الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[59-
باب لا يستشفع بالله على خلقه]
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! سبحان الله! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد" وذكر الحديث. رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال"نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيره تغيرًا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله"نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء.
ش: قوله:"باب لا يستشفع بالله على خلقه".
وذكر الحديث وسياق أبي داود في"سننه"أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك، أتدري ما الله؟ إن عرشه على سمواته لهكذا - وقال بأصابعه مثل القبة عليه - وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب"1. قال ابن بشار في حديثه: "إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته" 2.
قال الحافظ الذهبي [في العلو] : رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في"الرد على الجهمية"من حديث محمد بن إسحاق بن يسار.
قوله:"ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه"، فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى،
1 أبو داود: السنة (4726) .
2 أبو داود: السنة (4726) .
ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} ، [فاطر، من الآية: 44] . {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، [يّس: 82] . والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، ولهذا أنكر على الأعرابي.
قوله:"وسبح الله كثيرًا وعظمه"؛ لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده، وإن شأن الله أعظم من ذلك.
وفي هذا الحديث: إثبات علو الله على خلقه، وأن عرشه فوق سمواته.
وفيه: تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافًا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه، من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله، على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وتنْزيهًا بلا تعطيل.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في"مفتاح دار السعادة"- بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته - قال بعد ذلك:
"والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد، والتقديس والتكبير، والأمر ينَزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينْزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم
وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها; من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها من سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران، من الآية: 6، و18] . فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقًا لهيبته، خاشعًا لعظمته، عاليًا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله، وعجائب صنعه، فيا له من سفرٍ ما أبركَه وأروحه! وأعظم ثمرته وربحه! وأجل منفعته وأحسن عاقبته! سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب" اهـ كلامه رحمه الله.
وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصًا به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة أو العامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة:"لا تنسنا يا أخيّ من صالح دعائك"1. وأما الميت، فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي يشرع في حق الميت.
وأما دعاؤه، فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
1 الترمذي: الدعوات (3562)، وأبو داود: الصلاة (1498)، وابن ماجه: المناسك (2894) .