الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كتاب التوحيد]
أنواع التوحيد:
(النوع الأول) : توحيد الربوبية والملك.
الـ (كتاب) مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابة وكتبًا، ومدار المادة على الجمع. ومنه تكتب بنو فلان: إذا اجتمعوا. والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، وسمي الكتاب كتابًا لجمعه ما وضع له، ذكره غير واحد.
و (التوحيد) : مصدر وحد يوحد توحيدًا، أي: جعله واحدًا، وسمي دين الإسلام توحيدًا؛ لأن مبناه على أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له، وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء، والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله، وهي متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر، فما ذاك إلا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب. وإن شئت قلت: التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات ـ وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات ـ، وتوحيد في الطلب والقصد؛ وهو توحيد الإلهية والعبادة. ذكره شيخ الإسلام، وابن القيم وذكر معناه غيرهما.
(النوع الأول) : توحيد الربوبية والملك:
وهو: الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر، وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الإلهية، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2.وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3.وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 4. فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 5. قال مجاهد في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته، وملكه وقهره، وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعًا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك.
ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، فأنزل الله تعالى:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 6 وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب، وبعضهم يؤمن بالقدر.
كما قال زهير:
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم.
وقال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهرب
إن كان ربي في السماء قضاها.
ومثل هذا يوجد في أشعارهم، فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم، وسبي نسائهم، وإباحة أموالهم، مع هذا الإقرار والمعرفة، وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله.
1 سورة يونس آية: 31.
2 سورة الزخرف آية: 87.
3 سورة العنكبوت آية: 63.
4 سورة النمل آية: 62.
5 سورة يوسف آية: 106.
6 سورة آل عمران آية: 67.
(النوع الثاني) : توحيد الأسماء والصفات:
وهو الإقرار بأن {الله بكل شيء عليم} ، و {على كل شيء قدير} ، وأنه {الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم} ، له المشيئة النافذة، والحكمة البالغة، وأنه {سميع بصير} ، {رؤوف رحيم} ، {على العرش استوى} ، وعلى الملك احتوى، وأنه {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، [الحشر، من الآية: 23] . إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى.
وهذا أيضًا لا يكفي في حصول الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، من توحيد الربوبية والإلهية. والكفار يقرون بجنس هذا النوع، وإن كان بعضهم قد ينكر بعض ذلك، إما جهلاً، وإما عنادًا، كما قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله فيهم:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1.
قال الحافظ ابن كثير: والظاهر أن إنكارهم هذا، إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم، فإنه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن.
قال الشاعر:
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وقال الآخر:
ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وهما جاهليان.
وقال زهير:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى
ومهما يكتم الله يعلم
قلت: ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد إلا في اسم الرحمن خاصة، ولو كانوا ينكرونه لردّوا على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، كما ردّوا عليه توحيد الإلهية. فقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ} 2، لاسيما السور المكية مملوءة بهذا التوحيد.
[ (النوع الثالث) : توحيد الإلهية:]
المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده. وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها
1 سورة الرعد آية: 30.
2 سورة ص آية: 5.
وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يجعل فيها شيئًا لغيره، لا لملك مقرَّب، ولا لنبي مرسّل، فضلاً عن غيرهما. وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 2. وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 3. وقوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلمُ لَهُ سَمِيّاً} 4. وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 5. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} 6. وقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 7. وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله. فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة، والخشية، والإجلال، والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار. قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 8. فهذا أول أمر في القرآن. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 9.
فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك. وقال هود لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 10. وقال صالح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 11. وقال شعيب لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 12. وقال إبراهيم عليه السلام لقومه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 13. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 14 وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ
1 سورة الفاتحة آية: 5.
2 سورة هود آية: 123.
3 سورة التوبة آية: 129.
4 سورة مريم آية: 65.
5 سورة هود آية: 88.
6 سورة الفرقان آية: 58.
7 سورة الحجر آية: 99.
8 سورة البقرة آية: 21.
9 سورة المؤمنون 23.
10 سورة الأعراف آية: 59، و65.
11 سورة هود آية: 61.
12 سورة الأعراف آية: 59، 85.
13 سورة الأنعام آية: 79.
14 سورة الأنبياء آية: 25.
الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 2.
وقال (هرقل) لأبي سفيان ـ لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول لكم؟ ـ قال: يقول: "اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم"3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "إنك تأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله"4. وفي رواية:"أن يوحدوا الله".
وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك في الله، كما هي أقوال لِمَن لم يدر ما بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من معاني الكتاب والحكمة، فهو أول واجب وآخر واجب، وأوّل ما يدخل به الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة"5. حديث صحيح. وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"6 متفق عليه.
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح وأبدأ فيه وأعاد، وضرب لذلك الأمثال، بحيث إن كل سورة في القرآن ففيها الدلالة على هذا
التوحيد، ويسمى هذا النوع:
1-
توحيد الإلهية؛ لأنه مبني على إخلاص التأله، وهو أشد المحبة لله وحده، وذلك يستلزم إخلاص العبادة.
2-
وتوحيد العبادة لذلك.
3-
وتوحيد الإرادة، لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال.
4-
وتوحيد القصد، لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده.
5-
وتوحيد العمل، لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده. قال الله تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 7. وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 8. {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ
…
} 9،
1 سورة الزخرف آية: 45.
