الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام النكاح)
72 -
قال الربيعُ: قال الشافعيُّ: يقال -والله أعلمُ-: نزلت في الرجل يمنعُ المرأةَ حقَّ اللهِ تعالى عليه في عشرتِها بالمعروفِ من غير طيبة نفسِها، ويحبسُها لِتموت، فيرثُها ويذهبُ ببعض ما آتاها، واستثنى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} وهي الزنا (1).
وساق الكلام حتى قال: قيل (2): إن هذه الآيةَ منسوخةٌ وهي في معنى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
(1) وإليه ذهب الحسن والشعبي. انظر: "معاني القرآن" للنحاس (2/ 46).
(2)
في "ب": "فقيل".
سَبِيلًا} [النساء: 15] بآية الحدود: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا عني، خُذوا عني (1)، قد جعلَ الله لهنَّ سبيلًا، البكرُ بالبكر جلدُ مئةٍ وتغريبُ عامِ، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مئة والرجمُ"(2)، فلم يكن على المرأة (3) حَبْسٌ تُمْنعُ به حَقَّها على الزوج، وكان عليها الحدُّ.
قال: وما أشبه ما قيل من هذا بما قيل -والله أعلم- لأن لله أحكامًا بين الزوجين بأن يجعلَ له عليها أن يطلقَها مُحسنةً ومُسيئةً، ويحبسَها محسنةً ومسيئةً، وكارهًا لها وغير كاره، ولم يجعلْ له منعَها حقَّها في الحال (4).
هذا قولُ أبي عبدِ الله، وما اختارَهُ من النسخِ بالاحتمالِ والقياس ممنوعٌ غيرُ جائزٍ (5)، والذي عليهِ عامَّةُ أهلِ العلمِ بالقرآن القولُ بأنها محكمةٌ (6).
قال ابن عبَّاسٍ، والمفسرون (7): كان في الجاهلية أولياءُ الميتِ أحقَّ بامرأته، إن شاءَ بعضُهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم
(1)"خذوا عني" ليست في "ب".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في "ب": "امرأة".
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 196)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 439).
(5)
وكذا ذهب عطاء إلى أن الآية منسوخة بالحدود. انظر: "معاني القرآن" للنحاس (2/ 46)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 216).
(6)
انظر: "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي (ص: 217).
(7)
انظر: "تفسير الطبري"(4/ 305)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 902)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 26)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 94)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 466).
يزوجوها، فأعلم الله سبحانه أن ذلكَ حرامٌ (1).
* ثم حرَّم على الأزواجِ إمساكَهُنَّ على جهة المُضارَّةِ، فقال:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، فإن خالعَها على وجهِ المُضارَّةِ فقد عصى، ولم يصحَّ خُلْعُه، ولم يجزْ له أخذُ ما بذلَتْهُ لهُ بالإجماع (2).
وشذ بعضُهم (3) فقال: الخلع في هذه الحالة جائزٌ ماضٍ، وهو آثمٌ، ثم لا يحلُّ له ما صنعَ، ولا يُجْبَرُ على ردِّ ما أخذ (4).
وروى ابنُ القاسمِ نحوَ هذا عن مالكٍ (5).
قال ابنُ المنذر: وهو خلافُ ظاهرِ كتاب الله تعالى (6)، وخلافُ ما أجمعَ عليه عوامُّ أهلِ العلمِ من ذلك.
(1) رواه البخاري (4303)، كتاب: التفسير، باب: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا
…
}.
(2)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 83)، و"الإشراف على مذاهب العلماء" له أيضًا (5/ 259 - 260).
(3)
هو النعمان، كما نقله ابن المنذر في "الإشراف"(5/ 260).
(4)
في "ب": "أخذه".
(5)
ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(5/ 95) عن ابن بطال في "شرح البخاري"(7/ 421). قال ابن بطال: وقال أبو حنيفة: إن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ مما أعطاها شيئًا ولا يزداد، فإن فعل جاز في القضاء، وروى ابن القاسم عن مالك مثله، وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف حديث امرأة ثابت، انتهى.
ونقل ابن عبد البر في "الاستذكار"(6/ 78) عن ابن القاسم أنه ذكر عن مالك قوله: إن كان النشوز من قبله حل له ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك، ولم يكن ذلك ضرر منه بها.
(6)
يعني: قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} .
ثم قال: ولا أحسب أنه لو قيل لأحَدٍ: اجهدْ نفسَكَ في طلب الخطأ، ما وجدَ أمرًا أعظمَ من أن يَنطقَ الكتابُ بتحريم شيءٍ، ثم يقابله بالخلافِ نصًّا، و (1) يقول: بل يجوزُ ذلك، ولا يُجبر على ردِّ ما أخَذ (2).
وأباح ذلك على جهة المضارة عند إتيانهنّ بالفاحشة المبينة ليفتدين منهم، فقال:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ؛ لأن المستثنى نقيضُ المستثنى منه، فيكون المعنى: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فاعضلوهن لتذهبوا ببعضِ ما آتيتموهُنَّ.
* فالفاحشةُ قيل: هي الزنا.
قال أبو قِلابةَ: إذا زنتِ امرأةُ الرجلِ، فلا بأسَ أن يضارَّها حتى تفتديَ منه (3).
وقال السديُّ: فإذا (4) فعلنَ ذلك، فخذوا مهورَهُنَّ (5).
ونحوه عن ابن سيرين (6).
(1) في "ب": "ثم".
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 260)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 94 - 95)، وعنه نقل المصنف رحمه الله كلام ابن المنذر.
(3)
رواه الطبري في "تفسيره"(4/ 310).
(4)
في "ب": "وإذا".
(5)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(4/ 310).
(6)
قال ابن عبد البر في "الاستذكار"(6/ 79) بعد أن ذكر قول أبي قلابة وابن سيرين: وهذا عندي ليس بشيء؛ لأن الفاحشة قد تكون في البذاء والجفاء، ومنه قيل للبذيء: فاحش ومتفاحش، وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان لها لعانها، وإن شاء طلقها، وأما أن يضار بها حتى تفتدي منه بمالها، فليس ذلك له، وما أعلم أحدًا قال: له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة، والله أعلم.
وقيل: الفاحشةُ: البغضُ والنشوزُ، ورويَ عن ابن عباسٍ وابنِ مسعودٍ (1).
فأحلوا أخذَ مالِها عندَ نشوزِها.
وبه قال مالكٌ (2) والشافعيُّ (3)، فحلَّ (4) الخلعُ في هذه الحالةِ بهذه الآية، وحلَّ في غيرِها إذا كانَ النشوزُ منهما بآية البقرة (5).
* فإن قيل: فقد بينَ الله سبحانه أنه لا يحلُّ للأزواجِ أن يذهبوا ببعض ما آتوا النساءَ على جهة العَضْلِ والمُضارَّةِ إلا عندَ الإتيانِ بالفاحشةِ، فهل يَحِلُّ للأزواج أن يذهبوا ببعضِ ما آتَوْهُنَّ على غيرِ جهةِ المُضارة؟ قلنا:
- أما إذا أتينَ بالفاحشةِ، فيحل لهمُ الأخذُ؛ لأنه إذا حلَّ مع العَضْلِ بالمُضارَّةِ، فمع عدمِها أولى.
- وأما إذا لم يأتينَ بالفاحشةِ، فيحلُّ أيضًا إذا خافا ألا يقيما حدودَ الله، كما مضى في "سورة البقرة"(6).
(1) رواه عنهما الطبري في "تفسيره"(4/ 310)، وقد جاء عن الضحاك وقتادة وعطاء مثله.
(2)
قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له نصًّا في معنى الفاحشة في هذه الآية. انظر: "المحرر الوجيز"(2/ 28).
(3)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 197)، و"الحاوي" للماوردي (10/ 5).
(4)
في "ب": "فجعل".
(5)
قال الطبري في "تفسيره"(4/ 311): وأولى ما قيل في تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أنه معني به كل فاحشة من بذاءة باللسان على زوجها وأذى له وزنا بفرجها.
(6)
في قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ=
- وأما إذا لم يأتين بالفاحشة، ولم يخافا ألا يقيما حدود الله، فلا يحلُّ للأزواجِ الأخذُ؛ كما بينه اللهُ سبحانه في قوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} ، فحرمه الله تحريمًا مطلقًا، وقد علمنا أن اللهَ سبحانه إنَّما أراد تحريمَ ذلك إذا لَمْ يأتينَ بالفاحشةِ المبيِّنة، وإذا لم يخافا أَلَّا يقيما حدودَ الله، فإطلاقُ هذه الآيِة مقيَّد بالتي قبلها، وبآية البقرة (1).
" ثم ذمَّ اللهُ سبحانَه فاعِلي ذلك، ووبَّخَهُم بقوله:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} .
* إذا تمَّ هذا، فإن قوله تعالى:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} كناية عن الجِماع والمباشَرَةِ، وهو تفسيرُ ابنِ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما (2).
قال في "الصِّحاح" يقال: أفضى الرجلُ إلى امرأته: إذا باشَرَها وجامَعَها (3).
ويقعُ على الوُصولِ، أي: وُصولِ بعضِهم إلى بعض.
ويقع على المُخالطة، أي: خالطَ بعضُهم بعضًا (4).
= الظَّالِمُونَ}.
(1)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 101).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(4/ 314). ورواه أيضًا عن مجاهد والسدي. وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 30)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 102). وقد قال به مقاتل وابن قتيبة. انظر:"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 43).
وبه قال الإمام الشافعي. انظر: "الحاوي" للماوردي (9/ 391).
(3)
انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2455)، (مادة: فضى).
(4)
انظر: "معاني القرآن" للنحاس (2/ 48)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 49)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 102).
* فإن قيل: مفهومُ هذا الخطابِ يدلُّ على أنه يجوزُ الخُلْعُ قبل الإفضاءِ (1)، وقبلَ الدخولِ، على قول الشافعي (2)، وقبلَ الخَلْوةِ بها، على قولِ أبي حنيفةَ (3) ومالكٍ (4)؛ لأن الله سبحانه عَيَّرهم بالإفضاء، فدلَّ على أنه إذا لم يفضِ بعضهم إلى بعض، يجوزُ لهم الأخذ ممَّا آتوهم، وإن لم يأتوا بفاحشة مُبَيِّنَةٍ.
فالجوابُ: أنه لا مفهومَ له؛ لأن الله سبحانه قصد بذكره تنفيرهم بما يستقبحونه في نفوسهم، ويسترذلونه في عقولهم من قبحِ العهدِ ورذيلة الخلق، ولم يقصد به التعليل بالإفضاء من بعضهم إلى بعض، وعلى تقدير أنه يفهم ذلك، فلا دلالةَ له؛ لقوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]، فإنها حاصرةٌ مقيدةٌ بجميع الحالات والصفات.
* فإن قيل: فقوله تعالى في الآية الأولى: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} هل التقييد ببعضِ ما آتاهُنَّ الأزواجُ للتخصيص، فلا يجوزُ الافتداءُ إلا ببعضِ المهرِ، أولا، فيجوزُ بكلِّ المَهْر؟
فالجوابُ: أن ظاهره للتخصيص، وبه قال الشعبيُّ، ويجوز أن يكونَ لغيرِ التخصيص، ولكنه جرى على الغالب في الوجود، فإن المرأةَ لا تختلع
(1) في "ب" زيادة "إليها وهو".
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 113)، و "الحاوي" للماوردي (9/ 391). وبه قال الحنابلة. انظر:"شرح الزركشي على الخرقي"(2/ 434).
(3)
انظر: "المبسوط" للسرخسي (5/ 149)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 291).
(4)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 102).
إلا بدون ما تأخذ غالبًا، وهو خلافُ الظاهر، ولكنا عدلْنا إليه للدليلِ الذي قدمناه في سورة البقرة (1).
* * *
75 -
(16) قوله عز وجل: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22].
* حرم الله سبحانه على الرجل نكاحَ أربعٍ بالمُصاهرة، فحرَّم عليه نكاحَ منكوحَةِ أبيه، وعفا عَمّا قد سلفَ في الجاهلية، وأطلق التحريمَ، ولم يفرِّق بين أن يكونَ الأبُ قد دخلَ بها أو لم يدخلْ بها، والحكم كذلكَ بإجماع المسلمين (2)، وألحقوا بمنكوحَتِهِ موطوءَتَهُ بملك اليمين، وبنكاح الشُّبْهَةِ بطريق التنبيهِ والأَوْلى، وهو إجماعٌ منهم أيضًا.
* والنكاحُ في وضعِ اللغة هو الضَّمُّ (3)، وذلك حقيقةٌ في الجِماع، ويقعُ على العَقْدِ، وهو المستعملُ في عُرْفِ الشرعِ (4)، وحَمْلُ ألفاظِ الشرعِ على عُرْفِ الشَّرعِ أولى من حملها على وَضْعِ اللغة، ولهذا حمله الشافعيُّ على العُرْفِ، فلم يُحَرِّمْ موطوءَةَ الأبِ بالزنا (5)، وحمله أبو حنيفةَ على أصلِ
(1) انظر: "تفسير الرازي"(6/ 88).
