الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"1.
قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشّهادة والعهد، ونحن صغار.
قلت: وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا، ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداء، لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك. وهذا هو الغالب على الأكثر، والله المستعان. فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكبر بأضعاف، فكن من الناس على حذر.
قوله:"قال إبراهيم" - هو النخعي -: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. وذلك لكثرة علم التابعين وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به.
وفي هذا الرغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
1 البخاري: المناقب (3651)، ومسلم: فضائل الصحابة (2533)، والترمذي: المناقب (3859)، وابن ماجه: الأحكام (2362) ، وأحمد (1/378 ،1/417 ،1/434 ،1/438 ،1/442 ،4/267 ،4/276 ،4/277) .
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[57- باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه]
وعن بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهما ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنْزلهم على حكم الله، فلا تنْزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري: أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ "2. رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرًا.
الثالثة: قوله:"اغزوا باسم الله في سبيل الله".
الرابعة: قوله:"قاتلوا من كفر بالله".
الخامسة: قوله:"استعن بالله وقاتلهم".
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة، بحكم لا يدري: أيوافق حكم الله أم لا؟.
قوله:"
باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله
".
وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 3.
قال العماد ابن كثير: "وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا
1 سورة النحل آية: 91.
2 مسلم: الجهاد والسير (1731)، والترمذي: الديات (1408) والسير (1617)، وأبو داود: الجهاد (2613)، وابن ماجه: الجهاد (2858) ، وأحمد (5/352 ،5/358)، والدارمي: السير (2439) .
3 سورة النحل آية: 91.
قال: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 1. ولا تعارض بين هذا وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} 2. وبين قوله {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 3، أي: لا تتركوها بلا تكفير. وبين قوله صلى الله عليه وسلم في"الصحيحين": "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها - وفي رواية - وكفرت عن يميني"4. لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 5؛ لأن هذه الأيمان المراد بها: الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في الآية: يعني: الحلف أي: حلف الجاهلية.
ويؤيده ما رواه الإمام احمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"6. وكذا رواه مسلم، ومعناه: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام حماية كفاية عما كانوا فيه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 7، تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة البقرة آية: 224.
3 سورة المائدة آية: 89.
4 البخاري: الأيمان والنذور (6680)، ومسلم: الأيمان (1649)، وابن ماجه: الكفارات (2107) ، وأحمد (4/401 ،4/404 ،4/418) .
5 سورة النحل آية: 91.
6 مسلم: فضائل الصحابة (2530)، وأبو داود: الفرائض (2925) ، وأحمد (4/83) .
7 سورة النحل آية: 91.
قوله:"عن بريدة"، هو ابن الحصيب الأسلمي. وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في"المفهم".
قوله:"قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى"، فيه من الفقه: تأمير الأمراء، ووصيتهم. قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. والجيش: ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه.
قوله:"ومن معه من المسلمين خيرًا"، أي: ووصاه بمن منهم أن يفعل معهم خيرًا; من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم.
وقوله:"اغزوا باسم الله"، أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له.
قلت: فتكون الباء في"باسم الله" هنا للاستعانة، والتوكل على الله.
قوله:"قاتلوا من كفر بالله"، هذا العموم يشمل جميع أهل
الكفر المحاربين وغيرهم، وقد خصص منهم من له عهد، والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلاً به "ولا تقتلوا وليدًا"، وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان، لأنه لا يكون منها قتال غالبًا، وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا.
قلت: وكذلك الذراري والأولاد.
قوله:"ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا"، الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد. والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة.
قوله:"وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال - أو خصال"، الرواية بأل للشك وهو من بعض الرواة، ومعنى الخلال والخصال واحد.
قوله:"فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب"أيتهن"على أن يعمل فيها"أجابوك"لا على إسقاط حرف الجر. و"ما"زائدة. ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف الجر.
قلت: فيكون في ناصب"أيتهن"وجهان: ذكرهما الشارح. الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض.
قوله:"ثم ادعهم إلى الإسلام"، كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم"ثم ادعهم"بزيادة"ثم"والصواب إسقاطها. كما روي في غير كتاب مسلم. كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد; لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال.
وقوله:"ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين"، يعني المدينة. وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة
على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم.
قوله:"فإن أبوا أن يتحولوا"، يعني: أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطى من الخمس ولا من الفيء شيئًا. وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئًا، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله. وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمهما الله بين المالين، وجوزا صرفهما للضعيف.
قوله:"فإن هم أبوا فاسألهم الجزية"، فيه حجة لمالك وأصحابه، والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر، عربيًا كان أو غيره، كتابيًا كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع، إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، عربًا كانوا أو عجمًا، وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس.
قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، وقال:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية، فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الورِق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. وقال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه الله، والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهمًا، والوسط أربعة وعشرون درهمًا، والفقير اثنا عشر درهمًا وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله:
وقاتل يهودًا والنصارى وعصبة ال
…
مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد.
على الأدون اثني عشر درهمًا افرضن
…
وأربعة منبعد عشر ينزيّد.
لأوسطهم حالاً، ومن كان موسرًا
…
ثمانية مع أربعين لتنقد
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم
…
وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومقعد
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم
…
ومن وجبت منهم عليه فيهتدي
وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين، لا ممن نأى بداره ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم.
وقوله:"وإذا حاصرت أهل حصن"، الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وهو المعروف من مذهب مالك وغيره، ووجه الاستدلال به: أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكمًا معينًا في المجتهدات، فمن وافقه فهو المصيب، ومن لم يوافقه فهو المخطئ.
قوله:"وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه
…
"، الحديث. الذمة: العهد، وتخفر: تنقض. يقال: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وخفرته: أجرته، ومعناه: أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء للعهد، كجملة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعد معتد، كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم.
قوله:"وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال"، ذكر فيه: أن مذهب مالك يجمع فيه بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال. قال: وهو أن مالكًا قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا، ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تلتمس غرتهم.
وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح، لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين، فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مميلاً لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد