أن المرادَ بالنهي عينُ الصلاة، وإنما وافقه لدليلٍ آخرَ مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِجُنُبٍ ولا لِحائِضٍ"(5)(6).

وربما ظنَّ ظانٌّ أن كلَّ من قال بجواز العبور للجنب أنه قائل بالمعنى الثاني؛ لموافقته للقائل به في الحكمِ، وليس كذلك؛ إذ لا يلزمُ من القَول بإيقاع النهيِ عن الصلاة القولُ بتحريم العبور.

وقال قوم: لا يقربُ المسجدَ بحالٍ، وهو قولُ مالكٍ، واحتجَّ له بما روت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَجِّهوا هذهِ البيوتَ (7)

(1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 99).

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(5/ 99)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 166)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 555).

(3)

انظر: "الأم" كلاهما للشافعي (1/ 54).

(4)

انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 91)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 97)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 206).

(5)

انظر تخريج الحديث الآتي إذ هو جزء منه.

(6)

انظر: "المجموع" للنووي (2/ 181)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 502).

(7)

أي: اصرفوا أبواب هذه البيوت التي فتحت إلى المسجد إلى جانب آخر كيلا يمر الجنب أو الحائض في المسجد.

ص: 393

عن المَسْجِدِ؛ فإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِجُنُبٍ ولا لحِائِضٍ" (1)(2).

وقال أحمدُ، وإسحاقُ، والمزنيُّ (3)، وأصحابُ الرأي (4)، وأهلُ الظاهر (5): يجوزُ مطلقًا، إلا أن أحمدَ وإسحاقَ شرطا الوضوء (6)؛ أخذاً بظاهر قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43] ولأن الأصلَ عدمُ التحريم.

ولا حجةَ في الحديث لمالكٍ؛ لأنه مُجْمَلٌ لا يُحتجُّ به عند أكثر المحققين من الأصوليين (7).

(1) رواه أبو داود (232)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يدخل المسجد، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(1783)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(2/ 67)، وابن خزيمة في "صحيحه"(1327)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 442).

(2)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 35)، و "حاشية الدسوقي"(1/ 139).

(3)

انظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 185).

(4)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (2/ 254)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 98).

(5)

هذا الحديث مختلف في صحته؛ فقد ضعفه ابن حزم والبيهقي، وصححه ابن خزيمة، وحسَّنه ابن القطان والزيلعي وابن حجر وغيره، انظر:"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2/ 442)، و"المحلى" لابن حزم (2/ 185)، و "نصب الراية" للزيلعي (1/ 194)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 376).

(6)

إن كان يقصد بأصحاب الرأي الحنفية فالمذهب عند الحنفية كمذهب المالكية تحريم المرور والمكث، انظر:"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 168)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 118)، و "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (1/ 171).

(7)

انظر: "مختصر المزني"(1/ 19)، و "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (2/ 254)، و"المجموع" للنووي (2/ 182).

ص: 394

نعم يبقى فيه الاحتجاجُ للفريقِ الأول؛ فإن تحريمَ اللُّبْثِ مُتيَقَّنٌ بكلّ حال؛ لأنه إن كانَ المرادُ بالتحريم العبورَ، فاللبثُ داخلٌ فيه من طريق الأولى، وإن كان التحريمُ خاصًّا باللُّبثِ، فهو المقصودُ بالحكم.

وأما الحديثُ -وإن سلم الاحتجاج به- فقد ضَعَّفه أحمدُ؛ لأن راويَهُ مجهول (1).

فإن قال قائل: فأيُّ القولين أرجحُ وأولى: وقوعُ النهيِ على الصلاة، أو على موضعها؟

قلنا: الأولُ أولى من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن فيه حملَ اللفظ على حقيقته، وعدمَ الإضمار، وحملُ اللفظِ على حقيقته أولى من المجاز (2).

ثانيها: سياق آخر الآية حكُمهُ مختصٌّ بالصلاة، ولا يجوز أن يتعلق بموضِعِ الصَّلاة، فهذا يدل على أن أولَ الكلام كآخره؛ لما بينهما من الربط بحرف النَّسَق (3).

(1) لم أقف على تضعيف أحمد لأفلت إلا في "شرح السنة" للبغوي (2/ 46)، ولفظه: وضعف أحمد الحديث، لأن راويه وهو أفلت بن خليفة مجهول.

وقد نقل عنه هذا التضعيف ابن حجر في "تهذيب التهذيب"(1/ 320).

لكن نقل غير واحد عن الإمام أحمد خلاف هذا القول وأنه قال عن أفلت: لا أرى به بأسًا. انظر: و"نصب الراية" للزيلعي (1/ 168)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 320)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 139)، و"البدر المنير" لابن الملقن (2/ 559) وغيرهم.

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 170)، و"التفسير الكبير" للرازي (10/ 87).

(3)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 170)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 556).

ص: 395

ثالثها: ما حكاه المفسرون من سببها، وذلك أن عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ -رضى الله تعالى عنه- صنعَ طعامًا، ودعا ناساً من أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم، فَطَعِموا وشربوا، وحضرت صلاةُ المغربِ، فتقدمَ بعضُ القوم فصلَّى بهم المغرب، فقرأ:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، ولم (1) يتمَّها، فأنزلَ الله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (2)[النساء: 43]، وحملُ ذلكَ على موضعِ الصلاة حَمْل لها على غير سببها، وحملُ اللفظِ على غير سببه، وإخراجُ سببه غيرُ جائز.

فإن قيل: فقد روى بعضُهم نزولهَا في الذين كانت أبوابهم في المسجدِ (3)، مع اتفاقِهم على أن صدرها نازلٌ في السُّكارى، فكيف يتفق لها سببان؟

قلنا: يمكن أن يقال: إن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا

(1) في "ب": "فلم ".