(2)
انظر: "تفسير البغوي"(1/ 412)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 51)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 31)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 469).
(3)
انظر: "لسان العرب"(2/ 625)، و"القاموس" (ص: 314) (مادة: نكح).
(4)
وقيل بالاشتراك بينهما، وبه جزم الزجاجي. قال الحافظ: وهذا الذي يترجح في نظري، وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد. انظر:"فتح الباري"(9/ 103).
(5)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 172)، و "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 123). وهو الصحيح عند الحنابلة. انظر:"الإنصاف" للمرداوي (8/ 4)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 621).
الوضع، فحرَّمها (1)، وعن مالكٍ راويتان (2).
* * *
76 -
* حرم الله سبحانه في هذه الآية سَبْعًا من ذَوي النسب، وأجمعَ المسلمونَ على تحريمهنَّ، وهنَّ: الأُمهاتُ، والبناتُ، والأَخَواتُ، والعمَّاتُ، والخالاتُ، وبناتُ الأخِ، وبناتُ الأختِ.
- واتفقوا على أن الأمهاتِ هاهنا كلُّ أنثى لها عليكَ وِلادَةٌ؛ من جِهةِ الأُمِّ، أو من جِهَةِ الأب.
- وأن البناتِ كلُّ أنثى لك عليها ولادةٌ؛ من قِبَلِ الابنِ، أو من قِبَلِ البنتِ.
(1) انظر: "شرح فتح القدير" لابن الهمام (3/ 187)، و"البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 83).
(2)
الصحيح عند المالكية: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد. انظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 188)، و "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 403).
- وأن الأختَ كلُّ أنثى شاركتكَ في أحدِ أصلابِكَ.
- وأن العَمَّةَ كلُّ أختٍ لذكرٍ له عليكَ وِلادةٌ؛ كأختِ الأبِ وأختِ الجدِّ من جِهة الأب، وأختِ الجدِّ من جهةِ الأم.
- وأنَّ الخالةَ كلُّ أختٍ لأنثى لها عليك ولادةٌ، كأختِ الأمِّ، وأختِ الجَدَّةِ من قِبَلِ الأمِّ، وأختِ الجَدَّةِ (1) من قبلِ الأبِ.
- وبناتُ الأخِ وبناتُ الأخت كلُّ أنثى لأخيكَ أو لأختِكَ عليها ولادةٌ من قِبَلِ أُمِّها، أو من قِبَلِ أبيها (2).
* وحرم الله سبحانه اثنتين بالرَّضاعِ: الأُمَّ والأَخَواتِ، فقال:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، وأجمع عليه المسلمون (3).
* وأطلق الله سبحانه الإرضاعَ، ولم يقيدْهُ بصفةٍ:
- فيحتمل أن يكونَ له مقدارُ عددٍ معلومٍ ووقتٍ معلومٍ.
- ويحتملُ غير ذلك، وهو الظاهرُ من إطلاقِ الخطابِ الذي لا يُعْدَلُ عنه
(1) في "أ": "الجد".
(2)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 372 - 373)، و "المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 31).
(3)
ذهب الشافعية والحنابلة في القول الصحيح عندهم إلى أن ما دون الخمس رضعات لا يؤثر في التحريم، وروي هذا عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال عطاء وطاوس.
انظر: "الوسيط" للغزالي (6/ 183)، و "المجموع" للنووي (20/ 90 - 91)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 310)، و "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 388)، وشرح منتهى الإرادات" (5/ 632).
إلا بدليل، فعدل الشافعيُّ وجماعة قليلون عن الظاهر (1).
* أما في العدد، فلِما خَرَّجَهُ مسلم من حديثِ عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُحَرَّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ"(2).
وخرَّج عن عائشة أيضًا (3) -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن)، ثم نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلوماتٍ، فتوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهُنَّ فيما (4) يُقْرَأ في القرآن (5).
وأخذ بظاهر الإطلاق أكثرُ أهلِ العلم: عليٌّ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عباس -رضيَ الله تعالى عنهم-، وعطاءٌ، وطاوسٌ، وابنُ المسيّبِ، ومكحولٌ، والحسنُ، والزهريُّ، وقتادةُ، والحكمُ، ومالكٌ، والليثُ، والأوزاعيُّ، والثوريُّ، وأبو حنيفةَ رحمهم الله تعالى (6).
ولا أعلمُ لهم جوابًا صحيحًا عن الأحاديثِ الواردةِ بالتحديد.
ثم اختلفَ القائلون بالتحديدِ، فقال الشافعيُّ: لا يُحَرِّم إلا خمسُ
(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (11/ 309).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
"أيضًا" ليس في "ب".
(4)
في "ب": "مما".
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 117)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 249)، و "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 66)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 110).
قلت: وهو رواية عن الإمام أحمد. انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 138).
قال ابن عبد البر: الحجة في هذا ظاهر قول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} ، ولم يخص قليل الرضاعة من كثيرها.
وكذا قال القرطبي: وهو تمسك بدليل الخطاب، ثم قال: وهو مختلف فيه.
رَضَعاتٍ؛ لقول عائشةَ رضي الله تعالى عنها: ثم نُسِخْنَ بخمسٍ معلوماتٍ (1).
وقال أحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ: تحرمُ الثلاثُ، ولا يُحَرِّم ما دونهنَّ (2)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ ولا المَصَّتانِ"(3).
فقد تعارضَ مفهومُ الخطابِ في الدلالتين، وعلى المجتهدِ أن ينظر في ترجيحِ أحدهما، وإنما عدلنا إلى التحريمِ، وإنْ كانَ التحريمُ (4) بالثلاث أحوطَ؛ لأنه لما عدل بالتحريم من العشر إلى الخمس، دلَّ دلالةً ظاهرةً بينةً أنها حدٌّ فاصلٌ بين التحريمِ والتحليل، بخلاف (5) قوله:"لا تُحَرِّمْ الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ"؛ فإنه لا ينفي أن الثلاثَ والأربعَ لا يُحَرِّمْنَ، ولا يكونُ العدولُ والنسخُ إلا بعدَ استقرارِ الحُكْم (6).
(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 27)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 360)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 416). وهو رواية عن الإمام، وهو الصحيح عند الحنابلة. انظر:"شرح الزركشي على الخرقي"(2/ 551)، و"كشاف القناع" للبهوتي (4/ 388).
(2)
هو رواية عن الإمام أحمد. ونقل النووي في "المجموع"(20/ 90): أن إسحاق لا يرى التحريم فيما دون خمس رضعات. وانظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 138)، و"المبدع" لابن مفلح (8/ 167).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
في "ب" زيادة "بالخمس".
(5)
في "ب" زيادة "مفهوم".
(6)
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(9/ 147): والثابت من الأحاديث حديث عائشة في الخمس، وأما حديث:"لا تحرم الرضعة والرضعتان" فلعله مثال لما دون دون الخمس، وإلا فالتحريم بالثلاث فما فوقها إنما يؤخذ من الحديث بالمفهوم، وقد عارضه مفهوم الحديث الآخر المخرج عند مسلم وهو "الخمس"، فمفهوم:"لا تحرم المصة ولا المصتان" أن الثلاث تحرم، ومفهوم =
فإن اعترضَ معترضٌ علينا (1) بأنَّ القرآنَ لا يَثْبُتُ بخبر الواحدِ، وإذا لم يثبتْ بخبر الواحد، بطلَ العملُ، ولا يتنزلُ منزلةَ خبر الواحد، كما هو قولُ المحققينَ من أهلِ النظرِ؛ لأنه إنما رواه على أنه قرآنٌ، فإذا لم يثبتْ قرآنًا، لم يثبتْ غيرُه.
ولأنَّ خبرَ الواحد إذا توجَّه إليه قادحٌ، وجبَ التوقُّفُ عن العملِ به، وهذا لم يجئْ إلا بآحاد -مع أن العادة مجيئُه متواترًا- يوجبُ ريبةً في صحةِ الخبر.
= "خمس رضعات" أن الذي دون الأربع لا يحرم، فتعارضا، فيرجع إلى الترجيح بين المفهومين، وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة، وحديث المصتان جاء أيضًا من طرق صحيحة، لكن قد قال بعضهم: إنه مضطرب؛ لأنه اختلف فيه هل هو عن عائشة أو عن الزبير أو عن ابن الزبير أو عن أم الفضل، لكن لم يقدح الاضطراب عند مسلم، فأخرجه من حديث أم الفضل زوج العباس: أن رجلًا من بني عامر قال: يا رسول الله! هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال: "لا"، وفي راوية له عنها:"لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، ولا المصة ولا المصتان".
قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(5/ 110): هو أنص ما في الباب، إلا أنه يمكن حمله على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضع.
وقوَّى مذهب الجمهور: بأن الأخبار اختلفت في العدد، وعائشة التي روت ذلك قد اختلف عليها فيما يعتبر من ذلك، فوجب الرجوع إلى أقل ما ينطلق عليه الاسم، ويعضده من حيث النظر أنه معنى طارئ يقتضي تأييد التحريم، فلا يشترط فيه العدد، كالصهر، أو يقال: مائع يلج الباطن فيحرم، فلا يشترط فيه العدد كالمني، والله أعلم. وأيضًا: فقول عائشة: "عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ" لا ينتهض للاحتجاج على الأصح من قولي الأصوليين؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر، فلم يثبت كونه قرآنًا، ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه، والله أعلم.
(1)
في "ب" زيادة "فقال".
قلنا: هذا ليس مَحَلَّ النزاعِ، فإن صورةَ المسألةِ المختَلَفِ فيها إذا روى الصحابيُّ شيئًا على أنه من القرآنِ ثابتٌ غيرُ منسوخٍ؛ كقراءةِ ابنِ مسعود:(فصيامُ ثلاثة أيامٍ متتابعات)(1)، (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم)(2).
وأما إذا روى الصحابيُّ أنه كان من القرآن ثم نسخ، فهذا يُقبل فيه خبرُ الواحد؛ لأنه لم ينقلْه على أنه قرآنٌ الآنَ، وإنما نقله على أنه كان قرآنًا، وقد نُسخ، وهذا يُقبل فيه خبرُ الواحد؛ لعدم توفُّر الدواعي من الأمة على نقله، فلا يوقع ريبةً، فيجوز لنا أن نقول: من القرآن شيءٌ نُسخ لفظُه على الجملة لِنَقْلِ أهلِ العلمِ ذلكَ بالتواتُرِ من طريق المعنى، لا من طريقِ اللفظ (3).
روي عن أنس -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: نزلت (4) في شأن الذين قُتلوا ببئر معونة: (بَلِّغوا قومَنا أنا قد لقينا رَبَّنا، فرضيَ عنا ورضينا عنه)، قال أنس: فكان ذلك قرآنًا قرأناه (5).
(1) قرأ بها عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب. انظر:"الكشاف" للزمخشري (1/ 121)، و"معجم القراءات القرآنية"(1/ 152).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(10/ 294)، و"معاني القرآن" للفراء (1/ 306)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 377)، و"تفسير القرطبي"(6/ 167)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 476)، وانظر:"معجم القراءات القرآنية"(2/ 208).
(3)
قلت: وهذا تحرير جيد لمحل الخلاف لم أره لغير المؤلف رحمه الله، وفيه قد يتعقب على كلام الحافظ ابن حجر الذي نقلته قريبًا.
(4)
في "ب": "أنزل".
(5)
رواه البخاري (2659)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
…
}، ومسلم (677)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
وروي عن أبي موسى الأشعري: أنه قال: نزلتْ سورةٌ نحوٌ من (براءة)، ثم رفعت، وذَكر أنه حَفِظَ منها شيئًا (1).
وروي عن بعضهم أنه كانتْ سورةُ الأحزابِ تعدلُ سورةَ البقرة (2).
وروي عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: أنها قالت: نزلت: (فصيامُ ثلاثةِ أيام متتابعات)، فسقطت متتابعات (3). قال الدَّارَقُطْنِيُّ: إسنادُه صحيح.
ومثل ما روي: (الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا)(4)، ولأنه لا يسمى قرآنًا إلا مجازًا، وليسَ له حرمةُ القرآن، فيجوز للجنب والحائض قراءةُ مثلِه، ولا يجوز لنا أن نقول: في القرآن شيء ثابت بنقل الواحد؛ لتوفر دواعي الأمة على نقله، فإذا نقل بعضُهم شيئًا شاذًا، رَدَدْناه، ودلَّ على بطلانه مخالفة الإجماعِ من المسلمين، بخلاف ما قدمناه؛ فإنه ليس فيه مخالفةٌ لإجماع المسلمين، فينزل منزلةَ السُّنَنِ؛ لاتفاقهما في أن الدواعيَ لا تتوفرُ من المسلمين على نقل أفرادِهما كما تتوفرُ على نقل أفراد القرآن،
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 132)، والطيالسي في "مسنده"(540)، وابن حبان في "صحيحه"(4428)، والحاكم في "المستدرك"(8068)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 211)، عن أبي بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة".
(3)
تقدم تخريجه، وقول عائشة هو: نزلت: "فعدة من أيام أخر متتابعات" وليس "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، ولعله سبق قلم من المؤلف، فقد سبق له ذكر قول عائشة هذا على وجهه الصحيح، والله أعلم.
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
ولاتفاقهما على أنهما لا يخرجان عن رتبة الظنِّ، ولا يتعديان إلى رتبةِ القطع (1).
نعم قد يكونُ في السنن أشياءُ متواترةٌ من طريقِ المعنى، وهي يسيرة جدًا، والله أعلمُ، وبه العصمةُ والتوفيق.
" وأما الوقتُ: فذهبَ جمهورُ أهل العلم من الصحابة والتابعين وفُقهاءِ الأمصار إلى اعتبارِه؛ لما خَرَّجَهُ مسلم عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- قالت: دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعندي رجلٌ، فاشتدَّ ذلك عليه، فرأيتُ الغضبَ في وجهه، فقلت: يا رسول الله! إنه أخي من الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: "انْظُرْنَ مَنْ إخْوانُكُنَّ؛ فإنَّما الرَّضاعَةُ من المَجاعَةِ" (2)، أي: إن الرضاعةَ إنما تثبُتُ في حَقِّ من يقوم له الرَّضاعُ مقامَ الغِذاء عندَ الجوع (3).
وأخذ داودُ بظاهر إطلاق الآية، فرضاعُ الكبير عنده يُحَرِّمُ (4).
(1) بقي أن يقال: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلَاّ أُبقيت التلاوة، ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟
وأجاب ابن عقيل عن ذلك فقال: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي، انتهى. نقله الزركشي في "البرهان في علوم القرآن"(2/ 37).
قلت: وهذا استنباط مليح، ولعلَّ الإجابة في أمثال هذه المسائل: أنها حكمة الله التي يتعبَّد بها الخلق، والله أعلم.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "الإشراف" لابن المنذر (5/ 118 - 119)، و"التمهيد" لابن عبد البر (8/ 260)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 113)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 142)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 109)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 35)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 148).
(4)
قال ابن حزم في "المحلى"(10/ 17): ورضاع الكبير محرم، ولو أنه شيخ =
وهو مذهبُ عائشة -رضي الله تعالى عنها- وكانتْ إذا أحبتْ أن يدخلَ عليها أحدٌ من الرجالِ، أمرتْ أُخْتَها أُمَّ كُلثومٍ وبناتِ أختها يرضعْنَه (1).
وخرَّجَ مسلم عن عائشةَ رضي الله تعالى عنها: أن سالِمًا مولى أبي حُذَيفةَ كان مع أبي حذيفة وأهلِهِ في بيتهم، فأتت سهلة (2) بنتُ سُهَيلٍ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت إنَّ سالمًا قد بلغَ ما يبلغُ الرجالُ، وعقلَ ما عَقَلوا، وإنهُ يدخل علينا، وإني أظنُّ أنَّ في نفسِ أبي حُذَيفةَ من ذلك شيئًا، فقال لها النبيُّ:"أَرْضِعيهِ تَحْرُمي عليهِ، ويَذْهَب الذَّي في نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ"(3).
وأجيب عنه بأنه نازلة في عينٍ (4)، فلا تعمُّ.
وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ لما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حُكْمِي في الواحِدِ حُكْمِي في الجَماعَةِ"(5).
وبأنه كان يراها سائرُ أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم رُخْصَةً لسالمٍ وسَهْلَةَ.
وقالت أمُّ سلمةَ رضي الله تعالى عنها: أبى سائرُ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن
= يحرم، كما يحرم رضاع الصغير. وانظر "المغني" لابن قدامة (11/ 319)، و "المجموع" للنووي (20/ 86).
(1)
انظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 605)، و"مسند الإمام الشافعي" (ص: 307)، و"مصنف عبد الرزاق"(13886).
(2)
"سهلة": زيادة من "ب".
(3)
رواه مسلم (1453)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير.
(4)
في "ب": "بعين".
(5)
قال العجلوني في "كشف الخفاء"(1/ 436): "ليس له أصل بهذا اللفظ، كما قال العراقي في "تخريج أحاديث البيضاوي"، وقال في "الدر" كالزركشي: لا يعرف، سُئل عنه المزي والذهبي فأنكراه".
يُدْخِلْنَ عليهنَّ أحدًا بتلكَ الرضاعة، وقلن لعائشة: واللهِ ما نرى هذا إلا (1) رخصةً رخَّصها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصَّةً، فما هو بداخل علينا أحدٌ بهذه الرضاعة (2).
* ثم اختلفَ القائلون بالتوقيت:
فمنهم من قَيَّدَهُ بافتقارِ الأطفالِ إلى اللَّبَنِ، فمتى استغنى عن اللبن، فلا أَثَرَ لرضاعه، وإن وقعَ قبل انقضاءِ الحَوْلين، وهو قولُ الأوزاعي (3)؛ أخذًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّما الرَّضاعَةُ من المَجاعَةِ"(4).
ومنهم من وَقَّتَهُ بالزمان، وهو حولانِ عند الشافعيِّ (5)؛ استئناسًا بقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].
وحولانِ وستةُ أشهرٍ عند أبي حنيفة (6).
وحَوْلانِ وشهرٌ ونحوُه عند مالك (7).
(1) في "أ": "ما نرى هذه إلا لنسائنا رخصةً".
(2)
رواه مسلم (1454)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير، عن أم سلمة.
(3)
وهو قول المالكية. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (18/ 258). وانظر: "المجموع" للنووي (20/ 86)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 128).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
وهو قول الحنابلة وأبي يوسف ومحمد، وهو المفتى به عند الحنابلة.
انظر: "الحاوي" للماوردي (11/ 266)، و"البناية في شرح الهداية" للعيني (4/ 809)، و"المغني" لابن قدامة (11/ 319)، و"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 445).
(6)
وقال زفر: ثلاثة أحوال. انظر: "البناية في شرح الهداية" للعيني (4/ 810).
(7)
روى الوليد بن مسلم عن مالك: ما كان بعد الحولين بشهر أو شهرين أو ثلاثة، فهو من الحولين. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (18/ 258).
وعمل داودُ بأصله في اتباعِ الظاهر، وترك المعنى، فلم يحرمْ بالوُجور (1) واللُّدود (2).
ووافقه عطاءٌ في الحُكم (3).
وخالفهما سائرُ أهلِ العلم؛ لأن المعنى في لبن المرضعة هو ممازجةُ لبنِها لِلَحْمِ الطفل وعروقِه، فنباتُ لحمِه ودمِه من لبنها، فصار كبَضْعَةٍ منها، وهذا المعنى موجودٌ في الوجور واللدود (4).
* فإن قيل: فهل تخصيصُ الله سبحانه الأمهاتِ والأَخَوات بالذِّكْرِ يدلُّ على أن مَنْ عداهُنَّ مِمَّنْ يُدْلي بجهةٍ غيرِ جهةِ الأمِّ بخلافهن، أو لا يَدُلُّ (5)؟
فالجواب: أنه بمجردِ ذكرِه لا يدلُّ؛ لأنَّ الاسمَ من غير ذكر صفتِه لا يدلُّ؛ على أنَّ ما عَداهُ بخلافه، باتفاق الأصوليين، إلا أبا بكرٍ الدَّقَّاقَ، وإنما يدلُّ عليه قولهُ تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بعدَ ذكرهِ لهذهِ المُحَرَّماتِ المَعْدودات، فيجوز أن يكونَ في التخصيصِ بذكرهنَّ دلالةٌ على أَنَّ مَنْ عداهُنَّ بخلافِهِنَّ، فلا حُرْمَةَ بينَ الرضيعِ والفَحْلِ، ومن يدلي به؛ كأخيه، فيجوزُ للرضيعِ أن يتزوَّجَ عَمَّته، ويجوز للفَحْلِ ولأخيهِ أن يتزوجَ المُرْضَعَةَ بلِبانه، ويجوز أن يكونَ هذا التخصيصُ للتنبيهِ على حكمِ
(1) الوَجور: الدواءُ يُوجَر في وسط الفم.
قال ابن السكيت: الوَجوز: في أيِّ الفم كان، واللدود في أحد شقّيه.
"اللسان"(مادة: وجر)(5/ 279).
(2)
اللَّدودُ: ما سُقي الإنسانُ في أحد شقّي الفم، ولديدا الفمِ: جانباه.
"اللسان"(مادة: لدد)(3/ 390)
(3)
انظر: "المجموع" للنووي (20/ 97).
(4)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 28).
(5)
في "أ": "وخالفهم بخلافه، أو لا دليل".
أصل الرَّضاع، ثم يلحق به سائرُ المحرمات بالنسبِ، وهو خلاف الظاهر الذي لا يُعْمَدُ (1) إليه إلا بدليل.
فقال بالأول قومٌ منهم ابنُ عمر، وابنُ الزبير، وابنُ المسيّب، وإبراهيمُ، وأبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن؛ لما قررتُه من الظاهر، ولأن المعنى المُحَرِّمَ للأمِّ هو نباتُ لحمِه وانتشارُ عظمِه بِلبِانها مفقودٌ في الفحل.
وذهبَ كثيرٌ من أهلِ العلم إلى إثباتِ الحُرمةِ بين الفحلِ والرضيعِ، وبه قالَ الأئمةُ الأربعةُ (2)؛ لما أخرجه الشيخان من حديث عائشةَ: أنه جاءَ أَفْلَحُ أخو أبي القُعَيْسِ يستأذنُ عليها بعدما نزلَ الحِجابُ، وكانَ أبو القُعَيْسِ أبا عائِشَةَ منَ الرضاعةِ، قالت عائشة: فقلت: واللهِ لا آذنُ لأفلحَ حتى أستأذنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن أبَا القُعَيْسِ ليسَ هو أَرْضَعَني، ولكنْ أرضعَتْني امرأتهُ، قالت عائشةُ: فلمّا دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله! إن أفلحَ أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليَّ، فكرهتُ أن آذنَ لهُ حتى أستأذنكَ، قالت: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ائذَنِي لَهُ"(3).
(1) في "ب": "يعدل".
(2)
انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (41/ 2)، و"التلقين" للقاضي عبد الوهاب (1/ 354)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (11/ 357)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 16)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 87).
وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 244)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 68)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 483)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 111)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 151).
(3)
رواه البخاري (4518)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ
…
}، ومسلم (1445)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل.
وفي بعض طرقه: "إنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ"(1)، ولأنه سببُ اللبنِ، فلا يخرجُ السببُ عن حكمِ المسبّب، ولهذا قال ابن عباس: اللقاحُ واحد، لمَّا سئل عن رجل كان له امرأتان، فأرضعت إحداهُما غلامًا، والأخرى جارية، هل يتزوجُ الغلامُ الجارية؟ فقال: لا، اللَّقاحُ واحدٌ (2).
* وحرم الله سبحانه في هذه الآية ثلاثًا بالمُصاهرة، وهي: أمهاتُ الزوجات، وبناتُ الزوجات، وزوجاتُ الأبناء، فقال:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23].
وهذا إجماعٌ من الأمة.
* وأطلق الله سبحانه تحريم أمهاتِ الزوجات وزوجاتِ الأبناء، وقيدَ تحريمَ بناتِ الزوجات بالدُّخول.
وقد اتفق المسلمون على تحريم زوجات الأبناءِ بالعَقْدِ؛ كما أطلقه الله سبحانه، وعلى أن الربائبَ لا يحرمْنَ إلا بالدخول على أمهاتهن؛ كما قيد الله سبحانه، ونصَّ عليه (3).
(1) تقدم تخريجه بهذا اللفظ.
(2)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 602)، ومن طريقة الإمام الشافعي في "مسنده"(306)، والترمذي (1149)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في لبن الفحل، وسعيد بن منصور في "سننه"(1/ 276)، وعبد الرزاق في "المصنف"(13942)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(17348)، والدارقطني في "سننه"(4/ 179)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 453).
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 180)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 113).
* واختلفوا في أمهاتِ الزوجاتِ هل يحرمْنَ بالعَقْدِ أو بالدخول؟
- فذهب جمهورُ أهل العلم من كافة فُقهاء الأمصار إلى أنها تحرم بالعَقْدِ على البنت.
- وذهب قومٌ إلى أنها لا تحرمُ إلا بالدخول؛ كالبنت.
قيل: ويروى عن عليٍّ وابنِ عباسٍ من طرق ضعيفة (1).
وظنَّ بعضُ المتأخرين (2) أن منشأ اختلافِ الفريقين هو الأصلُ المشهورُ في الصفة إذا تعقبت جُملًا عُطِفَ بعضُها على بعض، هل يعود إلى الجميع، أو يختصُّ بالأخيرة؟ واعتقد (3) أن قوله تعالى:{اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] عائدٌ إلى الجميع على قول، وغير عائد على قول، وليس كذلك، بل تقييد الصفة خاصٌّ بالربائب (4).
(1) ويروي عن جابر بن عبد الله وزيد بن ثابت، وهو قول مجاهد وابن الزبير. انظر:"معالم التنزيل" للبغوي (5/ 106)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 69)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 106)، و"الحاوي" للماوردي (9/ 206) ..
(2)
لعله يقصد ابن رشد حيث ذكر ذلك في "بداية المجتهد"(2/ 25) وقال: ومبنى الخلاف، ثم ذكره، وانظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 106)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 471).
(3)
في "ب": "فاعتقد".
(4)
قال البيضاوي في "تفسيره"(2/ 166): و {مِنْ نِسَائِكُمُ} متعلق بربائبكم، و {اللَّاتِي} بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإجماع قضية للنظم، ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضًا؛ لأن (من) إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية، وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك، بل وجب أن يكون بيانا لـ {نِسَائِكُمُ} ، والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء، اللهم إلا إذا جعلتها للاتصال؛ كقوله: إذا حاولت في أسد فجورًا فإني لست منك ولست مني، على معنى: أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما.
وإنما اختلفوا في إلحاقِ الأمهات بالبنات في التقييد:
فمنهم من ألحقها بالبنت، فاشترطَ الدخولَ، ولم يرَ بينهما فرقًا.
ومنهم من لم يُلْحقها بها، ورأى أن الأمَّ لا يُصيبها نُفْرَةٌ، ولا يلحقها (1) غَيْرَةٌ على ابنتها، بخلاف البنتِ، كما هو المعهودُ من طباعِ الناس، فرآه فارقًا من محاسن الشريعة.
فإن قيل: فتقييدُ (2) الربائب بكونهن في الحُجور يدلُّ على أنهن إذا لم يكنَّ في الحُجور لا يَحْرُمْنَ.
فالجوابُ: أن هذا الخطابَ لا مفهومَ له، وإنما ورد استعمالهُ على غالبِ الوجود؛ فإن الموجودَ من أحوال الناس أن الربائبَ لا يَكُنَّ إلا في حُجورِ أزواجِ أمهاتهن، وهذا قولُ جمهورِ أهل العلم.
وخالف داودُ، فجعلَه مفهومًا، وأباحَ الربيبةَ التي لم تكنْ في حجرِ الرجل، وهذا من ظواهره البعيدة (3).
(1) في "ب": "تعتريها".
(2)
في "أ": "تقييدُ".
(3)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 112).
قلت: استدل داود وغيره بالأثر المروي عن علي رضي الله عنه في ذلك، وهو ما رواه عبد الرزاق في "المصنف"(10834)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 912) عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت، وفد ولدت لي، فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب فقال: مالك؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال علي: لها ابنة، قلت: نعم وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي بالطائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك.
قال ابن كثير في "تفسيره"(1/ 472) بعد أن ساق إسناد ولفظ ابن أبي حاتم: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم، وهو قول غريب =
* وأما مفهومُ قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]، فهو يدلُّ على أن زوجةَ الابن من التبنيِّ لا تَحْرُمُ، وهي كذلك حَلالٌ بالإجماعِ (1).
وقد ورد حِلُّه مبيَّنًا في موضعٍ آخرَ، قال الله جل جلاله:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، وهو المراد بمفهوم الآية، وأما حليلُة ابنِ الرَّضاع، فحرامٌ بالاتفاق (2)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"يَحْرُمُ منَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ منَ النَّسَبِ"(3).
" ثم حرم الله سبحانه الجمعَ بين الأختين، فقال:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، وذلك إجماعٌ (4)، سواءٌ كُنَّ معًا، أو مُتَرَتبِّاتٍ.
= جدًا، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله فاستشكله وتوقف في ذلك والله أعلم.
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(9/ 158): والأثر صحيح عن علي، وكذا صحَّ عن عمر: أنه أفتى من سأله إذ تزوج بنت رجل كانت تحته جدتها ولم تكن البنت في حجره. أخرجه أبو عبيد.
قال الحافظ: ولولا الإجماع الحادث في المسألة وندرة المخالف لكان الأخذ به أولى؛ لأن التحريم جاء مشروطًا بأمرين: أن تكون في الحجر، وأن يكون الذي يريد التزويج قد دخل بالأم، فلا تحرم بوجود أحد الشرطين.
(1)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 116).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 76)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 487)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 116).
والحكمةُ إيقاعُ البُغْضِ (1) والتقاطعُ بين الأرحام.
* وبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الجمعَ بين المرأةِ وخالَتِها، وبينَ المرأةِ وعمَّتِها في معنى الجمعِ بين الأختين (2)، وعلى هذا اتفق أهلُ العلم (3).
قال أبو عبد الله الشافعيُّ: وهو قولُ من لَقِيتُ من المُفْتين، لا اختلافَ بينهم فيما علمتُه (4).
والاستثناءُ في قوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} راجعٌ إلى الجملَةِ الأخيرة، قال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: كان أهلُ الجاهلية يُحَرِّمون ما حَرَّمَ اللهُ، إلا امرأةَ الأبِ، والجمعَ بين الأختين (5).
* ثم حرم الله سبحانه المزوَّجاتُ من النساءِ على غير أزواجهنَّ، فإنه أكبرُ الزنا وأعظمُه، فقال:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، والمراد بالمُحْصنات هنا: المزوَّجات (6).
فإن قال قائل: فبيِّنْ لنا حقيقةَ الإحصان، والدليلَ على أن المرادَ به المزوجاتُ؛ فإنَّا رأينا الإحْصانَ يقعُ في كتابِ الله على معانٍ مختلفة.
(1) في "ب": "البغضاء".
(2)
روى البخاري (4820)، كتاب: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (1408)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها".
(3)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 31)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 191)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 32).
(4)
انظر: "الأم " للإمام الشافعي (5/ 5)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 166).
(5)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(4/ 318).
(6)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 35)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 474).
قلنا: هو كما ذكرتَ يقعُ على معاني مختلفة، ولكنه إن وقعَ على معانٍ مختلفة، فإنه يجمعُها معنًى واحدٌ، وهو المنعُ.
فالإحصانُ (1) مأخوذٌ من التحصين، وهو المنعُ، فكلُّ ما يَمْنَعُ فهو مُحْصِن -بكسر الصاد- وما مُنِع فهو مُحْصَنٌ -بفتح الصاد (2) - قال الله تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80]، وقال تعالى:{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14]، يعني: ممنوعة، وقال تعالى:{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91]، أي: منعته عن الزنا.
وهو يقعُ في القرآن على معانٍ.
منها: العِفَّةُ؛ لأنها مانعةٌ؛ لقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]، أي: عفائفَ غيرَ زوانٍ.
ومنها: الحرية؛ لأنها مانعةٌ، وذلك كقوله تعالى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وكقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، وكقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وكقوله تعالى:{أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].
ومنها: الإسلامُ؛ لأنه مانعٌ، وذلك كقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} ، أي: أسلمْنَ (3)، وهذا
(1) في "ب": "والإحصان".
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث"(1/ 397)، و"تهذيب الأسماء واللغات"(3/ 62)، و"لسان العرب"(13/ 119) مادة (حصن).
(3)
انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 323 - 324).
تأويلُ الشافعيِّ -رحمه الله تعالى- المشهورُ عنه، ويروى عن عبدِ الله بن مسعود (1)، والدليلُ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيِّنَ زِناها، فَلْيَحُدَّها"(2).
قال الشافعيُّ: ولمَّا (3) لم يقلْ: محصنة، أو غير محصنة، استدلَلْنا على أن قولَ الله في الإماء:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] إذا أسلمْنَ، لا إذا نكحن وأُصبن بالنكاح، ولا إذا أُعتقن، وإن لم يُصَبْنَ (4).
قال: وروينا عن ابن مسعود أنه قال: إحصانُها إسلامُها (5)، وسيأتي الكلام على هذا قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
ومنها: النِّكاح؛ لأنه مانعٌ؛ وذلك كقوله (6) تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24].
والدليل عليه ما روينا في "صحيح مسلم" عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله تعالى عنه-: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ حنينٍ بعثَ جيشًا إلى أَوْطاسٍ، فلقي عدوًا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، فأصابوا لهم سبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تَحَرَّجوا من غِشْيانِهِنَّ من أجلِ أزواجهنَّ من
(1) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 362). وهو مروي عن أنس بن مالك والشعبي والنخعي.
(2)
رواه البخاري (2119)، كتاب: البيوع، باب: بيع المدبَّر، ومسلم (1703)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، وأبو داود (4470)، كتاب: الحدود، باب: في الأمة تزني ولم تحصن، عن أبي هريرة، وهذا لفظ أبي داود.
(3)
في "ب": "ولو".
(4)
انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 135 - 136).
(5)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (6/ 155)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 243).
(6)
"وذلك" ليس في "أ".
المشركين، فأنزل عليه في ذلك:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، أي (1): فهنَّ لهم حلالُ إذا انقضتْ عِدَّتُهُنَّ (2).
فإن قال قائل: فعمومُ الاستثناء يقتضي أن كلَّ مزوجة تَحِلُّ بملكِ اليمين، سواءٌ كانت مَسْبيَّة أو غيرَ مَسْبِيَّةٍ، وثنيةً كانت أو كتابيةً، ويقتضي أن الأختينِ حَلالانِ بملكَ اليمين؛ لأنَّ العبرةَ بعُموم اللفظ لا بخُصوص السبب، ولأن الاستثناءَ راجعٌ إلى الجميعِ عند الأكثرين من أهل العلم بشرائطِ الاستدلال.
قلنا: قد اختلفَ الناسُ في ذلك.
فرأى أبو حنيفة حِلَّ المَسْبيَّةِ المزوَّجَةِ إذا سُبيت منفردةً عن زوجها، سواءٌ تقدّم سَبْيُها أو تأخر، ورأَى تحريمَها إذا سُبيت مع زوجها، وكذا رأى تحريمَ المزوَّجَة المُشْتراة، فحملَ عمومَ الآية على خصوصِ سببها (3).
ورأى الشافعيُّ حِلَّ المَسْبيةِ مطلقًا؛ إذ العبرةُ عنده بعُموم اللفظ لا بخُصوص السبب، ووافقَهُ في تحريمِ المزوَّجَةِ المشتراة (4)؛ لأجلِ تخيير النبيِّ صلى الله عليه وسلم بَريرَةَ بعد العتقِ (5)؛ لأنها لو طَلُقَتْ بشراءِ عائشةَ، أو بعتقِها، لما خَيَّرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وهذا قولُ عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، وابنِ
(1)"أي "ليست في "أ".
(2)
رواه مسلم (1456)، كتاب: الرضاع، باب: جواز وطء المسبية بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي.
(3)
انظر: "المبسوط" للسرخسي (5/ 52)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 268).
(4)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 150)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 229).
(5)
تقدم تخريجه.
عُمر (1)، فعملَ الشافعيُّ بعمومِ الآيةِ، وبخصوصِ الحديث.
ووافقهما مالكٌ في تحريم المزوَّجة المُشتراة؛ لحديث بَريرَةَ (2).
وعن مالكٍ في المَسْبية روايتان كالمذهبين (3).
* وخالف الجميعَ قومٌ في المزوَّجَةِ المُشْتراة، فرأوا حِلَّها، وأن بيعَها طلاقٌ، ويُروى عن ابن عباسٍ، وجابرٍ، وابنِ مسعودٍ، وأبيِّ بنِ كعبٍ، وعِمْرانَ بنِ حُصين (4).
وقال البخاري: قال أنس: لا نرى بأسًا أن ينزعَ الرجلُ جاريَته من عبدِه (5)، فعملوا بعمومِ الآيةِ مُطلقًا.
* وكذلك اختلف أهلُ العلم في الأَمَةِ الوثنيَّة.
فقال جمهورُهم: لا يجوزُ وطْؤها؛ لأن من لا تحلُّ بملكِ النِّكاح، لا تحلُّ بملكِ اليمينِ، كالأمِّ والأخت (6).
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 81).
وقد ذهب الحنابلة إلى حل المسبية المزوجة إذا تقدم سبيها على زوجها، وإلى تحريمها إذا سبيت مع زوجها. انظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 215).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 275).
(3)
والمذهب حلُّها مطلقًا سواء مع زوجها أو من دونه. انظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 339)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 140).
(4)
وهو قول سعيد بن المسيب ومجاهد وعكرمة وإسحاق ورواية عن مالك. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 275).
(5)
انظر: "صحيح البخاري"(5/ 1963).
(6)
قد مرَّ الخلاف في التزوج بالوثنيات في آية: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
…
}.
وانظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (4/ 139)، و"رد المحتار" لابن عابدين (3/ 503)، و "المدونة"(2/ 225)، و "المجموع" للنووي (17/ 340)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 121).
قال الشافعيُّ: وإذا حَرَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم أن يطأَ (1) امرأةً وثنيةً حتى تسلم في العِدَّةِ، دلَّ ذلك على أنه لا يَطَأُ من كانَت على دينها حتى تسلم من حرة أو أَمَةٍ (2).
وقال بجوازه طاوسٌ، ومجاهدٌ (3).
وهو قويُّ الدلالةِ عندي معَ اتفاقِ فُقهاء الأمصارِ وسائرِ العلماءِ على خلافه؛ لأنه ما هو في الدلالةِ أقوى من القياس لا يَخُصُّ من العموم محلَّ السبب.
وقد أباح النبيُّ صلى الله عليه وسلم وطء سبايا أَوْطاسٍ، وهنَّ أصحابُ أوثان، إلا أن يثبتَ أنهنَّ لم يوطأنَ إلا بعد إسلامهن، فحينئذٍ تتضحُ الحجةُ وتقوم (4).
ولكن لقائل أن يقول: السببُ هو الإحصانُ، لا الكفرُ، قال أبو عبد الله الشافعيُّ: ولا أحسبُ أحدًا من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَطِئَ مسبيَّةً عربيةً حتى أسلمت (5).
(1) في "ب": "توطأ".
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 164).
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 266). قال ابن عبد البر: وهو قول شاذ مهجور.
(4)
روي عن أحمد: أنه سأله محمد بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله: هوازن أليس كانوا عبدة أوثان؟ قال: لا أدري كانوا أسلموا أو لا؟. انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 103).
قال ابن عبد البر: قول ابن شهاب -وهو أعلم الناس بالمغازي والسير- دليل على فساد قول من زعم أن سبي أوطاس وطئن ولم يسلمن. انظر: "الاستذكار"(16/ 268).
في إشارة منه إلى قول الأوزاعي قال: سألت الزهري عن رجل يشتري المجوسية أيطأها؟ فقال: إذا شهدت أن لا إله إلا الله وطئها.
(5)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (164).
* وأما الاستثناء، فقال أكثرُ الناس باختصاصه بالجملة الأخيرة، وأن الجمعَ بين الأختين بملكِ اليمينِ حرامٌ (1).
قال عثمانُ -رضي الله تعالى عنه-: أحلَّتهما آية وحَرَّمتهما آية (2)، والتحريمُ أولى (3).
وبهذا قال عامَّةُ أهلِ العلمِ بالقرآن.
وخالف الناسَ أهلُ الظاهر، فقالوا: يجوزُ الجمعُ بينَهما كما يجوزُ ملكُهُما، ولا التفاتَ إليهم (4).
* وضابطُ الجمعِ المحرمِ ما قاله الشعبيُّ: كلُّ امرأتين إذا جَعَلْتَ موضعَ إِحداهما ذَكَرًا، لم يَجُزْ أن يتزوجَ الأخرى، فالجمعُ بينهما باطلٌ، فقيل له:
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 76)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 116)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 191). قال القرطبي: ذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء.
(2)
قال ابن عبد البر: أما قوله: "أحلتهما آية": فإنه يريد تحليل الوطء بملك اليمين مطلقًا في غير ما آية من كتابه.
وأما قوله: "وحرمتهما آية": فإنه أراد عموم قوله عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} . انظر: "الاستذكار"(16/ 250).
(3)
ذرواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 538)، والإمام الشافعي في "مسنده"(288)، وعبد الرزاق في "المصنف"(12728)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(16257)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 163). وجاءت ألفاظه عندهم:"ولم أكن لأفعله، و "لست أفعل أنا ولا أهلي"، "وأما أنا فلا أحب أن أصنع هذا"، وحلا آمرك ولا أنهاك".
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (16/ 250)، و "المغني" لابن قدامة (7/ 96). وقد ذهب ابن حزم إلى ما ذهب إليه الجمهور من عدم جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين. انظر:"المحلى"(9/ 521).
عَمَّنْ هذا؟ فقال: عن أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
" ولما ذكر اللهُ سبحانه الحرامَ من النساء، ذكر الحلالَ منهن بلفظٍ عامٍّ مترقٍّ في الظُّهور إلى رتبةِ النصوصِ، فقال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، ثم بين شرطه فقال:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] أي: ناكحين غيرَ زانين.
" وبين النبيُّ صلى الله عليه وسلم صفةَ النكاح، وشرائطَه، والحالةَ التي يحلُّ فيها أو يَحْرُم.
* فإن قال قائل: فتقييدُ الابتغاء بالأموال يقتضي أنه لا يجوزُ بغيرِ أموالٍ (2).
قلنا: قد اختلف أهلُ العلم في مسائلَ:
* فاختلفوا في جواز النكاح على المنفعة (3).
فجوزه الشافعيُّ وبعضُ أصحاب مالكٍ (4)؛ قياسًا على الإجارة (5).
ومنعه أبو حنيفةَ إلا في حقِّ العبدِ، لما في الإجارةِ من مخالفةِ القياس، فلا يقاسُ عليها (6).
(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 281 - 282)، و"الاستذكار" له أيضًا (5/ 454).
(2)
في "ب": "الأموال".
(3)
أي: صداق النكاح هل يجوز أن يكون منفعة؛ كأن يبني لها البيت، أو يخيط لها الثوب.
(4)
أجازه من أصحاب مالك: أصبغ وسحنون. انظر: "بداية المجتهد"(2/ 16).
(5)
وهو مذهب الحنابلة. انظر: "الأم" للشافعي (5/ 161)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 499)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 417)، و"الكافي في فقه الإمام أحمد"(3/ 85)، و"المغني" كلاهما لابن قدامة (7/ 162).
(6)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 90)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني =
ويروى عن مالكِ المنعُ مُطْلقًا، والمشهورُ عنه الكراهةُ (1)، وعنده فرقٌ بين المَمْنوع والمكروه، فالممنوعُ ما يُفْسَخُ به النكاحُ بعد الدخول، والمكروهُ ما يُفسخ به قبلَ الدخول، ولا يُفسخ به بعده.
والخلافُ في هذه المسألةِ يرجعُ إلى أصل آخرَ، وهو هل شرع مَنْ قبلَنا شرعٌ لنا أو لا (2)؛ فمن قالَ: شرعٌ لنا، جَوَّزَ النكاحَ على المنفعة؛ لفعلِ النبيِّ شعيبٍ ذلك مع النبيِّ موسى- صلوات الله وسلامهُ عليهما (3) -.
ومن لم يقلْ بشرعيته، منعَ هذا النكاحَ، لمخالفته القياسَ ونظمَ الآية (4).
والصحيحُ الجوازُ لقوله: "زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ"(5) وهذا إجازة.
= (1/ 207)، و"البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 168).
(1)
انظر: "بداية المجتهد"(2/ 16)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (13/ 274).
(2)
ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية والأصح عن أحمد إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إن لم يأت في شرعنا ما ينسخه، وذهب بعض الشافعية والحنابلة أنه ليس شرعًا لنا.
انظر: "البرهان في أصول الفقه" لأبي المعالي الجويني (1/ 331)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 16)، و"التبصرة في أصول الفقه" للشيرازي (ص: 285)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 38)، و"تفسير ابن كثير"(2/ 63)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 401).
(3)
ليس كل من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، جوَّز أن يكون الصداق منفعة، كالحنفية وبعض المالكية، وقالوا: لقد جاء في شرعنا ما ينسخ حكم هذه الآية وبعضهم أوَّلها.
(4)
وكذلك ليس كل من قال: إن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، منع أن يكون الصداق منفعة، لاعتماده على أدلة أخرى كالحديث الآتي.
(5)
رواه البخاري (4839)، كتاب: النكاح، باب: إذا كان الولي هو الخاطب، =
الثانية: اختلفوا في النكاح على تعليم القرآن.
فجوزه جمهورُ الفقهاء (1)، لقوله صلى الله عليه وسلم:"زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ".
ومنعه قومٌ، وتأولوه على معنى السببية، أي: لسبب ما معك من القرآن (2).
وهذا بعيدٌ جدًا؛ لخروجه عن قصدِ الخطاب، ولخُلُوِّ النكاحِ عن الصَّداق.
الثالثة: خَرَّجَ الشيخانِ عن أنسٍ -رضي الله تعالى عنه-: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعتقَ صَفِيَّةَ، وجعل عتقَها صَداقَها (3).
- فذهب الثوريُّ، والزهريُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وداودُ إلى أنه يجوز أن يعتقَها على أن تتزوج به، ويكون عتقُها صداقَها، ويلزمها ذلك، ويصحُّ الصداقُ عملًا بظاهر الحديث (4).
= ومسلم (1425)، كتاب: النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم القرآن، وخاتم حديد، وغير ذلك، عن سهل بن سعد الساعدي.
(1)
من الشافعية وبعض الحنابلة. انظر: "الأم" للشافعي (5/ 59)، و"الحاوي" للماوردي (9/ 454)، و"الكافي" لابن قدامة (3/ 91)، و"زاد المعاد" لابن القيم (5/ 178).
(2)
هم الحنفية وقول عند المالكية. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 91)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 415)، و"الذخيرة" للقرافي (4/ 390)، و"المبسوط" للسرخسي (5/ 106)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 277).
(3)
رواه البخاري (4798)، كتاب: النكاح، باب: من جعل عتق الأمة صداقها، ومسلم (1365)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، عن أنس بن مالك.
(4)
انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 501 - 506)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 56)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 129)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 25).
- ومنعه مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ؛ لمخالفتِه الأصولَ؛ لأن العتقَ إزالةُ ملكٍ، والإزالةُ لا تتضمنُ إباحةَ الشيء بوجه آخر، ولأنها إذا عتقت، ملكتْ نفسَها، فكيف يكون يلزمها النكاحُ (1)؟
وتأولوا قوله: وجعلَ عتقَها صداقَها، أي: قائمًا مقامَ صَداقِها، فسماهُ باسمه، إذا لم يكنْ ثَمَّ عِوَضٌ، ويكون ذلك من خصائصِه صلى الله عليه وسلم؛ استدلالًا بقوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]، واستئناسًا بكثرةِ خصائصِه في النكاح.
وتأوله بعضهم على أنه جعلَ قيمتَها المقابلةَ لعتقها صداقَها، وتقديُره: وجعلَ عوضَ عتقها صداقَها، وهذا التأويلُ أقربُ من الأول؛ لأن الأصلَ مشاركةُ الأُمَّةِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم (2).
واختصَّ بالهبةِ في النكاح، وهذه لم تهبْه، ولأنه لو كان مخصوصًا بهذا، لبيَّنَ الخُصوصية؛ كما قال تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
ويقوي هذا التأويلَ ما روي عن ابنِ عمر: أنه كانَ يكرهُ أن يُجعلَ عتقُ المرأة مَهْرَها حتى يُفْرَضَ لها صداق (3).
ثم تفصيلُ مذهب الشافعي أنها (4): إذا كرهتْ زواجَهُ بعد العتق،
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 92)، و"الحاوي" للماوردي (9/ 85)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 498)، و "شرح مسلم" للنووي (9/ 221)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 135).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 221)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 215).
(3)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 128).
وانظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 503)، و"زاد المعاد" لابن القيم (1/ 112).
(4)
"أنها" ليست في "أ".
ضمنتْ له قيمتَها؛ لأنه لم يرضَ بعتِقها مَجّانًا، فكأنها أتلفت عليه رقبتَها، وإن رضيتْ ونكحها على قيمتها، فكانت معلومةً لهما، صحَّ الصَّداقُ، ولا يبقى له عليها قيمةٌ، ولا لها عليه صداقٌ.
وإن كانتِ القيمة مجهولةً، فوجهان:
أحدُهما: يصحُّ الصداقُ، ولا يبقى له (1)؛ للحديث (2).
والثاني: لا يصحُّ، وإنما (3) يجب مَهْرُ المِثْل؛ عملًا بالقياس (4).
فإن قال قائل: فمقتضى قولك: إن عمومَ قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يقاربُ النصَّ في الظهور: أنه لا يجوزُ تخصيصُه، فيحرم الجمعُ بين المرأةِ وخالتِها، وبينَ المرأةِ وعَمَّتِها، وإذا لم يجزْ خصيصه، اقتضى أنه حلالٌ، وهو خلافُ الإجماع (5).
قلت: هو كذلك، لا يجوز تخصيصه بذلك، ولا بغيره.
وأما تحريمُ الجمعِ بين المرأة وخالتِها وعمتِها، فإنما هو لبيان الشارع صلى الله عليه وسلم أنه في معنى بين الأختين؛ لوجود العلة المحرِّمة هناك، وليس
(1)"ولا يبقى له" ليست في "ب".
(2)
أي لحديث أنس المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
(3)
في "ب" زيادة: "قلنا".
(4)
وعند الإمام مالك: يفسخ النكاح قبل الدخول، ويثبت بعده بصداق المثل.
وعند الإمام أبي حنيفة: يصح النكاح في الحالتين ويثبت لها مهر المثل وإن أبت لا يثبت النكاح.
انظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 388)، و"حاشية الدسوقي"(2/ 303)، و"المهذب" للشيرازي (2/ 56)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 222)، و"البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 168).
(5)
انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 249)، و"المحصول" للرازي (3/ 137)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 452).
هو من باب التخصيص لعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وإنْ كانَ قد تَوَهَّمه كثيرٌ من جِلَّةِ العُلماء، وغَفَلوا عن هذا التحقيقِ والقصدِ النفيسِ؛ فإنه ليسَ من التخصيصِ بالقياسِ؛ لورودِ السنَّةِ به، ولا من التخصيص بفردٍ غيرِ مذكورٍ في العموم، ولا في معنى المذكور في العموم (1).
ولأجل هذا المأخَذِ رَدَدْنا إلحاقَ بعضِ السلف بهؤلاء مَنْ عداهُنَّ من المَحارم؛ حيث قالوا: يحرمُ الجمعُ بينَ كُلِّ امرأتينِ بينَهما رَحِمٌ محرِّمةٌ أو غيرُ محرمة، فمنعوا الجَمْعَ بين ابنتي عَمٍّ، وابنتي عَمَّةٍ، وبين ابنتي خالٍ، وابنتي خالةٍ، وبينَ المرأةِ وبنتِ بنتِ عَمِّها، أو بنتِ بنتِ عَمَّتِها، أو بنتِ بنتِ خالتِها، أو بنتِ بنتِ خالِها (2).
* واختلف أهلُ العلم في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24].
فقال قومٌ: نزلت في نِكاح المُتْعَةِ، فكانَ ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ، وابنُ جبيرٍ يقرؤون:(فما استمتعتُم بهِ منهنَّ إلى أجلٍ مُسَمًّى)(3).
(1) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 227)، و "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 79)، و "المبسوط" للسرخسي (4/ 195)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (3/ 224).
(2)
وممن قال بذلك: إسحاق بن طلحة بن عبيد الله والحسن البصري وجابر بن زيد وعكرمة وقتادة وعطاء على اختلاف عنه. انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 32)، و"الفروق" للقرافي (3/ 232)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 453).
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(8/ 177)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 262)، =
ثم افترقوا، فقال قومٌ؛ نَسخ الله ذلك بما جعل بين الزوجين من الطلاق في سورة البقرة (1)، وبما فرضَ من الميراث والعِدَّةِ والصَّداق (2).
فإن قال قائل: فما وجهُ التعارض والنسخ؟
فالجواب: أنه لما وجدنا سنةَ الله التي شَرَعَها بين الزوجين؛ من استمرارِ النكاحِ، ووقوعِ الطلاق، وفرضِ الميراث، ووجوبِ العِدَّةِ معارضًا لخصائصِ المُتعةِ؛ لأن المتعة قولُ الرجلِ للمرأة: أتزوجُك على كذا وكذا، إلى أجل كذا وكذا، على أن لا ميراثَ بيننا، ولا طلاقَ ولا عِدَّةَ، استدللنا على أن أحدَهما ناسخٌ للآخَرِ، فوجدنا الشرعَ استقرَّ على هذا، وبينتِ السنَّةُ تحريمَ نِكاح المُتعةِ (3)، فجعلناها مبينةً للناسخ في القرآن، لا ناسخةً
= و"تفسير الرازي"(3/ 195)، و"تفسير القرطبي"(5/ 130)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 218)، وانظر:"معجم القراءات القرآنية"(2/ 124).
(1)
(2)
روي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم على خلاف بينهم في الناسخ. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 325 - 326)، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي (ص: 124، 125)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 130).
(3)
وذلك في أحاديث كثيرة منها: ما رواه البخاري (5203) ومسلم (1407) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة عام خيبر.
للقرآن، وفي هذا الوجه (1) نظر (2).
فلقائل أن يقول: لا تعارُضَ بينَ نكاحِ المتعةِ والنكاحِ الصحيح؛ لأنَّ (3) النكاحَ كان على نوعين.
فحيث اشترط ذلكَ، كان متعةً كما شرط، وحيث ذكر الرجلُ المُسَمَّى ووقتَ النكاح، كان متعةً من خصائصِه تركُ الميراثِ وعدمُ الحاجةِ إلى الطلاق، وإن لم يشترطْ، ولم يسمَّ الأجلَ، كان نكاحًا تامًا مؤبدًا يترتَّبُ عليه أحكامُهُ من الطلاقِ والميراثِ والعدَّةِ.
فيكون الراجحُ ما قال الآخرون: إن الآية مُحكمة، والمعنى: فما استمتعتم به منهن، أي: فما انتفعتم به، وتلذَّذْتُم من النساء بالنكاحِ الصحيحِ، فآتوهُن أجورَهُن، أي: مُهورَهُنَّ فريضةً (4).
ولكنه يُضَعِّفُ هذا الترجيحَ ويقوِّي تأويلَها بنكاحِ المُتعة قولُه تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24].
فإن قيل: معنى {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24، أي: لا إثمَ عليكم في أن تهبَ المرأةُ للزوجِ مهرَها (5)، أو يهبَ
(1) في "ب": "التوجيه".
(2)
أراد -والله أعلم- بقول: "وفي هذا الوجه نظر"؛ أي: كون الآية نزلت في نكاح المتعة وأنها منسوخة.
(3)
في "ب": "بل".
(4)
وهذا قول الجمهور وإحدى روايتي ابن عباس وقول مجاهد والحسن ورجحه الطبري في "تفسيره". انظر: "تفسير الطبري"(5/ 13)، و "نواسخ القرآن" لابن الجوزي (ص: 124)، و "تفسير الثعلبي"(3/ 286)، و "تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 919)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 499).
(5)
روي ذلك عن ابن عباس، وبه فسر الزَّجاجُ الآية. انظر:"تفسير الطبري"(5/ 13)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 925)، و "الجامع لأحكام القرآن" =
الرجلُ للمرأةِ تمامَ المَهْرِ (1) إذا طلقها قبل الدخول (2).
قلنا: رفعُ الجُناحِ لا يُستعمل في اللِّسانِ في أداء الفريضة، ولا في فعل البِرِّ، وإنما يَرِدُ فيما له أصلٌ في المنع (3).
فإن قيل: قراءةُ الصحابيِّ بطريق الآحاد لا تثبتُ قرآنًا (4)، ولا تبلغ بيانَ السنةِ عندَ المحققين من أهل الاستدلال.
قلنا: ينبغي أن يكون هذا بمنزلة التفسير، وتفسيرُ الصحابيِّ أولى من
= للقرطبي (5/ 135)، و"التفسير الكبير" للرازي (10/ 45).
(1)
في "ب": "مهرها".
(2)
وقيل في تأويلها على قول من قال: إنها محكمة، معان أخر:
منها: لا حرج عليكم أيها الأزواج إن أدركتكم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهن فريضة فيما تراضيتم به من حط وبراءة بعد الفرض الذي سلف منكم لهن ما كنتم فرضتم، وهو قول المعتمر بن سليمان ورجحه الطبري.
وقيل في تأويلها أيضًا: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهن على استمتاعكم بهن من مقام وفراق، والتراضي أن يخيرها أو يوفيها صداقها ثم يخيرها.
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 13 - 15)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 920).
(3)
قلت: قد يجاب على إيراده هذا: أن رفع الجناح هنا جاء ردًا على من قد يتوهم أن رد المرأة مهرها لزوجها أو وهب الرجل تمام المهر للمطلقة قبل الدخول، فيه مانع شرعًا -على حسب الاختلاف في تفسير الآية- ونظيره قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فقوله: (ليس عليكم جناح) هنا جاء لمن يتوهم أن ابتغاء الرزق في الحج ممنوع والأمر ليس كذلك، ومثله قوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} .
(4)
يقصد ما قدمه من قراءة ابن عباس وابن مسعود وأُبَي وابن جبير: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى).
تفسير غيره، على الصحيحِ عندهم في تفسير السنة بأحدِ الوجوه عندَ قيامِ احتِمالها، فكذلك ينبغي أن يرجِّحوا به أحدَ الوجوه عند احتمال القرآن لها، ولم أر هذا لأحدٍ من الأصوليين (1)، ولكنه متَّجِه عندي (2).
وأما ابنُ عباسٍ فيقول: إنها محكمة في إباحة المتعة، وقد اشْتُهر عنهُ
(1) قد تكلم في نحو هذه المسألة كثيرون، ومن أول من أشار إليها الحاكم. انظر:"المستدرك" للحاكم (2/ 283)، و "ترتيب المدارك وتقريب المسالك" للقاضي عياض (1/ 27)، و "شرح مسلم" للنووي (13/ 183)، و"المسودة في أصول الفقه" لآل تيمية (ص: 158).
(2)
أصَّل العلماء لهذه المسألة فقالوا: يبحث أولًا عن صحة السند إلى الصحابي، ثم ينظر؛ فإن فسره من حيث اللغة فَهُمْ أهلُ اللسان، فلا شك في اعتمادهم، أو بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه.
ثم إن كان ذلك التفسير مما لا مجال للاجتهاد فيه فهو في حكم المرفوع، وإن كان يمكن أن يدخله الاجتهاد، فلا يحكم عليه بالرفع.
وإذا احتمل اللفظ أمرين احتمالًا واحدًا فصرفه إلى أحدهما كما روي عن عمر أنه حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء" على القبض في المجلس، فقد قيل: يقبل لأنه أعرف بمعنى الخطاب قال الشيخ أبو إسحاق: فيه نظر عندي.
وقال شيخه أبو الطيب: يجب قبوله.
واشترط بعض العلماء لترجيح قول الصحابي على غيره شروطًا منها:
- أن لا يكون في المسألة نص يخالفه.
- أن يقول في الآية قولًا لا يخالفه فيه أحد من الصحابة، سواء علم لاشتهاره أو لم يعلم.
قلت: وما ذكر المصنف في الاحتجاج لقوله في أن الآية في المتعة فُقد فيه الأمران فهناك من النصوص ما قد يدل على خلافه، وخالف ابنَ عباس في تأويله عدد من الصحابة بل إن لابن عباس روايتين في تفسير الآية. انظر:"أعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 153 - 155)، و"النكت على مقدمة ابن الصلاح" لابن حجر (1/ 434 - 436)، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (4/ 483).
القولُ بها وتبعه أصحابُه من أهلِ مكة واليَمَن (1)، وربما فهم القول به من بعضِ الأحاديثِ عن ابن مسعود (2)، وكان ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنه- يحتجُّ بهذه الآية، وروى عنه ابنُ جُرَيْجٍ وعمرُو بنُ دينار: أنه كان يقول: ما كانتِ المتعةُ إلا رحمة من الله عز وجل رَحِم بها أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولولا نَهْيُ عُمَر عنها، ما اضطُرَّ إلى الزنا إلا شَقِيٌّ (3).
وخَرَّجَ مسلمٌ عن جابرِ بنِ عبدِ الله -رضي الله تعالى عنهما- قال: تَمَتَّعْنا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ، ونصْفًا من خلافةِ عُمَرَ، ثم نهى عنه عُمَرُ الناسَ (4).
(1) منهم عطاء وسعيد بن جبير وطاوس. انظر: "شرح البخاري" لابن بطال (7/ 225)، و"الاستذكار"(5/ 506)، و"التمهيد" كلاهما لابن عبد البر (10/ 113 - 116)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 43)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 133)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 173).
(2)
وهو قول ابن مسعود: كنا نغزو مع رسول الله وليس معنا نساء، فأردنا أن نختصي، فنهانا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء.
قال الشافعي: ذكر ابن مسعود الإرخاص في نكاح المتعة ولم يوقت شيئًا يدل أهو قبل خيبر أم بعدها، فأشبه حديث علي بن أبي طالب في نهي النبي عن المتعة أن يكون والله أعلم ناسخًا، فلا يجوز نكاح المتعة بحال
…
انظر: "اختلاف الحديث" للشافعي (1/ 534). ثم قد روي عن ابن مسعود أنه قال: نسخها آية الطلاق والعدة والميراث. وسيأتي، فهذا صريح في أن مذهب ابن مسعود تحريم المتعة.
(3)
رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 26). وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 506)، و"التمهيد" له أيضًا (10/ 114)، "وبداية المجتهد" لابن رشد (2/ 44)، و "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 487).
(4)
رواه مسلم (1404)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة، عن عطاء قال: قدم جابر بن عبد الله معتمرًا، فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا =
وبتحريمِ المتعةِ قال جمهورُ الصحابةِ -رضي الله تعالى عنهم (1) -، وأجمع عليه فقهاءُ الأمصارِ بعد الخلاف، ولم يخالف فيها إلا الرافضةُ، فمن قائلٍ بأنها منسوخة، ومن قائلٍ بأنها محكمة مؤولةٌ كما قدمنا (2).
فإن قال قائل: فكيف استمرَّتِ الإباحةُ بعدَ موتِ النبي صلى الله عليه وسلم في زمنِ أبي بكرٍ، ونِصْفٍ من خلافةِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- مع وجودِ النهي عنه صلى الله عليه وسلم؟
قلنا: يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه لم يظهرْ ويكثرْ بين الناس فعلُ المتعة، وينتشرْ إلى الخلفاء فعلُ من لم يعلمْ بنسخها، إلا في نصفِ خلافة عمر.
والثاني: أن يكون توقفُ أبي بكر وعمر؛ لتكرار الإباحةِ والنسخ؛ فإنها أُبيحتْ، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم عامَ خَيْبَرَ، خرجه الشيخانِ عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه (3) -، وعامُ خيبرَ قبلَ فتحِ مكة (4).