2 سورة الذاريات آية: 56.
3 البخاري: بدء الوحي (7) ، ومسلم 1773.
4 البخاري: الزكاة (1395)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/233)، والدارمي: الزكاة (1614) .
5 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233 ،5/247) .
6 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
7 سورة الزمر آية: 2.
8 سورة الزّمر آية: 11-12.
9 سورة الزّمر آية: 14-15.
إلى قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
…
} 1، إلى قوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ
…
} 2 الآية، إلى قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً
…
} 3، إلى قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ
…
} 4 إلى قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
…
} 5 إلى آخر سورة الزّمر.
فكل هذه السور في الدعاء إلى هذا التوحيد، والأمر به، والجواب عن الشبهات والمعارضات، وذكر ما أعد الله لأهله من النعيم المقيم، وما أعد لِمَن خالفه من العذاب الأليم. وكل سورة في القرآن بل كل آية في القرآن، فهي داعية إلى هذا التوحيد، شاهدة به، متضمنة له، لأن القرآن:
1-
إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الصفات فذاك مستلزم لهذا، متضمن له.
2-
وإما دعاء إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه أو أمر بأنواع من العبادات، ونهي عن المخالفات، فهذا هو توحيد الإلهية والعبادة، وهو مستلزم للنوعين الأولين، متضمن لهما أيضًا.
3-
وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
4-
وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بها في العقبى من الوبال، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
وهذا التوحيد هو حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن
1 سورة الزمر آية: 29.
2 سورة الزمر آية: 38.
3 سورة الزّمر آية: 43-44.
4 سورة الزمر آية: 54.
5 سورة الزّمر آية: 64-66.
لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"1. رواه البخاري ومسلم، فأخبر أن دين الإسلام مبني على هذه الأركان الخمسة وهي الأعمال، فدل على أن الإسلام هو عباد ة الله وحده لا شريك له، بفعل المأمور، وترك المحظور، والإخلاص في ذلك لله.
وقد تضمن ذلك جميع أنواع العبادة، فيجب إخلاصها لله تعالى، فَمَنْ أشرك بين الله تعالى وبين غيره في شيء فليس بمسلم.
1-
فمنها: المحبة، فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا لله، فهو مشرك
كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
…
} إلى قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2.
ومنها: التوكل، فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، قال الله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 4. والتوكل على غير الله فيما يقدر عليه شرك أصغر.
2-
ومنها: الخوف، فلا يخاف خوف السر إلا من الله. ومعنى خوف السر، هو أن يخاف العبد من غير الله تعالى أن يصيبه مكروه بمشيئته وقدرته وإن لم يباشره، فهذا شرك أكبر، لأنه اعتقادٌ للنفع والضر في غير الله. قال الله تعالى:{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 5. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 6. وقال تعالي: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 7.
3-
ومنها: الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ كمَنْ يدعو الأموات أو غيرهم راجيًا حصول مطلوبه من جهتهم فهذا شرك أكبر.
1 البخاري: الإيمان (8)، ومسلم: الإيمان (16)، والترمذي: الإيمان (2609)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) ، وأحمد (2/26 ،2/92 ،2/120 ،2/143) .
2 سورة البقرة آية: 167-167.
3 سورة المائدة آية: 23.
4 سورة آل عمران آية: 122.
5 سورة النحل آية: 51.
6 سورة المائدة آية: 44.
7 سورة يونس آية: 107.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} 1. وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجونّ عبد إلا ربَّه".
ومنها: الصلاة والركوع والسجود. قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
…
} 3.
4-
ومنها: الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله، سواء كان طلبًا للشفاعة أو غيرها من المطالب.
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 5. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 6. وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 7.
5-
ومنها: الذبح، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 8. والنسك: الذبح.
6-
ومنها: النذر، قال الله تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 9. وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 10.
7-
ومنها: الطواف، فلا يطاف إلا ببيت الله. قال الله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 11.
8-
ومنها: التوبة، فلا يتاب إلا لله. قال الله تعالى:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ} 12. وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 13.
1 سورة البقرة آية: 218.
2 سورة الكوثر آية: 2.
3 سورة الحج آية: 77.
4 سورة فاطر آية: 13-14.
5 سورة غافر آية: 60.
6 سورة يونس آية: 106.
7 سورة الزّمر آية: 43-44.
8 سورة الزّمر الأنعام آية: 162-163.
9 سورة الحج آية: 29.
10 سورة الإنسان آية: 7.
11 سورة الحج آية: 29.
12 سورة آل عمران آية: 135.
13 سورة النور آية: 31.
9-
ومنها: الاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله. قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 1. وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 2.
10-
ومنها: الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله. قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 3.
فمن أشرك بين الله تعالى وبين مخلوق ـ فيما يختص بالخالق تعالى من هذه العبادات أو غيرها ـ، فهو مشرك. وإنما ذكرنا هذه العبادات خاصة؛ لأن عباد القبور صرفوها للأموات من دون الله تعالى، أو أشركوا بين الله تعالى وبينهم فيها، وإلا فكل نوع من أنواع العبادة، مَنْ صرفه لغير الله، أو شرك ـ بين الله تعالى وبين غيره فيه ـ، فهو مشرك. قال الله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 4.