(2)

رواه الطبري في "تفسيره"(2/ 363) وتمام الرازي في "فوائده"(2/ 228)، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم علي، فطعموا وشربوا من الخمر قبل أن تحرم، فأخَذَت في علي، وحضرت صلاة المغرب، فقدموه، فصلى بهم فقرأ:"قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن عابدون ما عبدتم"، وهو لا يدري، ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} .

(3)

لعله يقصد ما رواه الطبري في "التفسير"(5/ 99) عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب قال عن قول الله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} : أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد، فأنزل الله تبارك وتعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} .

ص: 396

الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فزل في هذا السبب، وأن قوله تعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] نزل في الذين كانت أبوابُهم في المسجد، ونيةُ العاملِ والمعمول في حرف العطف جائر، فهو معطوف على الجملة الحالية.

وقد بينتُ في أول كتابي هذا أنه يجوزُ أن ينزلَ بعضُ الآية دونَ بعضٍ، ثم ينزلَ البعضُ الآخرُ في زمنٍ آخر، وإن كانَ قد تَوَهَّمَ الإمامُ أبو عبد الله الشافعيُّ خلافَ ذلك.

وهذا التأويلُ عندي متعينٌ في هذا المقام؛ لما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- من كونِ عمرَ وابنِ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنهما- لا يُجَوِّزان التيممَ عن الجنابة (1)، ولو كان نزولُ هذه الجملة في الصلاة كالجملة الأولى، لما خالفوا في ذلك.

* فإن قال قائل: فما حقيقة الجُنُبِ؟

قلنا: الجُنُبُ في الأصلِ موضوع لمعنى البُعْد، ومنه قوله تعالى:{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، سمي بذلك لبعده عن حالة التقرب إلى الله تعالى، وهو مأخوذٌ من الجنابة.

والجنابةُ تطلق على خروج الماء بالتلذُّذ، وقد تطلق على الماءِ نفسِه؛ لأنه سببٌ للبعد (2)، قالت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-: كنت أغسلُ الجنابةَ من ثوبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وبقع الماء على ثوبه.

(1) انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 257)، و"المجموع" للنووي (2/ 238).

(2)

انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 155)، و"لسان العرب"(1/ 268 - 279) مادة (جنب).

ص: 397

خرجه الشيخان، ولفظ مسلم:"وقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، فيصلي فيه"(1).

وبين النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن التقاءَ الختانَيْن من غيرِ إنزالٍ كمثله مع الإنزال، فقال:"إذا الْتَقَى الخِتانانِ، وَجَبَ الغُسْلُ"(2)، وقال أيضاً:"إذا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِها الأَرْبَعِ، وجَهَدها، فَقْدَ وَجَبَ الغُسْلُ، وإنْ لم يُنْزِلْ"(3)، خرجه الشيخان.

* وبيَّنَ أن إنزالَ المرأةِ الماءَ من غيرِ جِماع كَهُوَ مع الجِماع، فقال صلى الله عليه وسلم لأمِّ سُلَيْمٍ امرأةِ أبي طلحةَ لمّا سألتْهُ: هل على المرأةِ من غسل إذا هي احْتَلَمَتْ؛ قال: "نَعَمْ، إذا رَأَتِ الماءَ"(4)، خرجه الشيخان أيضاً، ولم يخالف فيه إلا النخعيُّ؛ فإنه قال: لا غُسْلَ عليها (5).

(1) رواه البخاري (227) كتاب: الوضوء، باب: غسل المني وفركه، وغسل ما يصيب من المرأة، ومسلم (289)، كتاب: الطهارة، باب: حكم المني، وهذا لفظ البخاري.

(2)

رواه ابن ماجه (608)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، والإمام الشافعي في "مسنده" في "مسنده"(1/ 159)، والإمام أحمد في "مسنده"(6/ 239)، وإسحاق بن راهويه (1044) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 60)، وابن حبان في "صحيحه"(1183)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(12/ 286)، عن عائشة.

(3)

رواه البخاري (287)، كتاب: الغسل، باب: إذا التقى الختانان، ومسلم (348)، كتاب: الحيض، باب: نسخ الماء من الماء، عن أبي هريرة.

(4)

رواه البخاري (278)، كتاب: الغسل، باب: إذا احتلمت المرأة، ومسلم (313)، كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، عن أم سلمة.

(5)

رواه عن إبراهيم ابن أبي شيبة في "المصنف"(887)، وجود إسناده الحافظ ابن حجر في:"فتح الباري"(1/ 388).

ص: 398

وروي عن الشافعيِّ -رحمه الله تعالى-: أنه قال: إنما سُمِّيَ الجُنُبُ جُنُباً من المخالطة، ومن كلامِ العربِ: أجنبَ الرجلُ: إذا خالَطَ أهلَه (1).

فعلى قوله يكونُ لفظُ القرآنِ متناولاً لمن جامَعَ ولم يُنْزل، بطريقِ اللغة، مع البيانِ من النبي صلى الله عليه وسلم.

* إذا تقرر هذا، فهل يطلقُ الجنبُ على من خرجَ منه الماءُ بغير تَلَذُّذٍ، فيجب عليه الغسلُ، أو لا يطلق عليه إلا إذا خرج على الحالة المعتادة، فلا يجب عليه الغسل؟

اختلف فيه، فقال الشافعيُّ بالأول (2)، وقال مالك وأبو حنيفة بالثاني (3).

* ثم قال الله جل جلاله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].

فقيدَ بعدمِ الماء بعد ذكرِ حالتي المَرَضِ والسَّفَر، فيجوزُ أن يكونَ التقييدُ متعلِّقاً بهما، فلا يجوزُ التيممُ إلا عندَ عدمِ الماء، ويجوز أن يكون [متعلقاً بحالة السفر فقط؛ لغلبة عدم الماء بالسفر دون المرض، وهو الظاهر من سياق الخطاب، فيجوز](4) له التيممُ، سواءٌ كانَ واجِداً للماء أو عادماً.

(1) انظر: "إكمال المعلم شرح صحيح مسلم" للقاضي عياض (2/ 120)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 86)، و"إحكام الأحكام" لابن دقيق (1/ 89).

(2)

انظر: "الشرح الكبير" للرافعي (2/ 114، 125)، و"المجموع" للنووي (2/ 160).

(3)

وهو مذهب أحمد. انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص 25)، و"العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 75) و"حاشية الطحطاوي"(1/ 221)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 129).

(4)

ما بين معكوفتين ليس في "أ".

ص: 399

وبالثاني قال الجمهورُ.

ويروى القولُ بالأولِ عن عطاءٍ والحَسَنِ (1).

وهو بعيدٌ؛ لأنه لو جازَ تعلُّقُه بالمرضِ، لما كانَ لذكره فائدةٌ، لأنه إذا جازَ للصحيح التيمُّمُ عندَ عدمِ الماءِ، فالمريضُ أولى بالجواز، فذكره المرضَ حَشْوٌ لا فائدةَ له؛ وليس كذلك.

* ثم مقتضى مفهومِ تخصيصِ التيمُّم بالحالتين أنه لا يجوزُ في غيرِهما، وهو كذلك عندَ أهلِ العلم، ولكنهم ألحقوا بالحالتين ما كان في معناهما؛ لبيانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2).

روى جابرٌ -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ رجلاً أصابه حَجَرٌ في رأسه، فَشَجَّهُ، ثم احتلمَ، فاغتسلَ، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّما كان يَكْفيهِ أن يَتَيَمَّمَ ويَعْصِبَ على رَأْسِهِ خِرْقَةً يَمْسَحُ عليها، ويَغْسِلَ سائِرَ جَسَدِهِ"(3)(4).

وروى عمرُو بنُ العاصِ -رضي الله تعالى عنه- قال: احتلمتُ في ليلةٍ

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 316)، و "المحلى" لابن حزم (2/ 116)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 219).

(2)

انظر: "الأم" للشافعي (1/ 42)، و"الكافي" لابن قدامة (1/ 65)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 217).

(3)

رواه أبو داود (336)، كتاب: الطهارة، باب: في المجروح يتيمم، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 447)، والدارقطني في "سننه"(1/ 189)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 227).

(4)

من العلماء من فرق بين الجرح والمرض، ولم يجعل الجرح داخل في المرض، فمن جرح يغسل ما لا ضرر عليه ويتيمم لا يجزئه أحدهما دون الآخر، ولعل المصنف جاء بالحديث لهذه العلة، أما إن أدخلنا الجرح في المرض، فلا يصلح الحديث للاستشهاد، والله أعلم.

ص: 400

باردةٍ في غَزاةِ ذاتِ السلاسل، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلكَ، فتيمَّمْتُ وصلَّيتُ بأصحابي صَلاةَ الصبح، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ياعَمْرُو! صَلَّيْتَ بأَصْحابكَ وأَنْتَ جُنُبٌ؟ " فقلت: سمعت اللهَ يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقلْ شيئاً (1)(2)، فاستدلوا بقوله وبإقراره على أن ذلك في معنى المَرَض؛ لوجود العلَّةِ فيهما، وهو الضررُ باستعمال الماء.

* وجَوَّزوا التيمُّمَ عندَ العجزِ عن الوصولِ إلى الماء، إما لخوفِ عدوٍّ أو سَبُعٍ، أو عدمِ آلةٍ يغرفُ بها الماء؛ لوجود العلَّةِ، وهي العجزُ عن الماء، فهو كالذي لم يجدِ الماء (3).

* واختلفوا في الصحيحِ إذا عدم الماءَ في الحَضَرِ.

فقال أبو حنيفة: لا يتيمَّمُ، ويقفُ إلى أن يجد الماء؛ عملاً بمفهوم التخصيص بالصفتين، ولمفهوم الشرط، وهو السفر (4).

(1) رواه أبو داود (334)، كتاب: الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم؟، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 203)، والدارقطني في "سننه"(1/ 178)، والحاكم في "المستدرك"(629)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 225)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(46/ 147).

(2)

وهذا الحديث أيضاً لا يصلح للاستشهاد لأن عمرو رضي الله عنه كان في غزوة ذات السلاسل كما صرح في أول الحديث، أي: أنه كان مسافراً.

(3)

انظر: "الأم" للشافعي (1/ 46)، و"المجموع" للنووي (2/ 286)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 15)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 114)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 151).

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 170)، و"الهدية شرح البداية" للمرغيناني (1/ 25)، و"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 249).

ص: 401

وقال مالكٌ، والشافعيُّ، والأوزاعيُّ: يتيمَّمُ (1)، إلا أن الشافعيَّ قال: عليه الإعادةُ (2).

فكأن هؤلاءِ لم يروا ذكرَ السفر للشرطِ والتقييدِ، وإنما ورد الحكمُ مقيداً به على (3) الغالب في الوجود؛ إذ لا يعدم الماء غالباً إلا في السفر، وتكونُ الحالتان المقتضيتان للتقييد عندهم المرضَ وعدمَ الماء.

والقولُ بعدمِ الإعادة عندي أقوى من القول بالإعادة؛ لما روى أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نكونُ بأرضِ الرمل، وفينا الجُنُبُ والحائضُ، ونبقى أربعةَ أشهرٍ لا نجدُ الماءَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"عَلَيْكُمْ بالأَرضِ"(4) فهذا حاضرٌ وليس بمسافر، ولم يأمرْ بالإعادة، وهو في وقتِ الحاجة للبيان (5).