= المتعة، فقال: نعم، "استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر". وفي رواية أخرى عنه:"كنا نستمتع بالقُبضة من التمر والدقيق، الأيام، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر".
(1)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 71)، و "المحلى" لابن حزم (9/ 520)، و "التمهيد" لابن عبد البر (10/ 111 - 121).
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 72)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 506)، و "فتح الباري" لابن حجر (9/ 173).
(3)
رواه البخاري (3979)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1407)، كتاب: النكاح، باب نكاح المتعة، عن علي بن أبي طالب:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية".
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 183)، و "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 464 - 462)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 172 - 174).
وقال سَبْرَةُ بنُ معبدٍ الجُهَنِيُّ: أمرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمتعةِ عامَ الفتحِ حينَ دخلنا مكةَ، ثم لم يخرجْ حتى نهانا عنها (1).
وروى سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قال: رخَّصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامَ أَوْطَاسٍ في المتعةِ ثلاثًا، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها (2).
وعامُ أَوْطاسٍ وعامُ الفتح واحدٌ، وهو بعدَ خيبر، فلما تقرر عنده أنه منسوخٌ أبدًا كما رواه سَبْرَةُ الجهنيُّ -رضي الله تعالى عنه-: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيُّها الناسُ! إنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمُ في الاسْتِمْتاعِ من النِّساءِ، وإن اللهَ قَدْ حَرَّمَ ذلكَ إلى يومِ القيامَةِ، فمنْ كَانَ عنَدُه شَيْءٌ، فَلْيُخْلِّ سبيلَها، ولا تَأْخُذوا مِمَّا آتَيْتُموهُنَّ شيئًا"(3)، علم أنه لا يجوز الإباحة بعدَه بوجه، نهى عنه.
وقد روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أنه رجعَ عن القولِ بتحليلها (4).
وكذا روى الحَكَمُ بن عيينةَ، عن أصحابِ عبدِ الله، عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ أنه قال: المتعةُ منسوخةٌ، نسخها الطلاقُ والصَّداقُ والعِدَّةُ والميراث (5).
وإن صحَّ ما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أن
(1) رواه مسلم (1406)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة.
(2)
رواه مسلم (1405)، كتاب: النكاح، باب: نكاح: المتعة.
(3)
رواه مسلم (1406)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة، عن سبرة الجهني.
(4)
نقل ابن عبد البر هذه الآثار عن ابن عباس ثم قال: وهي آثار كلها ضعيفة لم ينقلها أحد يحتج به، والآثار عنه بإجازة المتعة أصح، ولكن العلماء خالفوه فيها قديمًا وحديثًا. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 507).
(5)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(14044)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 207).
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "حَرَّمَ -أو هدم- المُتْعَةَ النكّاحُ والطَّلاقُ والعِدَّةُ والميراثُ"(1) فالحجَّةُ فيه، لا في قولِ أحدٍ غيرِه، والله أعلم (2).
وفي الآية دليل أن المهرَ لا يستقرُّ إلا بالاستمتاع، لا بالخلوة (3).
* * *
78 -
(19) قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
(1) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده"(6625)، وابن حبان في "صحيحه"(4149)، والدارقطني في "سننه"(3/ 259)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 27)، وقد حسنه الحافظ ابن حجر في "الدراية"(2/ 58).
(2)
اختلف العلماء فيمن نكح نكاح متعة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد: إذا تزوج امرأة عشرة أيام فهو باطل ولا نكاح بينهما، وقال زفر: النكاح جائز والشرط باطل. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 104)، و"المحلى" لابن حزم (9/ 520)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 508)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (1/ 195)، و "المغني" لابن قدامة (7/ 136).
(3)
مذهب أبي حنيفة وأحمد: أن الخلوة الصحيحة توجب المهر كاملاً، ومذهب مالك والراجح من مذهب الشافعي: أن الخلوة لا يكمل بها المهر. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 147)، و "الحاوي" للماوردي (9/ 46، 376)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 435)، و"الكافي" لابن قدامة (3/ 95).
قلت: أما حكم النسب إن جاءه ولد: لا يثبت عند الحنفية، ويثبت النسب منه عند المالكية والشافعية. انظر:"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 98)، و "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 140)، و "الحاوي" للماوردي (10/ 330)، و "روضة الطالبين" للنووي (7/ 42). =
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} [النساء: 25].
* أباحَ الله سبحانه في هذه الآية للحرِّ نِكاحَ الأَمَةِ بثلاثة شروط، فواحدٌ متفقٌ عليه عند أهل العلم، والآخران مختلَفٌ فيهما.
فأما المتفق عليه، فهو نِكاحُها بإذن سَيِّدِها (1).
وأما المختلَفُ فيهما:
فأحدهما: عدمُ الاستطاعة على الطَّوْل، وهو المال الذي يحصلُ به نِكاح الحُرَّةِ المؤمنة.
والثاني: خشيةُ العَنَتِ، وهو الزنا المتولدُ من شِدةَّ الشَّبَقِ والغُلْمَةِ (2).
- فذهب مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ إلى اشتراطهما.
ويروى عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، وجابرٍ، وعطاءٍ، وطاوسٍ، والزهريّ، والحسن، والشعبيِّ، ومكحول (3).
(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 511)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 141)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 476).
(2)
الغُلْمةُ: هيجان شهوة النكاح من المرأة والرجل وغيرهما؛ يقال: غَلِمَ غُلْمةً، واغتلم غلاماً. "اللسان" (مادة: غلم) (2/ 439).
(3)
انظر: "المدونة الكبرى" للإمام مالك (4/ 205)، و"الأم" للشافعي (5/ 10)، و"المبسوط" للسرخسي (5/ 158)، و"شرح السنة" للبغوي (9/ 63)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 104)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 479).
وانظر: "تفسير الطبري"(15/ 14)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 920)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 109)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 137 - 136).
قلت: لكن عند الحنفية يجوز مع الكراهة للحر أن يتزوج الأمة وإن كان موسراً إن =
- وذهب قومٌ إلى تأويل الطَّوْلِ هنا بالقوة والجَلَدِ، فمن أحبَّ أَمَة وهَوِيَها حتى لا يستطيعَ أن يتزوجَ غيرها، فله أن يتزوج أَمَةً، وإن وجدَ سعةً من المال، فقوله تعالى:{لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] يفسّرُ عدمَ الطَّوْلِ.
ونسب هذا التأويل إلى قَتادةَ، والنخعي، والثوريِّ (1).
وهو بمكانةٍ من البُعد والتعسُّف (2).
- وذهب قومٌ منهم ابنُ القاسم المالكي إلى عدمِ اشتراطه (3).
ولعلَّ هؤلاء رأوا هذا الشرطَ كالشرط في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فكما يجوزُ له أن ينكحَ أربعاً معَ خوفَ عدمِ العدل، كذلك يجوزُ له هنا نِكاحُ الأَمَةِ مع الطَّول (4).
* وإذا علمتَ مذهبَ الجمهورِ، فهل عدمُ الطولِ شرطٌ في استدامة النكاحِ كابتدائه، أو لا؟
= لم تكن تحته حرة. انظر: "المبسوط" للسرخسي (5/ 108)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 268).
(1)
وهو قول ربيعة. انظر: "تفسير الطبري"(5/ 16)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 110)، و "المغني" لابن قدامة (7/ 104)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 480).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 16)، و "تفسير ابن كثير"(1/ 476).
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 478)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 32).
(4)
عند الحنفية يحرم عليه الزيادة على واحدة إن خاف عدم العدل، وذهب الجمهور إلى جواز الزيادة على الواحدة وإن خاف عدم العدل. انظر:"شرح فتح القدير" لابن همام (3/ 432)، و "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 234)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 481)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 137).
اختلف فيه السلفُ.
- فذهب عطاءُ بن أبي رباح إلى عدمِ شَرْطيته (1)، فلو تزوج حرةً بعد الأمةِ، ولم تعلم الحرة بالأمة، فهو جائز ثابت، وبه قال الشافعي (2).
- وذهب النخعيُّ (3) ومسروقٌ إلى فسخِ نكاحِ الأمةِ، لأنه أبيحَ للضرورة، وقد زالت (4).
- وذهب قومٌ إلى أن للحرة الخيارَ إذا لم تعلمْ بالأمة، إما أن تقيمَ معه، أو تفارقه (5).
- وقيل: إما أن تُقِرَّ نكاحَ الأمة، أو تفسخَه.
وبه قال مالكٌ، وأحمدُ، وإسحاقُ (6).
(1) وهو قول سعيد بن المسيب، انظر:"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 129)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 478)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 110)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 106).
(2)
وهو مذهب الحنفية والحنابلة في الراجح. انظر: "مختصر الخرقي"(ص: 96)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 109)، و"الحاوي" للماوردي (9/ 242)، و"الشرح الكبير" لابن قدامة (7/ 516).
(3)
فرق النخعي بين أن يكون له منها ولد أو لا، فإن كان له منها ولد لم ينفسخ وإلا فارقها. انظر:"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 130)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 106).
(4)
وهو قول ابن عباس والشعبي. انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 442)، و"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 130)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 110)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 106).
(5)
وهو قول مالك وأحمد وإسحاق كما سيذكر.
(6)
عن الإمام أحمد روايتان؛ الراجح أنه لا ينفسخ نكاح الأمة. انظر: "الكافي"(1/ 245)، و"الاستذكار" كلاهما لابن عبد البر (5/ 478)، و"الذخيرة" للقرافي (4/ 347)، و"الشرح الكبير"(7/ 516)، "المغني" كلاهما لابن قدامة =
* وقد استنبط قومٌ من أهل العلم أنه إذا زال خوفُ العَنَتِ بنكاحِ أمةٍ واحدةٍ، فليس له نكاحُ أَمَةٍ أخرى.
وبه قال الشافعيُّ (1) وأحمدُ (2) وإسحاقُ، ويروى عن ابن عباس (3).
وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ (4)، والزهريُّ: له أن ينكحَ أربعاً (5).
* وتقييدُ الفتياتِ بالمؤمناتِ يقتضي أنه لا يجوزُ نكاحُ الأمةِ الكتابيةِ.
وبه قالَ مالكٌ، والشافعيُّ (6)(7)، والحسنُ، وسعيدٌ (8).
= (7/ 106)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 138).
(1)
لم يذكر الشافعي شرط زوال العنت، بل أطلق المسالة في عدم جواز نكاح أكثر من أمة. انظر:"الأم" للشافعي (5/ 10)، و"الحاوي" للماوردي (9/ 239).
(2)
اختلفت الرواية عن أحمد في إباحة أكثر من أمة: أحدها الجواز إن خاف العنت، وهي الراجحة. انظر:"مختصر الخرقي"(ص: 96)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 106).
(3)
انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (3/ 467)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 307)، و"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 130)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 106).
(4)
انظر: "المبسوط" للسرخسي (5/ 108)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 267).
(5)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 130)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 139)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 106).
(6)
في "ب": "الشعبي".
(7)
وبه قال الإمام أحمد. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 505)، و"روضة الطالبين" للنووي (7/ 132)، و "أحكام أهل الذمة" لابن القيم (2/ 798)، و "الحاوي" للماوردي (9/ 24).
(8)
وهو قول الزهري ومكحول والأوزاعي والليث انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر =
وقال أبو حنيفةَ: يجوز نكاحُ الأمةِ الكتابيةِ (1)؛ لأن دليلَ الخطابِ (2) عنده ليسَ بحجَّة، فلا يعارضُ عمومَ قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] إذا فسِّرَ الإحصانُ بالعِفَّةِ (3)، وإن فُسِّرَ بالحرية؛ كما هو قولُ عمرَ وابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم (4) -، فقياسُ الأمةِ على الحرة عنده إما أنه مقدَّم، على مفهوم الخطاب، وإما أن يجاب على التقييد بأجوبة تقدمَتْ عند قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221].
* ومفهومُ تقييد المُحْصَنات بالمؤمناتِ يقتضي أيضاً (5) أنه لو قَدَرَ على
= (5/ 493)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 116)، و"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (5/ 131).
(1)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 117)، و"المبسوط" للسرخسي (5/ 110).
(2)
دليل الخطاب: ويسمى مفهوم المخالفة وهو: إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. واحتج به مالك والشافعية ولم يحتج به أبو حنيفة. انظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 78)، و"الذخيرة" للقرافي (1/ 63، 102).
(3)
أي أن مفهوم المخالفة -دليل الخطاب- من قوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أن غير المؤمنة لا يجوز نكاحها، لكن هذا المفهوم يخالف عموم قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .
ورد هذا القول ابن العربي.
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 34)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 349)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 505).
(4)
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 17)، (6/ 104)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(8/ 2528)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 173).
(5)
"أيضاً" ليس في "ب".
نكاحِ حرةٍ كتابية أنه لا يحلُّ له نكاحُ الأمة (1).
وفي ذلك وجهان لأصحاب الشافعي، والصحيحُ عندهم، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، عدمُ الجواز (2)؛ لأنه لا يخاف العنتَ بنكاحِ الحرةِ الكتابية، فغلب بالقياس على المفهوم (3).