وهذا الشرك في العبادة هو الذي كفر الله به المشركين، وأباح به دماءهم وأموالهم ونساءهم، وإلا فهم يعلمون أن الله هو الخالق الرازق المدبر، ليس له شريك في ملكه، وإنما كانوا يشركون به في هذه العبادات ونحوها، وكانوا يقولون في تلبيتهم:
لبيك لا شريك لك
إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملّك
فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ـ الذي هو معنى لا إله إلا الله الذي مضمونه: أن لا يُعْبَدَ إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما ـ فقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 5.
وكانوا يجعلون {مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} ، [الأنعام، من الآية: 136] ، لله وللآلهة مثل ذلك، فإذا صار شيء من الذي لله إلى الذي للآلهة تركوه لها، وقالوا: الله غني، وإذا صار شيء من الذي للآلهة إلى الذي لله تعالى ردّوه، وقالوا: الله غني، والآلهة فقيرة
فأنزل الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ
1 سورة الفلق آية: 1.
2 سورة الناس آية: 1.
3 سورة الأنفال آية: 9.
4 سورة النساء آية: 36.
5 سورة ص آية: 5.
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1.
وهذا بعينه يفعله عباد القبور، بل يزيدون على كل ذلك فيجعلون للأموات نصيبًا من الأولاد.
إذا تبين هذا، فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، ـ وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقًا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه ـ.
القسم الأول: الشرك في الربوبية:
أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كـ:
1-
شرك فرعون. إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟
2-
ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدومًا أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، يسمونها: العقول، والنفوس.
3-
ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، كابن عربي، وابن سبعين، والعفيف التلمساني، وابن الفارض، ونحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحق، حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر.
4-
ومن هذا شرك من عطّل أسماء الرب وأوصافه، من غلاة الجهمية، والقرامطة.
النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهًا آخر ولَمْ يعطل أسماءه وصفاته
وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة.
ومن هذا شرك كثير مِمَّن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
1 سورة الأنعام آية: 136.
قلت: ويلتحق به من وجه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت، فيقضون الحاجات، ويفرجون الكربات، وينصرون من دعاهم، ويحفظون مَنْ التجأ إليهم، ولاذ بحماهم، فإنّ هذه من خصائص الربوبية، كما ذكره بعضهم في هذا النوع.
القسم الثاني: الشرك في توحيد الأسماء والصفات.
وهو أسهل مما قبله، وهو نوعان:
أحدهما: تشبيه الخالق بالمخلوق، كمَنْ يقول: يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، واستواء كاستوائي، وهو شرك المشبهة.
الثاني: اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.
قال ابن عباس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، [الأعراف، من الآية: 180] : يشركون، وعنه: سموا اللات من الإله، والعُزَّى من العزيز.
القسم الثالث: الشرك في توحيد الإلهية والعبادة.
قال القرطبي: أصل الشرك المحرَّم اعتقاد شريكٍ لله تعالى في الإلهية، وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريكٍ لله تعالى في الفعل، وهو
قول مَنْ قال: إن موجودًا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعلٍ وإيجاده وإن لم يعتقد كونَه إلهًا، هذا كلام القرطبي.
وهو نوعان:
أحدهما: أن يجعل لله ندًا يدعوه كما يدعو الله، ويسأله الشفاعة كما يسأل الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويحبه كما يحب الله، ويخشاه كما يخشى الله. وبالجملة فهو أن يجعل الله ندًا يعبده كما يعبد الله،
1 سورة الأعراف آية: 180.
وهذا هو الشرك الأكبر، وهو الذي قال الله فيه:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} 3.
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4. والآيات في النهي عن هذا الشرك وبيان بطلانه كثيرة جدًا.
الثاني: الشرك الأصغر، كيسير الرياء والتصنع للمخلوق، وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب المنْزلة والْجاه عند الخلق تارة، فله من عمله نصيب، ولغيره منه نصيب، ويتبع هذا النوعَ الشركُ بالله في الألفاظ، كالْحلفِ بغير الله وقول: ما شاء الله وشئت، ومالي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، ونحوه. وقد يكون ذلك شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. هذا حاصل كلام ابن القيم وغيره.
وقد استوفى المصنف رحمه الله بيان جنس العبادة التي يجب إخلاصها لله بالتنبيه على بعض أنواعها، وبيان ما يضادُّها من الشرك بالله تعالى في العبادات والإرادات والألفاظ، كما سيمر بك ـ إن شاء الله تعالى ـ مفصلا في هذا الكتاب، فالله تعالى يرحمه ويرضى عنه.
فإن قلت: هلا أتى المصنف رحمه الله بخطبة تنبئ عن مقصده، كما صنع غيره؟
قيل: كأنه - والله أعلم - اكتفى بدلالة الترجمة الأولى على مقصوده، فإنه صدره بقوله:(كتاب التوحيد) وبالآيات التي ذكرها وما يتبعها، مما يدل على مقصوده، فكأنه قال: قصدت جمعَ أنواع توحيد الإلهية التي وقع أكثر الناس في الإشراك فيها وهم لا يشعرون، وبيان شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك، فاكتفى
1 سورة النساء آية: 36.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة يونس آية: 18.
4 سورة السجدة آية: 4.
بالتلويح عن التصريح. والألف واللام في التوحيد للعَهْدِ الذِّهْنِي.
قوله: وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُون} 1.
يجوز في (قول الله) الرفع والجر، وهكذا حكم ما يمر بك من هذا الباب.
قال شيخ الإسلام: العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل.
وقال أيضًا: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة.
قال ابن القيم: ومدارها على خمس عشر قاعدة، من كملها كمل
مراتب العبودية، وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح.
والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح. وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي: أصل العبادة: التذلل والخضوع، وسُمِّيَتْ وظائف الشرع على المكلفين عبادات، لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى.
وقال ابن كثير [عند الفاتحة آية: 5] : العبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبَّد وغير معبَّدٍ، أي: مذلّل. وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وهكذا ذكر غيرهم من العلماء.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم، ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، بل هو الرازق ذو القوة المتين، الذي يطعم ولا يطعم، كما قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
1 سورة الذاريات آية: 56.
أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.
وعبادته هي طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام، لأن معنى الإسلام هو: الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد، في غاية الذل والخضوع.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية: إلا لآمُرَهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي.
وقال مجاهد: إلا لآمُرَهم وأنْهاهم، واختاره الزجاج وشيخ الإسلام. قال: ويدل على هذا قوله: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 2. قال الشافعي: لايؤمر ولا ينهى.
وقوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} 3، أي: لولا عبادتكم إياه.
وقد قال في القرآن في غير موضع: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} ، فقد أمرهم بما خلقوا له، وأرسل الرسل إلى الجن والإنس بذلك، وهذا المعنى هو الذي قصد الآية قطعًا، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين، ويحتجون بالآية عليه، ويقرون أن الله إنما خلقهم ليعبدوه العبادة الشرعية ـ وهي طاعته وطاعة رسله ـ، لا ليضيعوا حقه الذي خلقهم له.
قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 4. وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 5. ثم قد يطاع وقد يعصى. وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون. وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم الثاني وهو عبادته، ولكن ذكر الأول ليفعلوا هم الثاني فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم، ويحصل ما يحبه ويرضاه منهم ولهم. انتهى.
والآية دالة على وجوب اختصاص الخالق تعالى بالعبادة، لأنه سبحانه:
1-
هو ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بقدرته ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلاً، وما فعله بك لا يقدر عليه غيره، ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضر، فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره، وهو الذي يدفع الضر لا يدفعه غيره.
كما قال تعالى: {أَمَّنْ
1 سورة الأنعام آية: 14.
2 سورة القيامة آية: 36.
3 سورة الفرقان آية: 77.
4 سورة البقرة آية: 185.
5 سورة النساء آية: 64.
هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَاّ فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} 1
2-
وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تَسَمَّى به، ووصف به نفسه، إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجهٍ من الوجوه، بل هو الغني عن العالمين {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 2. فالرب سبحانه غني بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم ذاته، لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره، ففعله وإحسانه وجوده من كماله، لا يفعل شيئًا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كل ما يريد فعله فإنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، [هود: من الآية: 107، والبروج، من الآية: 16] .
وهو سبحانه {بَالِغُ أَمْرِهِ} ، [الطلاق، من الآية: 3] ، فكل ما يطلبه فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده، ولا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج في شيء من أموره إلى مُعِيْنٍ، وما له من المخلوقين {مِنْ ظَهِيرٍ} ، [سبأ، من الآية: 22] ، وليس {له ولي من الذل} ، قاله شيخ الإسلام.
الأمر بعبادة الله واجتناب عبادة الطاغوت.
قال: وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3.
قالوا: {الطاغوت} ؛ مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد. وقد فسَّره السلف ببعض أفراده. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الطاغوت: الشيطان. وقال جابر رضي الله عنه "الطواغيت: كهان كانت تنْزل عليهم الشياطين". رواهما ابن أبي حاتم. وقال مجاهد: "الطاغوت: الشيطان في صورة الإنسان، يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم". وقال مالك: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله.
قلت: وهو صحيح، لكن لا بد فيه من استثناء مَنْ لا يرضى بعبادته.
1 سورة آية: 20-21.
2 سورة النمل آية: 40.
3 سورة النحل آية: 36.
وقال ابن القيم: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم مَن يتحاكمون إلى غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله. فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.
وأما معنى الآية، فأخبر تعالى أنه بعث {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} ، أي: في كل طائفة، وقَرْنٍ من الناس {رَسُولاً} ، بهذه الكلمة:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، أي: اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، فلهذا خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 2. وهذه الآية هي معنى: لا إله إلا الله، فإنها تضمنت النفي والإثبات كما تضمنته لا إله إلا الله، ففي قوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ} الإثبات، وفي قوله:{اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} النفي. فدلت الآية على أنه لا بد في الإسلام من النفي والإثبات، فيثبت العبادة لله وحده، وينفي عبادة ما سواه، وهو التوحيد الذي تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 3. وهو معنى قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 4.
قال ابن القيم: وطريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله، ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة لا إله إلا الله. انتهى.
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة الرعد آية: 36.
3 سورة الكافرون آية: 1.
4 سورة البقرة آية: 256.
ويدخل في الكفر بالطاغوت بُغْضُهُ وكراهتُه، وعدمُ الرضى بعبادته بوجه من الوجوه.
ودلت الآية على:
1-
أن الحكمة في إرسال الرسل هو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه.