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الصَّعيدُ الطَّيِّبُ وَضوءُ المُسْلِمِ، ولَوْ لَمْ يَجِدِ الماءَ إلى عَشْرِ حِجَجٍ (6)، وهذا عامٌّ بصيغة المبالغة ليس معه مخصّص.

(1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 206)، و "الأم" للشافعي (1/ 45)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 148).

(2)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 257)، و"الشرح الكبير" للرافعي (2/ 337)، و"روضة الطالبين" للنووي (1/ 122).

(3)

"على" ليست في "أ".

(4)

رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(331)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(5870)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(2011)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(1/ 378)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 216).

(5)

"للبيان" ليس في "أ".

(6)

رواه أبو داود (332)، كتاب: الطهارة، باب: الجنب يتيمم، والنسائي (322)، كتاب: الطهارة، باب: الصلوات بتيمم واحد، والترمذي (124)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، والإمام أحمد في =

ص: 402

واختار القولَ بعدمِ الإعادة المزنيُّ، وهو قولٌ للشافعيِّ، وهو المختار من قولَيْ (1) مالِكٍ عند أصحابه -رحمهم الله تعالى (2) -.

* وقيد الله سبحانه جوازَ التيمُّم بعدمِ الوِجْدان، والوِجْدانُ اسمٌ للظَّفَرِ بالمطلوب بعد الطلب، يقال: وجدَ مطلوبَه، ووجد ضالَّتَه: إذا ظفر به (3).

ولهذا أوجبَ الشافعيُّ ومالكٌ الطَّلَبَ على فاقد الماء (4).

وقال أبو حنيفة: لا يجبُ عليه الطَّلَبُ؛ قياساً على سائرِ الأصول في أنَّ من فقدَ شرطاً في العبادةِ لا يجبُ عليه طلبُه؛ كمن فقدَ السُّتْرَةَ في الصلاة، والمالَ في الزكاة، والاستطاعةَ في الحج (5).

والفرقُ عند الآخرين ظاهرٌ، وهو تَيَسُّرُ تحصيل الماء، بخلاف غيره.

= "المسند"(5/ 146)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 183)، عن أبي ذر. وهذا لفظ البيهقي.

(1)

في "ب": "قول".

(2)

وعن الإمام أحمد روايتان، وفرق ابن قدامة بين العذر الممتد والعذر النادر، فالنادر عليه الإعادة، والممتد لا إعادة عليه. انظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 272)، و"التمهيد" لابن عبد البر (19/ 277)، و"الذخيرة" للقرافي (1/ 345)، و"المغني"(1/ 149)، و"الكافي في فقه الإمام أحمد" كلاهما لابن قدامة (1/ 70).

(3)

انظر: "لسان العرب"(3/ 445)، (مادة: وجد).

(4)

وعن أحمد روايتان والمشهور عنه اشتراط طلب الماء، انظر:"الأم" للشافعي (1/ 45)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 48)، و "المغني" لابن قدامة (1/ 149).

(5)

عند الحنفية ليس على المتيمم طلب الماء إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء، أما إن غلب على ظنه وجود الماء لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه. انظر:"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 15)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 108)، و "الهداية شرح البداية" للمرغيناني (1/ 27)، و "رد المحتار" لابن عابدين (1/ 246).

ص: 403

* فإن قال قائل: فما حَدُّ المَرَضِ والسفرِ المُبيحَيْنِ للتيمم؟

قلنا: أما السفرُ، فما يقع عليه اسمُ السفر ممّا يعدمُ فيه الماء كثيراً، وذلك يقعُ على السفرِ القصيرِ، وعلى مسافة العدو (1)(2) على الصحيحِ عندَ الشافعية (3).

وأما المرضُ، فيجوزُ أن يُرادَ به عدمُ القُدرةِ على استعمالِ الماء لِخوفِ التلفِ في نفسٍ أو عضوٍ، استدلاً عليه بحكمِ قرينه، وهو السفرُ، فإن الله سبحانه شرطَ فيه عدمَ وجودِ الماء، وعدمُ وجوده هو عدمُ القدرةِ عليه، فكذلك المرضُ لا يتحققُ عدمُ القدرةِ على استعمال الماءِ معه إلا بخوفِ التلفِ (4).

واستدلالاً بتفسيرِ ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا كانتْ بالرجلِ جراحة في سبيلِ الله عز وجل، أو قُروحٌ، أو جُدَرِيٌّ، فَيُجْنِبُ،

(1)"العَدْو": ليس في "أ".

(2)

قال إمام الحرمين وغيره: هي التي يمكن قطعها في اليوم الواحد ذهاباً ورجوعاً، ومعناه أن يتمكن المبتكر إليها من الرجوع إلى منزله قبل الليل. قال الرافعي: مأخذ لفظها ففي الصحاح: أن العدوى: الاسم من الإعداء وهي المعونة، يقال: أعدى الأمير فلانًا على خصمه: إذا أعانه عليه، والعدوى أيضًا ما يعدي من جرب وغيره، وهي مجاوزته من صاحبه إلى غيره، فقيل لهذه المسافة مسافة العدوى لأن القاضي يعدي من استعدى به على الغائب إليها فيحضره، ويمكن أن يجعل من الأعداء بالمعنى الثاني لسهولة المجاوزة من أحد الموضعين إلى الآخر، هذا كلام الرافعي. انظر:"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 196).

(3)

انظر: "الأم" للشافعي (1/ 45)، و"الشرح الكبير" للرافعي (2/ 352)، و"المحلى" لابن حزم (2/ 119)، و "المغني" لابن قدامة (1/ 148).

(4)

انظر: "الأم" للشافعي (1/ 42)، و "مختصر المزني"(1/ 7).

ص: 404

فخافَ أن يغتسلَ فيموتَ؛ فإنه يتيمَّمُ بالصعيدِ (1)، وهذا أحدُ قولي الشافعي -رحمه الله تعالى (2) -.

ويجوز أن يُرادَ به مرضٌ يحصلُ معهُ المشقَّةُ والضررُ باستعمال الماءٍ؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهذا قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والصحيحُ من قَوْلَي الشافعي -رحمة الله عليهم (3) -.

وقال داود: ما يقع عليه اسمُ المرض (4). وهو ضعيفٌ.

* فإن قال قائل: فما الفرقُ عند الشافعيةِ بين السَّفَرينِ؛ حيثُ اعتبروا مسافةَ القَصْرِ في الفِطْرِ في رَمضانَ، ولم يعتبروها هنا، وما الفرقُ بين المَرَضين؛ حيثُ اكتفَوا هناكَ بوجودِ المشقةِ، ولم يكتفوا هنا إلا بخوفِ تلفِ نفسٍ أو عضو؟

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1070)، وابن المنذر في "الأوسط"(2/ 19)، وابن خزيمة في "صحيحه"(272)، والدارقطني في "سننه"، (1/ 177)، والحاكم في "المستدرك"(586)، وابن الجارود في "المنتقى"(129)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 224)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(315)، عن ابن عباس موقوفاً عليه من قوله، وعند بعضهم جاء عن ابن عباس مرفوعاً.

(2)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 269)، و"المجموع" للنووي (2/ 308).

(3)

وهو مذهب أحمد، انظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 48)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 561)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 216)، و"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 260)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 265)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 161).

(4)

انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 162).

ص: 405

قلنا: أما السفرُ، فإن الفرقَ بينَهما أن العذَر المُبيحَ هناك هو مشقةُ السفر، ولا تتحقق مشقتُه إلا بيومين، والعذرُ هنا عدمُ الماء في السفر، لا السَّفَرُ؛ إذ لا مشقةَ في استعمالِ الماءِ في السفر، فحيث عدمَ الماءُ في السفر، وُجِدَ العذرُ المبيحُ، وذلك يصدقُ بالسفرِ القصير.

وأما المرضُ، فإن المبيح لتركِ الماءِ هنا هو عدمُ القدرةِ على الماءِ بالعجز؛ لعدم القدرةِ عليه بالعدم، وذلك لا يتحقَّقُ إلا بخوفِ التلفِ، ولأنهم لم يجدوا شيئاً يرجعون إليه في التَّحديدِ أقوى من تفسيرِ ابنِ عباسٍ، والمبيحُ هناك هو تيسيرُ المشقة المُشارِ إليه بقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

* وأوجب اللهُ سبحانه الوضوءَ والتيمُّمَ عندَ المجيء من الغائطِ، وعندَ ملامسةِ النساء.

وكَنَّتِ العربُ بالغائط عنِ الخارجِ من الإنسان؛ لملازمتِه له؛ تأدُّباً، وتركاً للألفاظ المُسْتَهْجَنَةِ (1).

* والإجماعُ منعقدٌ على وجوبِ الوضوءِ والتيمُّم عندَ الخارجِ المُعْتادِ من المَخْرَجِ المُعْتادِ؛ للآية (2).

* واختلف العلماء فيما وراءَ ذلك.

فمنهم من قصَرَ نظرَه على ذلك، فقال: كلُّ ما خرج من الخارج

(1) الغائط في الأصل: ما انخفض من الأرض، ثم انتقل معناه إلى الخارج من الإنسان. انظر:"معاني القرآن" للنحاس (2/ 274)، و "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 156).

(2)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 59)، و"المحلى" لابن حزم (1/ 232)، و"المجموع" للنووي (2/ 508)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 111).

ص: 406

المُعتادِ (1)؛ كالبولِ والغائطِ والمَذْيِ والوَدْيِ والرِّيحِ، فهو ينقضُ الوضوءَ، وإن خرجَ من غيرِ المخرجِ المعتادِ؛ كالقيءِ والرُّعافِ، أو من المَخْرجِ المعتاد، لكنه نادرٌ؛ كالدودَةِ والحصاةِ والسَّلَسِ، فلا ينقضُ الوضوءَ.

وهو قولُ مالكٍ وأصحابِه بناءً على أصلِهم من التقييدِ بالعادة (2).

ومنهم من لاحظَ المعنى الموجِبَ لذلك.

ثم اختلفوا، فمنهم من رأى العلَّة فيها كونَها أنجاساً خارجةً من البدن، فهي مناقِضَةٌ للطَّهارة، فأوجبَ الوضوءَ من كلِّ نجاسةٍ تخرجُ من الجَسد؛ كالدم، والرُّعافِ الكثيرِ، والفَصْدِ، والحِجامة، والقَيء، وهو مذهبُ جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم (3).

وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابهُ، وأحمدُ (4)، وإسحاقُ، والثوريُّ، وابنُ المبارك (5).

ومنهم من رأى العلة خُصوصَ المَخْرَجين، لا خُصوصَ الخارج، فأوجب الوضُوءَ من أيِّ (6) شيءٍ خرجَ من دمٍ أو حَصاةٍ أو دودةٍ أو سَلَسٍ أو استحاضَة، ولم يوجبِ الوضوءَ في خروجِ الدمِ من غيرِ المَخْرج المُعْتاد، ولا من الرُّعافِ والحِجامة والقيء.

(1) في "ب": "المخرج المعتاد".

(2)

انظر: "المدونة الكبرى"(1/ 11، 18)، و"الاستذكار"(1/ 157)، و"الكافي" كلاهما لابن عبد البر (1/ 10).

(3)

وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وثوبان وأبو الدرداء. انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 24).

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 37)، و "رد المحتار" لابن عابدين (1/ 134)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 111 - 113).

(5)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 24)، و"المجموع" للنووي (2/ 7).

(6)

في "ب": "كل".