والمختار عندي الجوازُ؛ تقديماً للمفهوم المعضود من قوله تعالى:
{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] على القياس.
* ولما بينَ اللهُ سبحانه لنا حِل نِكاح الإماء، أمرنا به أيضاً فقال:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25].
فيحتمل أن يكون الأمرُ على الحَتْم؛ كما قاله أهلُ الظاهر.
ويحتمل أن يكون على الاختيار؛ كما قاله الجمهورُ (4).
(1) أي: الأمة المسلمة.
(2)
الراجح من مذهب أبي حنيفة جواز نكاح الأمة مطلقاً حتى لو وجد طول الحرة.
انظر: "العناية شرح البداية" للبابرتي (4/ 370)، و"الدر المختار"(3/ 47)، و"الفتاوى الهندية"(1/ 280)، و "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 117)، و "المبسوط" للسرخسي (5/ 110).
(3)
وفي مذهب أحمد روايتان، وكذا عن المالكية روايتان. انظر:"الحاوي" للماوردي (9/ 238)، و"الكافي" لابن قدامة (3/ 48)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 661)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 138)، و "المهذب" للشيرازي (2/ 45)، و"التاج والإكليل"(3/ 472).
وهذا القول رجحه غير واحد منهم ابن العربي وابن حزم وابن القيم. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 504)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 138)، و"أحكام أهل الذمة" لابن القيم (2/ 801)، و"المحلى"(9/ 443)، و"الإحكام" كلاهما لابن حزم (7/ 348).
(4)
صورة المسألة: أن حراً يخاف على نفسه العنت ولا يجد طولاً لنكاح حرة، فهل =
ويحتمل أن يكون على الحتم لأجل خشية العَنَت؛ كما أوجبه في هذه الحالة بعضُ متأخري المالكية، وهو في هذا المعنى أظهرُ اعتباراً بسائر الأصول، كما يجبُ عليه الأكلُ من الميتةِ عندَ خوفِ الهلاكِ، والفطرُ في رمضان، وغيرُ ذلك.
والمر اد بأهلهنَّ ساداتهن.
وقد أجمع أهل العلم على اعتبار هذا الشرط كما قدمتُه، فلا يحِلُّ نكاحُ أمةٍ إلا بإذن سيدها (1).
وكذلك أجمعوا على أن العبدَ مثلُ الأمةِ، فلا يجوزُ نكاحُه إلا بإذن سيده (2).
* وأمرنا اللهُ سبحانه بإيتاء الإماءِ أجورَهُنَّ، وظاهرُه يقتضي اختصاصَهُنَّ دون ساداتهن، وبه قال مالكٌ (3).
وقال الشافعيُّ: هو للساداتِ دُونهنَّ؛ عملًا بالقياسِ على سائر
= يجب عليه الزواج بالأمة أو يجوز؟
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 125)، و"بدائع الصنائع" للكاساني 21/ 267)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 477)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 520)، و"المغني" لابن قدامة (7/ 104)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 479).
(1)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 119)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 511).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 511)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 141).
(3)
وبه قال ابن حزم، انظر:"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 142)، و"حاشية الدسوقي"(2/ 265)، و"المحلى" لابن حزم (9/ 215).
منافعهِنَّ، وإضافته إليهنَّ لأنهنَّ المحلُّ المعوض (1).
فإن قال قائل: فما معنى الإحصان في الآية؟
قلنا: أما قوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} فالمرادُ به ناكحات غير زانيات (2).
وأما قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} فالمراد به النكاحُ على قراءة بنائه للمفعول، ويجوز أن يراد به الإسلام عندَ من فسره به.
وأما على القراءة بإطلاق الفعل للفاعل، فيحتمل النكاحَ والإسلامَ (3).
وبالنكاح فسره ابنُ عباس (4)، وبالإسلام فسره ابنُ مسعود (5) - رضي الله تعالى عنهم-.
وعن الشعبى أنه قال: إحصانُ الأمةِ دخولُها في الإسلام (6).
وعن إبراهيمَ النخعى أنه كان يقرأ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} بفتح الهمزة (7)،
(1) وهو مذهب الحنفية والحنابلة. انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 237)، و"البحر الرائق" لا بن نجيم (3/ 205)، و "الحاوي" للماوردي (9/ 78).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 19)، و "تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 992).
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 20)، و"الاستذكار" لابن عد البر (7/ 505)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 39).
(4)
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 23)، و "تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 923).
(5)
انظر: "تفسير الطبري"(5/ 23)، و "معاني القرآن" للنحاس (2/ 65).
(6)
رواه سعيد بن منصور في "سننه"(3/ 1217)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 243)، وللشعبي قول آخر في معنى الإحصان: أنه كل ذات زوج. رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(16905).
(7)
وقرأ بها ابن مسعود، والحسن، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وعاصم، وأبو بكر، وخلف. انظر:"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 407)، و"تفسير الطبري"(8/ 187)، و"التيسير" للداني (95)، و "السبعة" لابن مجاهد (231)، =
واختار الشافعيُّ تفسيرَ ابنِ مسعود، وقد قدمتُ استدلاله لذلك.
وعن يونسَ بنِ عبد الأعلى قال: قال الشافعيُّ في قوله تعالى: {(23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} : ذواتُ الأزواجِ من النساءِ، {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] مُحْصَناتٍ غيرَ مسافحاتٍ، عفائفَ غيرَ خبائثَ، {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ، قال: فإذا نكحن (1)، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] غيرِ ذواتِ الأزواج (2).
وقال في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5]: الحرائرُ من أهل الكتاب، {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، عفائفَ غير فواسقَ (3).
وحكى أيضا أبو علي الطبريُّ صاحب "الإفصاح" عن ابنِ عبد الحكمِ، عن الشافعيِّ: أنه قال: إحصانُها نكاحها (4).
* إذا تقرَّرَ هذا، فقد اتفقَ جمهورُ العلماء على أنه لا رَجْمَ على الأمةِ؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والرجمُ لا يَتَنَصَّفُ، فاختص بالجلد (5).
= و"الحجة" لأبي زرعة (198)، و"تفسير القرطبي"(5/ 143)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 224)، و"النشر في القراءات العشر" (2/ 249). وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 491)، و"معجم القراءات القرآنية"(2/ 125).
(1)
في "ب": "أنكحن".
(2)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 364).
(3)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 364).
(4)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 365).
(5)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (9/ 86)، و "المغني" لابن قدامة (9/ 42)، =
فذهب أبو ثورٍ إلى أنها إذا أحصنَتْ بالنكاح، وجبَ عليها الرجمُ كالحرِّةِ؛ قياساً على استواء الحرِّ والعبدِ في حدِّ السرقة (1).
وهذا خطأ مخالفٌ للكتابِ والسنةِ.
* وأجمعوا على أن جلدَها لا يزيدُ على خمسينَ جلدةً؛ لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2)[النساء: 25].
* واختلفوا في حقيقةِ الجلدِ.
- فقال قومٌ: لا حدَّ (3) على الأَمَة، وإنما تُحَدُّ (4) تعزيراً، ويروى عن عمرَ -رضي الله تعالى عنه (5) - (6).
قال أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِناها، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عَلَيها، ثم إنْ زَنَتْ، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن زَنَتِ الثالثةَ، فَتَبَيَّنَ زناها، فَلْيَبعْها ولو بِحَبْل مِنْ شَعرٍ"(7).
ولا يصح القولُ بهذا عن عمر؛ لما روي عن عبِد الله بِنُ عياشِ بنِ أبي ربيعة قال: أمرني عمرُ بنُ الخطابِ في فِتْيَةٍ من قريش، فجلدنا ولائِدَ
= و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 144)، و"شرح مسلم" للنووي (214/ 11).
(1)
انظر: "المحلى" لابن حزم (11/ 239)، و "المغني" لابن قدامة (9/ 42).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 507).
(3)
في "أ": "تجلد".
(4)
في "أ": "تُحَدُّ".
(5)
في "ب" زيادة: "وهذا مصادم للنص والسنة".
(6)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 506)، و"بداية المجتهد"(2/ 327).
(7)
تقدم تخريجه، وهذا لفظ الشيخين معاً.
من ولائد الإمارة خَمسينَ خَمسين في الزنا (1).
وقال كافَّةُ العلماء بوجوبِ الحَدِّ، وهو نصفُ حَدِّ الحرَّةِ؛ كما بينه اللهُ سبحانه (2).
واختلفوا في محلِّه.
فروي عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قال (3): لا يجبُ عليها الحَدُّ إلا بعدَ النكاح، وأما (4) إذا لم تنكحْ، فلا حدَّ عليها؛ لعدم الإحصان (5).
وتمسكوا بمفهوم الشرط، وانحطاطِ دَرَجةِ البِكْرِ عن درجةِ المُحْصَن في باب الحَدّ.
وبه قال طاوس وأبو عبيدةَ (6)، وهو ضعيفٌ؛ لأن المفهومَ لا يقاوم النصّ.
وقد روى أبو هريرةَ وزيدُ بنُ خالدٍ الجهني -رضي الله تعالى عنهما- قالا: سئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنتْ ولم تحصنْ (7)، قال:
(1) رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 827)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 242).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 124)، و"الحاوي" للماوردي (243/ 13)، و"المحلى" لابن حزم (11/ 162)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 478).
(3)
"قال" ليست في "ب".
(4)
في "ب": "فأما".
(5)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(13619)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(28297)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 243).
(6)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 506).
(7)
قد تقدم أنهم اختلفوا في معنى الإحصان على قولين: الزواج أو الإسلام.
"إذا (1) زَنَتْ فاجْلِدوها، ثُمَّ (2) إذا زَنَتْ فاجْلِدوها، ثم إذا (3) زَنَتْ فاجْلِدوها، ثم بِيعُوها ولو بظفر"، خَرَّجه الإمامان (4).
وبهذا الحديث قال أبو حنيفةَ والشافعيّ رحمهما الله تعالى (5).
فأوجب عليها الحدّ مطلقًا، سواءٌ أحصنت بالإسلام، أو بالنكاح، أم لم تحصنْ، وتمسَّكا بإطلاقِ هذا الحديثِ الذي تركَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم اعتبارَ الإحصانِ بعدَ أن توهَّمَهُ السائل مؤثرًا.
فإن قال قائل: فمذهبُ الشافعيِّ يخالفُ تفسيره؛ فإنه إن فسرَ إحصانَها بنكاحِها؛ كما حكاه ابنُ عبدِ الأعلى وابنُ عبد الحَكَمِ، وجب عليه أن يقولَ بسقوط الحَدِّ عنها قبلَ الإحصان؛ كما هو مذهبُ ابنِ عباسِ -رضي الله تعالى عنهما-، وإن فسره بإسلامها، وجبَ عليه أن يقولَ بسقوط الحَدِّ عنها قبلَ الإسلام، وإن كانت مزوجةَ؛ لأنه فائدة الاشتراط للإحصان، وهو لم يقل بشيء من ذلك.
قلنا: لو لم تَرِدِ السنةُ بتركِ اعتبارِ تأثير الإحصانِ في وجوبِ الحدِّ وسقوطِه، كما توهمهُ السائل مؤثراً كما هو ظاهر (6) القرآن، لقلنا بذلك،
(1) في "ب": "فإن".
(2)
في "ب": "فإن".
(3)
في "ب": "فإن".
(4)
رواه البخاري (2046)، كتاب: البيوع، باب: بيع العبد الزاني، ومسلم (1704)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود وأهل الذمة في الزنا.
(5)
وهو مذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء. انظر: "الأم" للشافعي (6/ 135)، و"الحاوي" للماوردي (13/ 243)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 49)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 144)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 214)، و"شرح فتح القدير" لابن الهمام (5/ 233).
(6)
في "أ": "لظاهر".
ولَمَّا وردتِ السنَّةُ، عملنا (1) بها، وفهمنا أن فائدةَ الاشتراطِ والتقييدِ بالإحصان إنما هو التنبيهُ على سقوطِ الرَّجْمِ عنها في أكملِ حالاتها، بخلاف الحرة، لا لمخالفة ما قبل الإحصان ما بعده، وحينئذ فيدل القرآنُ على سقوطِ الرجم عنها من وجهين:
أحدهما: نصاً، وهو هذا، إن حُمل الإحصانُ على الإسلام.
والثاني: استنباطاً، وهو عدم تصور التنصيف في الرجم، إن حُمل الإحصانُ على النكاح.
* إذا تمَّ هذا، فقد اختلفوا في قياسِ العبدِ على الأمةِ في تنصيفِ الحَدِّ، فأجازه فقهاءُ الأمصار (2)، ومنعه أهلُ الظاهر؛ لأنهم لا يقولون بالقياس (3).
* * *
(1) في "أ": "علمنا".
(2)
انظر: "الحاوي" للماوردي (13/ 243)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 327)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 49)، و"المحصول" للرازي (3/ 124)، و"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 112).
(3)
خالف ابن حزم أهل الظاهر في هذه المسألة وقال بقول الجمهور. انظر: "المحلى" لابن حزم (11/ 238 - 241). وانظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 327).