2-
وأن أصل دين الأنبياء واحد وهو الإخلاص في العبادة لله، وإن اختلفت شرائعُهم، كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 1، وأنه لا بد في الإيمان من العمل ردًا على المرجئة.
[الأمر بعبادة الله والإحسان إلى الوالدين]
قال: قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 2.
هكذا ثبت في بعض الأصول، لم يذكر الآية بكمالها. قال مجاهد:{وقضى} يعني: وصى، وكذلك قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم.
وروى ابن جرير، عن " ابن عباس في قوله:{وَقَضَى رَبُّكَ} يعني: أمر".
وقوله: {أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} 3، (أن) ، هي المصدرية وهي في محل جر بالباء، والمعنى: أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن لا يملك ضرًا ولا نفعًا، بل هو:
1-
إما فقير محتاج إلى رحمة ربه يرجوها كما ترجونها
2-
وإما جماد لا يستجيب لمن دعاه.
وقوله: {بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 4، أي: وقضى أن تحسنوا {بالوالدين إحسانًا} ، كما قضى بعبادته وحده لا شريك له. وعطف حقهما على حق الله تعالى دليل على تأكد حقهما وأنه أوجب الحقوق بعد حق الله، وهذا كثير في القرآن يقرن ببن حقه عز وجل وبين حق الوالدين، كقوله:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 5. وقال {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 6. ولم يخص تعالى نوعًا من أنواع الإحسان ليعم أنواع الإحسان.
1 سورة المائدة آية: 48.
2 سورة الإسراء آية: 23.
3 سورة يوسف آية: 40.
4 سورة البقرة آية: 83.
5 سورة لقمان آية: 14.
6 سورة البقرة آية: 83.
وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر ببر الوالدين والحث على ذلك، وتحريم عقوقهما كما في القرآن، ففي صحيح البخاري (5970) عن ابن مسعود قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله حدثني بهن ولو اسْتَزَدْتُهُ لزادني"1.
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"2. رواه البخاري (5976) ومسلم (87) .
وعن أبي هريرة قال: " قال رجل: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أبوك. أخرجاه"3.
وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضي الرب في رضي الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين "4. رواه الترمذي (1979) ، وصححه ابن حبان (429) والحاكم (4/151) .
وعن أبي أُسَيْدٍ الساعدي، قال:"بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أَبَرُّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما"5. رواه أبو داود (5142) ، وابن ماجة (3364) ، وابن حبان في صحيحه (418) .
والأحاديث في هذا كثيرة قد أفردها العلماء بالتصنيف وذكر
1 البخاري: مواقيت الصلاة (527)، ومسلم: الإيمان (85)، والترمذي: الصلاة (173) والبر والصلة (1898)، والنسائي: المواقيت (610) ، وأحمد (1/409 ،1/418 ،1/439 ،1/442 ،1/444 ،1/448 ،1/451)، والدارمي: الصلاة (1225) .
2 البخاري: الأدب (5976)، ومسلم: الإيمان (87)، والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) ، وأحمد (5/36 ،5/38) .
3 البخاري: الأدب (5971)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2548) ، وأحمد (2/327 ،2/391) .
4 الترمذي: البر والصلة (1899) .
5 أبو داود: الأدب (5142)، وابن ماجه: الأدب (3664) .
البخاري منها شطرًا صالحا في كتاب (الأدب المفرد (1-46) .
[المأمورات والمنهيات في الوصايا الواردة في سورة الأنعام]
قال المصنِّف رحمه الله وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ، [النّساء، من الآية: 36] .
قال ابن كثير: يقول الله تعالى لبنيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة، وتسويل الشيطان لهم {تَعَالَوْا} أي: هلموا وأقبلوا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ، أي: أقصص عليكم، وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا، لا تخرصا ولا ظنًا، بل وحي منه وأمر من عنده، {أَلاً تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} . قال: وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق، وتقديره: وصاكم {أن لا تشركوا به شيئًا} ، ولهذا قال في آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} .
قلت: ابتدأ تعالى هذه الآيات المحكمات بتحريم الشرك والنهي عنه، فحرم علينا أن نشرك به شيئًا، فشمل ذلك كلَّ مُشرَكٍ به، وكل مُشْرَكٍ فيه من أنواع العبادة، فإن {شيئًا} من النكرات فيعم جميع الأشياء، وما أباح تعالى لعباده أن يشركوا به شيئًا؛
1 سورة آية: 151-153.
فإن ذلك أظلم الظلم وأقبح القبيح، ولفظ (الشرك) يدل على أن المشركين كانوا يعبدون الله، ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام؛ فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بالعبادة. وكانت (لا إله إلا الله) متضمنة لهذا المعنى، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإقرار بها نطقًا وعملا واعتقادًا، ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم، قالوا: يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ، [النّساء، من الآية: 36] ، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قاله أبو سفيان.
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما و {إِحْسَانًا} نصب على المصدرية، وناصبه فعل مضمر من لفظه: تقديره: {و} أحسنوا {بالوالدين إحسانًا} .
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 1
الإملاق: الفقر، أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر. ذكره القرطبي.
وفي (الصحيحين: البخاري (4761) ، ومسلم (86"، عن ابن مسعود قال: "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل الله ندًا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي قال: أن تزاني حليلة جارك. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} ، [الفرقان: 68] ".
{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 2. قال ابن عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي: المعاصي، و {ظَهَرَ} ،
1 سورة الأنعام آية: 151.