ص: 407

وبه قال الشافعيُّ وأصحابُه (1)، ومحمدُ بنُ عبد الحَكَم المالكيُّ (2)؛ لأنهم اتفقوا على وجوبِ الوضوءِ بالريحِ الخارجةِ من أسفل، وعدمِ إيجابه إذا خرجتْ من أعلى، وكلاهما ريحٌ واحدةٌ خارجةٌ من الجَوْف، فدل على أن الاعتبارَ بالمَخْرَجِ لا بالخارج، وضُغِّفَ بأن الريحينَ مختلفتان في الصفةِ والرائحةِ، فلا دلالةَ.

وقولُ أبي حنيفةَ وموافقتُه، أَقْيَسُ، وقولُ مالكٍ أقوى.

فإن قال قائلٌ: فـ (أو) موضوعةٌ في لسانِ العربِ لأحدِ الشيئين، أو الأشياءِ، إما تخييراً، أو إباحةً، أو تقسيماً وتفريعًا (3)، وغير ذلك (4)، فما معنى (أو) في قوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]؟

قلنا: معناها الجمعُ كالواو، فقد تأتي بمعنى الواو كثيراً في لسان العرب (5)، قال الشاعر (6) يصف السَّنَة:[البحر البسيط]

وكَانَ سِيَّانِ أَلا يَسْرَحوا نَعَماً

أَوْ يَسْرَحوهُ بِها واغْبَرَّتِ السُّوحُ

(1) انظر: "الأم" للشافعي (1/ 17، 18)، و"مغني المحتاج"(1/ 32).

(2)

انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 235)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 220).

(3)

في "ب": "تنويعاً".

(4)

قد نظم بدر الدين المرادي معاني (أو) في بيتين فقال:

بـ (أو) خير، أبح، قسم، وأبهم

وفي شك، وإضراب، تكون

ومثل ولا، وواو، أو لنصب

بإضمار، لحرف، لا يبين

انظر: "الجنى الداني في حروف المعاني" للمرادي (1/ 38).

(5)

انظر: "الخصائص" لابن جني (1/ 348)، و"مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 89).

(6)

هو أبو ذؤيب الهذلي، وقد تقدم ذكر البيت وتخريجه.

ص: 408

* واختلف الناسُ في حكم اللَّمْسِ والمُلامسة بحسبِ اختلافِهم في معناهما في الآية.

ولا شَكَّ أنهُ يُكنى بِهما عن الجِماع في عُرْفِ الشرع.

وأما حقيقةُ وَضْعِهما، فهي اللَّمْسُ باليدِ، ومنه نهيهُ صلى الله عليه وسلم عن بَيْعِ المُلامَسةِ (1).

فقال قومٌ: المُراد به في الآيةِ الجِماعُ، وهو قولُ ابن عباسٍ، والحسنِ، ومجاهدٍ، وقَتادةَ (2)، فهو لا يلزمُ من قولهم جوازُ التيمُّمِ عن الجَنابة؛ كما هو مذهبُ الجمهور (3)، ولا يلزمُ من قولهم عدمُ انتقاضِ الوضوءِ باللَّمْس باليدِ، ولكنه هو الظاهرُ عنهم؛ لكونِ الجنابةِ لم يتقدمْ ذكرُها إلا في حُكْم المُرور، ويجوز عنهم خلافُه.

وبهذا المعنى قال أبو حنيفة، فلم يوجبِ الوُضوءَ من مَسِّ (4) الرجلِ المرأةَ، إلا أن يكونَ معهُ انتشارُ (5)؛ لما روى حبيبُ بنُ أبي ثابت، عن عروةَ، عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَبَّلَ بعضَ

(1) روى البخاري (5481)، كتاب: اللباس، باب: اشتمال الصماء، ومسلم (1511)، كتاب: البيوع، باب: إبطال بيع الملامسة والمنابذة، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة".

(2)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 60)، و"تفسير الطبري"(5/ 102)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 961).

(3)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 5)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 253)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 93).

(4)

في "ب": "المس".

(5)

وهو الراجح من مذهب أحمد. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 5)، و"العناية شرح الهداية" للبابرتي (1/ 192)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 124)، و"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 92).

ص: 409

نسائِه، ثم خرجَ إلى الصلاة، ولم يتوضَّأْ (1).

وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: هذا الحديث وَهَّنَهُ الحجازيون، وصحَّحَهُ، الكوفيون، ومال هو إلى تصحيحه (2).

ويروى هذا الحديثُ من حديثِ معبدِ بنِ نُبَاتَةَ، والشافعيُّ قالَ: إن صَحَّ حديثُ معبدِ بنِ نباتَةَ في القبلة، لم أرَ فيها ولا في اللمس وضوءاً، فإن معبدَ بنَ نباتةَ يروي عن محمدِ بنِ عمرِو بن عطاءٍ عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها -: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُقَبَّلُ، ثم لا يتوضَّأ، ولكني لا أدري كيفَ كان معبدُ بنُ نباتة هذا، فإن كان ثقةً فالحجَّةُ فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكني أخافُ أن يكونَ غَلَطاً من قِبَلِ أنَّ عُروةَ إنما روى أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَها صائِماً (3).

قال البيهقيُّ: معبدُ بنُ نُباتَةَ مجهول، ومحمدُ بنُ عمرِو بنِ عطاءٍ لم

(1) رواه أبو داود (179)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من القبلة، والترمذي (86)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في ترك الوضوء من القبلة، وابن ماجه (502)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من القبلة، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 210)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(672)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(485)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 105)، والدارقطني في "سننه"(1/ 137)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 126).

(2)

قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(1/ 257): وهذا الحديث عندهم معلول، وضعفوا هذا الحديث، ودفعوه، وصححه الكوفيون وثبتوه؛ لرواية الثقات أئمة الحديث له، ثم مال إلى تصحيحه ا. هـ. وقد نقل المؤلف هنا عبارة ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (1/ 27) في قوله: قال ابن عبد البر: هذا الحديث وهنه الحجازيون، وصححه الكوفيون اهـ.

