المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد

[سليمان بن عبد الله آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌[كتاب التوحيد]

- ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

- ‌ باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]

- ‌ باب الخوف من الشرك]

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله

- ‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

- ‌ باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]

- ‌ باب ما جاء في الرقى والتمائم]

- ‌ باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما]

- ‌[باب ما جاء في الذبح لغير الله]

- ‌ باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله]

- ‌ باب من الشرك النذر لغير الله]

- ‌[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله]

- ‌ باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

- ‌ باب الشفاعة]

- ‌[باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

- ‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب ما جاء من التغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌ باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

- ‌ باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان]

- ‌ باب ما جاء في السحر]

- ‌باب بيان شيئ من أنواع السحر

- ‌ باب ما جاء في الكهان ونحوهم]

- ‌ باب ما جاء في النشرة]

- ‌ باب ما جاء في التطير]

- ‌ باب ما جاء في التنجيم]

- ‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

- ‌باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌ باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله]

- ‌ باب ما جاء في الرياء]

- ‌ باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]

- ‌ باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِ

- ‌ باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا

- ‌ باب قول الله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله

- ‌ باب قول: ما شاء الله وشئت]

- ‌ باب من سب الدهر فقد آذى الله]

- ‌ باب التسمي بقاضي القضاة]ونحوه

- ‌باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌ باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن أو الرسول]

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي

- ‌باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

- ‌ باب لا يقال: السلام على الله]

- ‌ باب قول اللهم اغفر لي إن شئت]

- ‌ باب لا يقول: عبدى وأمتي]

- ‌ باب لا يرد من سئل بالله]

- ‌ باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة]

- ‌باب ماجاء في "لو

- ‌ باب النهي عن سب الريح]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ

- ‌ باب ما جاء في منكري القدر]

- ‌ باب ما جاء في المصورين]

- ‌ باب ما جاء في كثرة الحلف]

- ‌باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله

- ‌ باب ما جاء في الإقسام على الله]

- ‌ باب لا يستشفع بالله على خلقه]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]

- ‌باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الفصل: ‌ باب قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين

[27-‌

‌ باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

} 1

[التوكل قسمان] :

قال أبو السعادات: يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان، أي: ألجأته واعتمدت عليه فيه، ووكل فلان فلانًا: إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه انتهى.

ومراد المصنف بهذه الترجمة النص على أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى لأنه من أفضل العبادات، وأعلى مقامات التوحيد. بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين، كما تقدم في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والإسلام عند انتفائه كما في الآية المترجم لها وقوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 2. وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 3. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 4. وقوله: {أَلَاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} 5. وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} 6. وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 7. وغير ذلك من الآيات.

وفي الحديث: "مَنْ سَرَّهُ أن يكون أقوى الناس إيمانًا فليتوكل على الله" رواه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى والحاكم وفي حديث آخر "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا". رواه أحمد وابن ماجة. قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب. وقال أبو إسماعيل الأنصاري: التوكل كلة الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته.

1 سورة المائدة آية: 23.

2 سورة يونس آية: 84.

3 سورة هود آية: 123.

4 سورة المزمل آية: 9.

5 سورة الإسراء آية: 2.

6 سورة الفرقان آية: 58.

7 سورة التوبة آية: 129.

ص: 427

إذا تبين ذلك فمعنى الآية المترجم لها أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، ولا يرتدوا على أدبارهم خوفًا من الجبارين، بل يمضوا قدمًا لا يهابونهم ولا يخشونهم، متوكلين على الله في هزيمتهم، مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين.

قال ابن القيم: فجعل التوكل على الله شرطًا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه. وفي الآية الأخرى:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 1. فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2؟ فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفًا، فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد. والله تبارك وتعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية. فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منْزلته منها كمنْزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل.

قلت: وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك. قال شيخ الإسلام: وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3.

قلت: لكن التوكل على غير الله قسمان:

أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات

1 سورة يونس آية: 84.

2 سورة آل عمران آية: 122.

3 سورة الحج آية: 31.

ص: 428

والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى.

الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكل على أمير أو سلطان، فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك. فهذا نوع شرك خفي، والوكالة الجائزة هي توكل الإنسان في فعل مقدور عليه. ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله، بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الإسلام.

قال: وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

} 1 الآية.

قال ابن عباس في الآية: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

2.

فأدوا فرائضه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وهذه صفة المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه، أي: خاف من الله ففعل أوامره، وترك زواجره، فإن وجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل المأمور، وترك المحظور كما قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 3. ولهذا قال السدي في قوله: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 4. هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله فيجل قلبه. رواه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 5. قد استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان

1 سورة الأنفال آية: 2.

2 سورة الأنفال آية: 2.

3 سورة النازعات آية: 41-40.

4 سورة الأنفال آية: 2.

5 سورة الأنفال آية: 2.

ص: 429

ونقصانه. قال عمر بن حبيب [الْخُطمي] الصحابي: إن الإيمان يزيد وينقص فقيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. رواه ابن سعد. وقال مجاهد في هذه الآية: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل، رواه ابن أبي حاتم، وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم.

وقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 1، أي: يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم وحده لا شريك له، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، يعلمون أن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له.

وفي الآية وصف المؤمنين حقًّا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده.

فإن قيل: إذا كان المؤمن حقًّا هو الذي فعل المأمور وترك المحظور فلماذا لم يذكر إلا خمسة أشياء؟.قيل: لأن ما ذكر مستلزم لما ترك، فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته، مع التوكل عليه، وأقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنًا وظاهرًا، والإنفاق من المال والمنافع فكان مستلزمًا للباقي. فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه، وذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. وكذلك زيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يقتضي زيادته علمًا وعملاً، ثم لا بد من التوكل على الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ومن طاعة الله فيما يقدر عليه. وأصل ذلك الصلاة، والزكاة، فمن قام بهذه الخمس كما أُمِرَ لزم أن يأتي بسائر الواجبات، بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ذكر ذلك شيخ الإسلام.

قال: وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية2.

قال ابن القيم: أي: الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا

1 سورة الأنفال آية: 2.

2 سورة الأنفال آية: 64.

ص: 430

تحتاجون معه إلى أحد، وقيل: المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون. قال ابن القيم: وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة. قال تعالى:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 1. ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 2. ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟! وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله، فكيف يشرك بينه وبينهم في حسب رسوله صلى الله عليه وسلم؟! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل.

ونظير هذا قوله سبحانه: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 3. فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 4.

وجعل الحسب له، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال:{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 5. ولم يقل وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6. فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى انتهى كلامه.

وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة، لأن الله تعالى أخبر أنه حسب رسوله، وحسب أتباعه. أي: كافيهم وناصرهم، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، [الحج: من الآية: 78] ، وفي ضمن ذلك أمر لهم بإفراده تعالى بالحسب، استكفاء بكفايته تبارك وتعالى وذلك هو التوكل.

1 سورة الأنفال آية: 62.

2 سورة آل عمران آية: 173.

3 سورة التوبة آية: 59.

4 سورة الحشر آية: 7.

5 سورة التوبة آية: 59.

6 سورة الشرح آية: 8.

ص: 431

قال: وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1.

قال ابن القيم:"أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش. وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبدًا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء، وهو في الحقيقة إحسان إليه، وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يشتفى به منه. قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2. ولم يقل: فله كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه، وحسبه، وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن، لجعل له مخرجًا، وكفاه، ونصره، انتهى.

وفي أثر رواه أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه، قال الله عز وجل في بعض كتبه:"بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن، والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له بذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي، فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه، كفى بي لعبدي مآلاً، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه".

وفي الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع، ودفع المضار، لأن الله علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه، لأنه تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبًا له، ذكره شيخ الإسلام.

وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل، لأنه تبارك وتعالى ذكر التقوى، ثم ذكر التوكل، كما قال:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3. فجعل التقوى الذي هو قيام

1 سورة الطلاق آية: 3.

2 سورة الطلاق آية: 3.

3 سورة المائدة آية: 11.

ص: 432

بالأسباب المأمور بها، فحينئذ إذا توكل على الله، فهو حسبه، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا، ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ذكر معناه ابن القيم.

قال عن ابن عباس: قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1 قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} 2. رواه البخاري.

ش: قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا فلا نتوكل إلا عليه، كما قال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3 أي كافيه. كما قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 4.

قوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: نعم الموكل إليه المتوكل عليه; كما قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 5. فقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة التوكل على الله والالتجاء إليه، قال ابن القيم: وهو حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستجير وهو نعم المولى، ونعم النصير، فمن تولاه، واستنصر به، وتوكل عليه، وانقطع بكليته إليه، تولاه، وحفظه وحرسه، وصانه، ومن خافه، واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر، وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع.

قوله: "قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار"، وفي رواية عن " ابن عباس: قال: كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 6 ". رواه البخاري، وقد ذكر الله القصة في سورة الأنبياء [51-73] عليهم السلام.

1 سورة آل عمران آية: 173.

2 سورة آل عمران آية: 173.

3 سورة الطلاق آية: 3.

4 سورة الزمر آية: 36.

5 سورة الحج آية: 78.

6 سورة آل عمران آية: 173.

ص: 433

قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم

" إلى آخره، وذلك بعدما كان من أمر أحد ما كان. بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وحذيفة بن اليمان وعبد الله ابن مسعود، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين راكبًا حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة، ومر به ركب من عبد قيس فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نرييد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها إليه؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنَّا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقال:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1. والقصة مشهورة في السير والتفاسير.

ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد، ولهذا جاء في الحديث:"إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل". رواه ابن مردويه وأن القيام بالأسباب مع التوكل على الله لا يتنافيان، بل يجب على العبد القيام بهما، كما فعل الخليلان عليهما الصلاة والسلام، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل. قال: ما قلت؟ قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل". وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص. قال مجاهد في قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} . قال:

1 سورة آل عمران آية: 173.

ص: 434