2 سورة الأنعام آية: 151.
و {بَطَنَ} : حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء. وفي التفسير المنسوب إلى أبي علي الطبري من الحنفية، ـ وهو تفسير عظيم ـ:{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} أي: القبائح. وعن ابن عباس، والضحاك، والسدي، أن من الكفار من كان لا يرى بالزنا بأسًا إذا كان سرًا. وقيل:(الظاهر) ما بينك وبين الخلق، و (الباطن) ما بينك وبين الله. انتهى.
وفي (الصحيحين: البخاري 4634، ومسلم 2761) عن ابن مسعود مرفوعًا "لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم {الفواحش ما ظهر منها وما بطن} "1.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ} 2. قال ابن كثير: هذا مما نص تعالى على النهي عنه تأكيدًا، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش وفي (الصحيحين: البخاري 6878، مسلم 1676) ، عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"3.
وعن ابن عمر مرفوعًا: " مَنْ قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا "4. رواه البخاري (3166) .
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 5. قال ابن عطية: {ذلكم} إشارة إلى هذه المحرمات; و (الوصية) الأمر المؤكد المقرر.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، ترجٍّ بالإضافة إلينا، أي: من سمع هذه الوصية يرجى وقوع أثر العقل بعدها.
قلت: هذا غير صحيح، والصواب أن (لعل) هنا للتعليل، أي:
1 البخاري: النكاح (5220)، ومسلم: التوبة (2760)، والترمذي: الدعوات (3530) ، وأحمد (1/381 ،1/425 ،1/436)، والدارمي: النكاح (2225) .
2 سورة الأنعام آية: 151.
3 البخاري: الديات (6878)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676)، والترمذي: الديات (1402)، والنسائي: تحريم الدم (4016)، وأبو داود: الحدود (4352)، وابن ماجه: الحدود (2534) ، وأحمد (1/382 ،1/428 ،1/444 ،1/465 ،6/181)، والدارمي: الحدود (2298) والسير (2447) .
4 البخاري: الديات (6914)، والنسائي: القسامة (4750)، وابن ماجه: الديات (2686) ، وأحمد (2/186) .
5 سورة الأنعام آية: 151.
أن الله وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه، ونعمل بها، كما قال:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 1. وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولاً {تَعْقِلُونَ} ثم {تَذَكَّرُونَ} ثم {تَتَّقُونَ} ؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا، فإذا تذكروا خافوا واتقوا المهالك.
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} 2. قال ابن عطية: هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن؛ وهو التشمير والسعي في نمائه. قال مجاهد: {التي هي أحسن} : التجارة فيه، فمن كان من الناظرين، له مال يعيش به، فالأحسن إذا ثَمَّر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرهما، ومَن كان من الناظرين لا مال له، ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره، ـ وإلا دعت الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر ـ، فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف. قاله ابن زيد.
وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} . قال مالك وغيره: هو الرشد، وزوال السفه مع البلوغ. قال ابن عطية: وهو أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع.
قلت: وقد روي نحوه عن زيد بن أسلم، والشعبي، وربيعة، وغيرهم، ويدل عليه قوله تعالى،:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 3. فاشترط تعالى للدفع إليهم ثلاثة شروط:
الأول: ابتلاؤهم، وهو اختبارهم وامتحانهم بما يظهر به معرفتهم لمصالح أنفسهم وتدبير أموالهم.
والثاني: البلوغ.
والثالث: الرشد.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} 4. قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد عليه في قوله: {وَيْلٌ
1 سورة البينة آية: 5.
2 سورة الأنعام آية: 152.
3 سورة النساء آية: 6.
4 سورة الأنعام آية: 152.
لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.
وقال غيره: القسط: العدل. وقد روى الترمذي (1240)، وغيره بإسناد ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: "إنكم وليتم أمرًا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم"2. وروي عن ابن عباس موقوفًا بإسناد صحيح.
{لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} 3. قال ابن كثير: أي: مَن اجتهد في أداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده، فلا حرج عليه.
وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب مرفوعًا: " {أوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسًا إلا وسعها} قال: مَن أوفى على يده في الكيل والميزان - والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما - لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها ". قال: هذا مرسل غريب.
قلت: وفيه رد على القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 4. هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد. قال الحنفي: العدل في القول في حق الولي والعدو، لا يتغير بالرضى والغضب، بل يكون على الحق والصدق، وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب، ولا إلى القريب {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (5.
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} 6. قال ابن جرير: يقول: وبوصية الله التي وصاكم بها فأوفوا وانقادوا لذلك، بأن تطيعوه فيما أمر به ونهاكم عنه، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد الله، وكذا قال غيره.
قلت: وهو حسن، ولكن الظاهر أن الآية فيما هو أخص،
1 سورة آية: 1-6.
2 الترمذي: البيوع (1217) .
3 سورة الأنعام آية: 152.
4 سورة الأنعام آية: 152.
5 سورة المائدة آية: 8.
6 سورة الأنعام آية: 152.
كالبيعة والذمة والأمان والنذر ونحو ذلك، وهذه الآية كقوله:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 1. فهذا هو المقصود بالآية، وإن كانت شاملة، لما قالوا بطريق العموم.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2. يقول تعالى: هذا وصاكم وأمركم به وأكّد عليكم فيه {لعلكم تذكرون} ، أي: تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه.