(3)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 177)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 27).

ص: 410

يثبتْ له من عائشةَ شيءٌ، وأما عروةُ هذا فهو المُزَنِيُّ، لا عروةُ بنُ الزبير، قاله أهلُ العلمِ بالحديث (1)(2).

قال يحيى بنُ سعيدٍ القطان -وذكر حديثَ الأعمشِ عن حبيبٍ عن عروةَ- قال: أما إن سفيانَ الثوريَّ كانَ أعلمَ الناسِ بهذا، زعمَ أن حَبيباً لم يسمعْ من عروةَ -يعني: ابن الزبير- شيئاً (3).

وقال قومٌ: المرادُ به اللمسُ باليد، وهو قولُ عمرَ وابنِ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنهما (4) -، فهو لا يلزم من قولهم انتقاضُ الوضوء باللمسِ، ولا يلزمُ من قولهم منعُ التيمُّم عن الجنابة (5)، وإن كانَ المشهورُ عنهما منعَ التيمم عن الجنابة، وهو الملزم لهما حملَ اللمسِ على لمسِ البشرة.

(1) ذكره البيهقي في "الخلافيات" كما أشار هو إلى ذلك في "السنن الكبرى"(1/ 126).

(2)

قال ابن حجر: قال الشافعي: لا أعرف حال معبد؛ فإن كان ثقة فالحجة فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت أي ابن حجر-: روي من عشرة أوجه عن عائشة أوردها البيهقي في "الخلافيات" وضعفها. انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 122).

(3)

رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 139)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 126).

(4)

انظر: "تفسير الطبري"(5/ 104)، و "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 4)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 223)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 549).

(5)

أي إن سياق الآية -إن فسرنا الملامسة باللمس باليد- يدل على إباحة التيمم للحدث الأصغر، ولا يدل على إباحة التيمم للحدث الأكبر، فيقول المصنف: إن هذا المعنى غير لازم؛ أي: من قال: إن الملامسة هي اللمس باليد = لا يلزم من قوله منع التيمم من الحدث الأكبر.

ص: 411

وبهذا المعنى قال مالكٌ، والشافعيُّ، والليثُ، والأوزاعيُّ، فأوجبوا الوضوءَ من لمسِ النساء (1).

واستدلَّ له الشافعيُّ -بعدَ اعتمادِه على تفسيرِ عمرَ وابنِ مسعودٍ- بذكر الله سبحانه للملامسةِ موصولةً بذكرِ الغائطِ بعدَ ذِكْرِ الجنابة، فما أوجب الوضوء من الغائط، أوجبه من الملامسة، فأشبهتْ أن يكونَ اللمسَ الذي هو غيرُ الجنابة (2)، إلا أن مالكاً قيده بوجود اللذَّةِ، أو بقصدِها، مع وجودِ الحائلِ ومع عدمِه؛ تخصيصاً لعمومه بمعناه (3)؛ لما روت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها - أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يغمزُها عندَ سجودِه بيده (4)، وضُعِّفَ بأنه إذا لمسَ من وراءِ حائلٍ فليسَ بِماسٍّ ولا بِمُلامِسٍ لها، وإنما هو لامسٌ لثوبها (5).

وقيده الشافعيُّ -في أحد قوليه- بمظنة اللذة، فلم ينقضِ الوضوءَ

(1) انظر: "المدونة الكبرى"(1/ 13)، و "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 172)، و"الأم" للشافعي (1/ 15).

(2)

انظر: "الأم" للشافعي (1/ 15)، و "المجموع" للنووي (2/ 30)، و"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 34).

(3)

انظر: "المدونة الكبرى"(11/ 13)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 27)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 224).

(4)

ذكر المصنف الحديث هنا بمعناه، أما لفظه كما عند البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتها، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. رواه البخاري (375) كتاب الصلاة، باب الصلاة على الفراش، ومسلم (512)، كتاب الصلاة، باب الاعتراض بين يدي المصلي.

(5)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 171)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 226).

ص: 412

بذواتِ المحارمِ والصغائرِ اللاتي لا يُشْتَهى مثلُهن؛ تقييداً بالمعنى أيضاً (1).

وقيده الأوزاعيُّ باليدِ خاصَّةً (2).

والصحيح عندي هو المعنى الأولُ كما فسر ابنُ عباسٍ؛ لأن حمل خطابِ الشرعِ على عُرْفِ الشرعِ أولى من حَمْلِه على وَضْعِ اللغةِ وعُرْفها، ولم تردِ الملامسةُ والمُماسَّةُ في الكتِاب والسنة إلا للجماع، لا للمماسَّةِ باليد.

وما استدلَّ به الشافعيُّ من تقدمِ ذكرِ الجنابة حتى يدلَّ على أن المُلامَسَةَ غيرُ الجنابة، فلا دلالة فيه؛ لأن هذه الآيةَ اشتملتْ حكمين:

أحدهما: حكمُ محلِّ الصلاة، فبين الله سبحانه أن الجنبَ لا يَقْرَبه إلا عابرَ سبيل.

والثاني: حكمُ الصلاة، فبين أن الحدثَ الذي جاء من الغائط، وأن الجُنُب المُلامِسَ لا يقربُها إلا متيمِّماً إذا لم يجدِ الماء.

والراجحُ عندي عدمُ انتقاض الطُّهْرِ بمسِّ اليدِ؛ إذ ليسَ على وجوبِ الوضوءِ دليلٌ من السنَّةِ، بل السُّنَّة (3) تدلُّ على خلافه.

قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها -: افتقدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الفراش، فالتمستهُ، فوقعت يدي على أَخْمَصِ قدميه وهو يصلي (4)، ولم يُنْقَلْ أنه قطعَ صلاته.

وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وأنا معترضةٌ بين يديه،

(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 187)، و"المجموع" للنووي (2/ 36).

(2)

انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 125).

(3)

"بل السنة": ليس في "أ".

(4)

رواه مسلم (485)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود.

ص: 413

فكان (1) إذا سجدَ غَمَزَني، وإذا قامَ مددتُ رِجلي (2)، والأصلُ عدمُ الحائلِ بينَ كَفِّهِ وبَشَرَتِها، والظاهرُ أيضاً ملامَسَةُ كَفِّهِ لبشرتِها؛ إذ كانت بيوتُهم حينئذٍ لا مصابيحَ لها (3)، ولا سيَّما في حالِ التَّهَجُّدِ، والله أعلم.

* ثم أمر الله بقَصْدِ الصعيد الطَّيِّبِ، وقَيَّدَ الأمرَ به.

وقد اختلفتْ عباراتُ أهل اللغةِ في الصَّعيد (4)، فقال أبو عُبيدٍ والفَرَّاءُ: الصعيدُ: الترابُ. وقال ابنُ الأعرابيِّ: الصعيدُ: الأرضُ بعينها. وقال الخليلُ والزَّجّاجُ وثَعْلَبٌ: الصعيدُ: وَجْهُ الأرضِ؛ لقوله تعالى {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40].

* وكذلك اختلفَ الفُقهاء أيضاً: فذهبَ الشافعيُّ إلى أنه لا يجوز إلا بالترابِ الخالِصِ الذي له غُبار (5)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لنَا الأَرْضُ مَسْجِداً، وجُعِلَتْ لنا تُرْبَتُها طَهوراً"(6)، فنزل من عمومِ الأرضِ إلى خُصوصِ تربتها، ولقولِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - في تفسيره:"فتعمدوا الأرضَ وتربتَها"، ولأنَّ الله سبحانه وصفَهُ بالطَّيِّبِ، والطَّيِّبُ: الخِالصُ الذي هو ترابُ الحَرْثِ؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58].

(1) في "ب": "وكان".

(2)

تقدم تخريجه قريباً.

(3)

في "أ": "بها".

(4)

انظر أقوال أهل اللغة في معنى الصعيد في: "لسان العرب"(3/ 254) مادة (صعد).

(5)

انظر: "الأم" للشافعي (1/ 50)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 237).

(6)

رواه مسلم (522)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، في أوله، عن حذيفة بن اليمان.

ص: 414

وبه قال أحمدُ (1)، وأبو يوسفَ، وداودُ، وابنُ المنذر، وأكثرُ الفقهاء (2).

وذهب مالكٌ وأبو حنيفةَ إلى جوازه بكلِّ ما صَعِدَ من الأرضِ من أجزائِها (3)، لوقوع الاسمِ عليه، ووجود معنى الاشتقاق فيه، حتى أجاز مالكٌ في إحدى رواياته التيممَ بالحَشيشِ والأخشابِ والمِلْحِ؛ لوجود معنى الاشتقاق؛ لكونه متصاعداً على وجهِ الأرض (4).

وزاد أبو حنيفةَ، فجوَّزَ بما يتولَّدُ منَ الأرضِ مثلَ النُّورَةِ والزَّرنيخِ، واستدلُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"وجُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِداً وطَهوراً"(5)(6).

وأجيب بأنَّ المراد بالطَّيِّبِ: الطاهرُ، أو الحلالُ؛ استدلالاً بقوله تعالى:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51].

والاستدلالُ والجوابُ ضعيفان؛ لأن هذا الحديثَ مُجْمَلٌ، وحديثُ الشافعيِّ مفسَّرٌ، والمفسَّر يُقضى به على المُجمل.

(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 155).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 29)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 108)، و"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 270).

(3)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 308)، و"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 239).

(4)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (19/ 289)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 51)، و"الذخيرة" للقرافي (1/ 347)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 237)، و"حاشية الدسوقي"(1/ 162).

(5)

رواه البخاري (328)، كتاب: التيمم، في أوله، ومسلم (521)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، عن جابر بن عبد الله.

(6)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 29)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (1/ 25)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 54).

ص: 415

وأما الجوابُ، فإن الأصل والغالبَ على الأرض عدمُ النجاسةِ، ولاسيَّما في الفَيافي والقِفار، فَحَمْلُ الطيبِ على ما يناسبُه من جنسِه أولى من حَمله على ما لا يناسبُهُ، وحملُه على ما يُعْهَدُ في العادةِ أولى من حمله على ما لا يُقْصَدُ في العادة، لندوره، وهو المكانُ النجسُ في القِفار والخبوت (1).

وضعف قولُهم في المتولِّد والمتصاعِد بأن اسمَ الصَّعيدِ لا يتناولُ ذلك بوضعِ اللُّغة، وإنما يتناوله قياساً، والأسماءُ لا تثبُتُ بالقياس.

فإن (2) قلت: فهل نجد في القرآنِ دليلاً على التخصيص بالتراب؟

قلت: نعم، قال الله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] و (من) موضوعةٌ للتبعيض، وذلك يقتضي أن يصيرَ على الوجهِ والأيدي شيءٌ من الصعيد، ولا يكون ذلك إلا في التراب.

والمُخالفون يحملونها على تبيين الجنس، أي: من الذي هو الصعيد، والحَمْلُ على الحقيقةِ خيرٌ من الحَمْل على المجاز (3)، وسيأتي الكلامُ على صفةِ التيمِّمِ -إن شاء الله تعالى-.

(1) الخبت: الأرض الواسعة المستوية، والمتسع من بطون الأرض، والمفازة لا نبات فيها. انظر:"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 447)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 27).

(2)

"فإن" ليس في "أ".

(3)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 51).

ص: 416