ش: قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها الله على ما تقدم، فإنه لما نهى وأمر، حذر عن اتباع غير سبيله، وأمر فيها باتباع طريقه على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. (وأن) في موضع نصب، أي:{و} اتلوا، {أن هذا صراطي} عن الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضًا، أي: {وصاكم به
…
و} ب {أن هذا صراطي} . قال: و (الصراط) : الطريق الذي هو دين الإسلام. {مستقيمًا} ، نصب على الحال، ومعناه: مستويًا قويمًا لا اعوجاج فيه، فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، ونهايته الجنة، وتشعبت منه طرق، فمَن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 4. أي: تميل. انتهى. وروى أحمد (4143) ، والنسائي (11175) ، والدارمي (1/67) ، وابن أبي حاتم، والحاكم (2/318) ، وصححه، عن ابن مسعود قال: " خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيمًا، ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة الأنعام آية: 152.
3 سورة الأنعام آية: 153.
4 سورة الأنعام آية: 153.
وعن النواس بن سمعان مرفوعا قال: " ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداعٍ يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه.
فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم "1 رواه أحمد (17603) ، والترمذي (3031) ، والنسائي، وابن جرير وابن أبي حاتم.
وعن مجاهد في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} 2. قال: البدع والشبهات. رواه ابن جوير، وابن أبي حاتم. وهذه السبل تعم اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وعباد القبور، وسائر أهل الملل والأوثان، والبدع والضلالات من أهل الشذوذ والأهواء، والتعمق في الجدل، والخوض في الكلام، فاتباع هذه من اتباع السبل التي تذهب بالإنسان عن الصراط المستقيم إلى موافقة أصحاب الجحيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "3. وفي رواية:" كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد "4. حديث صحيح.
قال ابن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطّع والتعمّق والبدع، وعليكم بالعتيق. رواه الدارمي (1/54) .
قلت: العتيق هو القديم، يعني: ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهدي، دون ما حدث بعدهم، فالهرب الهرب، والنجاء النجاء، والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم، وهو الذي كان عليه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح، قاله القرطبي.
وقال سهل بن عبد الله التّستري: عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به
1 الترمذي: الأمثال (2859) ، وأحمد (4/182) .
2 سورة الأنعام آية: 153.
3 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240 ،6/270) .
4 مسلم: الأقضية (1718) ، وأحمد (6/256) .
في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه، وأذلوه وأهانوه.
قلت: رحم الله سهلاً ما أصدق فراسته! فلقد كان ذلك وأعظم، وهو أن يكفر الإنسان بتجريد التوحيد والمتابعة، والأمر بإخلاص العباد لله، وترك عبادة ما سواه والأمر بطاعة رسول الله وتحكيمه في الدقيق والجليل.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزًا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه، وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبوديته. ولا يشرك برسوله أحد في طاعته، فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول بعض العارفين: إن السعادة كلها والفلاح كله مجموع في شيئين: صدق محبة، وحسن معاملة. وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فأي شيء فسر به الصراط المستقيم، فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك كله، وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيَّتُها وقطب رحاها.
[الأمر بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به]
قال: وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1.
1 سورة النساء آية: 36.
هكذا أثبت في نسخة بخط شيخنا ولم يذكر الآية. قال ابن كثير: يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا من مخلوقاته.
قلت: هذا أول أمر في القرآن، وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك، كما في قوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. وتأمل كيف أمر تعالى بعبادته، أي: فعلها خالصة له، ولم يخص بذلك نوعًا من أنواع العبادة، لا دعاء ولا صلاة ولا غيرهما، ليعم جميع أنواع العبادة، ونهى عن الشرك به، ولم يحض أيضًا نوعًا من أنواع العبادة بجواز الشرك فيه.
1-
وفي هذه الآية واللواتي قبلها دليل على أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه، وإلا فكان المشركون يعبدون الله ويعبدون غيره، فأمروا بالتوحيد، وهو عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه.
2-
وفيهن دليل على أن التوحيد أول واجب على المكلف، وهو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله المستلزم لعبادته وحده لا شريك له، وأن مَن عبد غير الله بنوع من أنواع العبادة فقد أشرك، سواء كان المعبود ملكًا أو نبيًا أو صالحًا أو صنما.
قال ابن مسعود من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ {تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، [الأنعام الآيات: 151-153] .
ابن مسعود هو: عبد الله بن مسعود بن غافل ـ بمعجمة وفاء ـ ابن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين
1 سورة البقرة آية: 21.
الأولين وأهل بدر وبيعة الرضوان، ومن كبار العلماء من الصحابة، أمرّه عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين.
وهذا الأثر رواه الترمذي (3278) ، وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني (10060) بنحوه، وروى أبو عبيد وعبد بن حميد عن الربيع بن خثيم نحوه. قال بعضهم ما معناه. أي: من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها، ثم طويت فلم تغير ولم تبدل، تشبيهًا لها بالكتاب الذي كتب ثم ختم عليه فلم يزد فيه ولم ينقص، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتبها وختم عليها وأوصى بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم (1218) :" وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله "1.
قلت: وقد روى عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث، ثم تلا {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} حتى فرغ من ثلاث آيات، ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته،
ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله، إن شاء أخذه، وإن شاء عفا عنه " رواه ابن أبي حاتم، والحاكم (2/371) وصححه، فهدا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بهن، ويبالغ في الحث على العمل بهن.
[حق الله على العباد وحق العباد على الله] .
وعن معاذ بن جبل قال: " كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا. فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم فيتكلوا "2. أخرجاه في "الصحيحين".
هذا الحديث في "الصحيحين" وبعض رواياته نحو ما ذكر المصنف.
ومعاذ هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم
1 الترمذي: المناقب (3788) .
2 البخاري: الجهاد والسير (2856)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643)، وأبو داود: الجهاد (2559)، وابن ماجه: الزهد (4296) ، وأحمد (3/260 ،5/228 ،5/229 ،5/230 ،5/234 ،5/236 ،5/238 ،5/242) .
بالأحكام والقرآن رضي الله عنه، مات سنة ثمان عشرة بالشام.
قوله: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة لمعاذ من جهة ركوبه خلف النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "على حمار"، في رواية اسمه: عفير بعين مهملة مضمومة ثم فاء مفتوحة.
قال ابن الصلاح: وهو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم.
قيل: إنه مات في حجة الوداع، وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم للإرداف ولركوب الحمار، خلاف ما عليه أهل الكبر.
قوله: " أتدري ما حق الله على العباد"؟ الدراية هي المعرفة وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام، ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في فهم المتعلم، فإن الإنسان إذا سئل عن مسألة لا يعلمها، ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها، فإن ذلك أوعى لفهمها وحفظها، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم.
وحق الله على العباد، هو ما يستحقه عليهم ويجعله متحتمًا.
وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة، لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده، ووعده حق، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، [آل عمران، من الآية9، والرّعد، من الآية: 31] .
وقال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء، هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك، ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقًا زائدًا على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 1.
ولكن أهل السنة يقولون: هو الذي {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، [الأنعام، من الآية: 12] ، وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية أتباع جهم والقدرية النافية.
1 سورة الروم آية: 47.
قوله:"فقلت: الله ورسوله أعلم ". فيه حسن أدب المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين.
قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا" أي: يوحدوه بالعبادة وحده ولا يشركوا به شيئًا.
وفائدة هذه الجملة:
1-
بيان أن التجرد من الشرك لا بدّ منه في العبادة، وإلا فلا يكون العبد آتيا بعبادة الله بل مشرك، وهذا هو معنى قول المصنف: إن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه.
2-
وفيه معرفة حق الله على العباد، وهو عبادته وحده لا شريك له.
فيا مَنْ حق سيده الإقبال عليه، والتوجه بقلبه إليه، لقد صانك وشرفك عن إذلال قلبك ووجهك لغيره، فما هذه الإساءة القبيحة في معاملته مع هذا التشريف والصيانة! فهو يعظمك ويدعوك إلى الإقبال وأنت تأبى إلا مبارزته بقبائح الأفعال.
في بعض الآثار الإلهية: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي. وكيف يعبده حق عبادته مَنْ صرف سؤاله ودعاؤه وتذلله واضطراره وخوفه ورجاءه وتوكله وإنابته وذبحه ونذره لمن لا يملك لنفسه {ضَرّاً وَلا نَفْعاً} ، [الفرقان، من الآية: 3] ، ولا {مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} ، [الفرقان، من الآية: 3] ، من ميت رميم في التراب، أو بناء مشيد من القباب، فضلاً مما هو شر من ذلك.
قوله: "وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" قال الخلخالي: تقديره: أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئًا والعبادة هي
الإتيان بالأوامر، والانتهاء عن المناهي، لأن مجرد عدم الإشراك لا يقتضي نفي العذاب، وقد علم ذلك من القرآن والأحاديث الواردة في تهديد الظالمين والعصاة.
وقال الحافظ: اقتصر على نفي الإشراك، لأنه يستدعي التوحيد
بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ مَنْ كذب رسول الله، فقد كذب الله، ومَنْ كذب الله، فهو مشرك، وهو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته، أي: مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به. قلت: وسيأتي تقرير هذا في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.
قوله:"أفلا أبشر الناس"، فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره. وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار، بمثل هذا نبه عليه المصنف.
قوله: قال: " لا تبشرهم فيتكلوا"، وفي رواية:" إني أخاف أن يتكلوا"، أي: يعتمدوا على ذلك، فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة. وفي رواية: فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا، أي: تحرجًا من الإثم. قال الوزير أبو المظفر [بن هبيرة] : لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس ـ الذين إذا سمعوا بمثل هذا ازدادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة ـ فلا وجه لكتمانها عنهم. وقال الحافظ: دل هذا على أن النهي للتبشير ليس على التحريم، وإلا لما أخبر به أصلاً، أو أنه ظهر له أن المنع إنما هو من الأخبار عمومًا، فبادر قبل موته فأخبر بها خاصًا من الناس
وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم:
1-
التنبيه على عظمة حق الوالدين. 2-وتحريم عقوقهما. 3-والحث على إخلاص العبادة لله تعالى. 4- وأنها لا تنفع مع الشرك، بل لا تسمى عبادة شرعًا. 5-والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام، ذكره المصنف.
6-
وجواز كتمان العلم للمصلحة، ولا سيما أحاديث الرجاء التي إذا سمعها الجهال ازدادوا من الآثام.