الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يجب الإيمان به إجمالاً في الإجمالي، وتفصيلاً في التفصيلي.
قلت: قد تقدم بعض ما يتعلق بذلك في باب فضل التوحيد.
قال المصنف: وفيه تفسير لا إله إلا الله، كما ذكره البخاري في "صحيحه" يعني أن معنى لا إله إلا الله: ترك الشرك، وإفراد الله بالعبادة، والبراءة ممن عبد سواه، كما بينه الحديث، وفيه فضيلة من سلم من الشرك.
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله
…
[م5 باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله]
ش: لما بين المصنف رحمه الله الأمر الذي خلقت له الخليقة وفضله وهو التوحيد، وذكر الخوف من ضده الذي هو الشرك، وأنه يوجب لصاحبه الخلود في النار، نبّه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه كما يظن الجهال; ويقولون: اعمل بالحق واترك الناس وما يعنيك من الناس، بل يدعو إلى الله {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} والمجادلة {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، كما كان ذلك شأن المرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، وكما جرى للمصنف وأشباهه من أهل العلم والدين والصبر واليقين.
وإذا أراد الدعوة إلى ذلك، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن: لا إله إلا الله، إذ لا تصح الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد، لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصح العبادة مع الشرك، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} 1. ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أول ما يبدأ به في الدعوة.
قال: وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} 2.
ش: قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرًا له أن يخبر
1 سورة التوبة آية: 17.
2 سورة يوسف آية: 108.
الناس أن هذه سبيله، أي: طريقته وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان ـ هو وكل من اتبعه ـ يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وبرهان عقلي شرعي.
وقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ} . أي: وأنزه الله وأجل وأعظم عن أن يكون له شريك ونديد، تبارك وتعالى عن ذلك {علوًا كبيرًا} . قلت: فتبين وجه المطابقة بين الآية والترجمة. قيل: ويظهر ذلك إذا كان قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} عطفًا على الضمير في {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ، فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله تعالى، وإن كان عطفًا على الضمير المنفصل، فهو صريح في أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم، والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين، فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله.
وفي الآية مسائل نبه عليها المصنف:
منها: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيرًا ولو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه.
ومنها: أن البصيرة من الفرائض، ووجه ذلك أن اتباعه صلى الله عليه وسلم واجب، وليس اتباعه حقًا إلا
أهل البصيرة، فمن لم يكن منهم فليس من أتباعه، فتعين أن البصيرة من الفرائض.
ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنْزيه لله عز وجل عن المسبة.
ومنها: أن من أقبح الشرك كونه مسبة لله.
ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير معهم ولو لم يشرك، وكل هذه الثلاث في قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ
…
} الآية.
[وصية الرسول لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن]
قال: وعن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله"1.
وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم
1 البخاري: الزكاة (1395 ،1496) والمغازي (4347) والتوحيد (7372)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/233)، والدارمي: الزكاة (1614) .
أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة; فإن أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم: واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه.
ش: قوله: "لما بعث معاذًا إلى اليمن". قال الحافظ: كان صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف - يعني البخاري - في أواخر المغازي. وقيل: كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك. رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه. ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر. وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان. واتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها; واختلف هل كان معاذ واليًا أو قاضيًا، فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول. قلت: الظاهر أنه كان واليًا قاضيًا.
قوله: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب) .
قال القرطبي: يعني به اليهود والنصارى، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم، ويعد الأدلة لامتحانهم، لأنهم أهل علم سابق، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان.
وقال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها، ثم ذكر معنى كلام القرطبي. قلت: وفيه أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل، والتنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة في دينه، لئلا يبتلى بمن يورد عليه شبهة من علماء المشركين، ففيه التنبيه على الاحتراز من الشبه، والحرص على طلب العلم.
قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله". يجوز رفع "أول " مع نصب " شهادة " وبالعكس.
قوله: وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله"، هذه الرواية في التوحيد من " صحيح البخاري " وفي بعض الروايات: "فادعهم
إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" 1. وفي بعضها وأن محمدًا رسول الله وأكثر الروايات فيها ذكر الدعوة إلى الشهادتين.
وأشار المصنف رحمه الله بإيراد هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، إذ معناها توحيد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه. فلذلك جاء الحديث مرة بلفظ "شهادة أن لا إله إلا الله" ومرة "إلى أن يوحدوا الله". ومرة "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات"2. وذلك هو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله الذي قال الله فيه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 3.
ومعنى الكفر بالطاغوت: هو خلع الأنداد والآلهة ـ التي تدعى من دون الله ـ من القلب، وترك الشرك بها رأسًا، وبغضه وعداوته.
ومعنى الإيمان بالله: هو إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل والانقياد لأمره، وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام، المستلزم لإخلاص العبادة لله تعالى، وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع، والعمل الصالح، وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وحقيقة المعرفة بالله، وحقيقة عبادته وحده لا شريك له.
فلله ما أفقه من روى هذا الحديث بهذه الألفاظ المختلفة لفظًا المتفقة معنى! فعرفوا أن المراد من شهادة أن لا إله إلا الله هو الإقرار بها علمًا ونطقًا وعملاً، خلافًا لما يظنه بعض الجهال أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد النطق بها، أو الإقرار بوجود الله أو ملكه لكل شيء من غير شريك، فإن هذا القدر قد عرفه عباد الأوثان وأقروا به، فضلاً عن أهل الكتاب، ولو كان كذلك لم يحتاجوا إلى الدعوة إليه.
وفيه دليل على أن التوحيد ـ الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه ـ هو أول واجب، فلهذا كان أول ما
1 مسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/233)، والدارمي: الزكاة (1614) .
2 البخاري: الزكاة (1458)، ومسلم: الإيمان (19) .
3 سورة البقرة آية: 256.
دعت إليه الرسل عليهم السلام، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدو وليًا، والمباح دمه وماله معصومَ الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه، فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه، فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان، وفيه البداءة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم، واستدل به من قال من العلماء: إنه لا يشترط في صحة الإسلام النطق بالتبري من كل دين يخالف دين الإسلام، لأن اعتقاد الشهادتين يستلزم ذلك
…
، وفي ذلك تفصيل.
وفيه: أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين. قال شيخ الإسلام: فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنًا وظاهرًا عند سلف الأمة وأئمتها، وجماهير علمائها.
قلت: هذا ـ والله أعلم ـ فيمن لا يقر بهما أو بإحداهما، أما من كُفْرُهُ مع الإقرار بهما
…
ففيه بحث، والظاهر أن إسلامه هو توبته عما كفر به.
وفيه أن الإنسان قد يكون قارئًا عالمًا وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله، أو يعرفه ولا يعمل به، نبه عليه المصنف.
وقال بعضهم: هذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا، هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه.
قلت: فعلى هذا فيه استحباب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة، أما من لم تبلغه فتجب دعوته.
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة النحل آية: 36.
قوله: (فإن هم أطاعوك لذلك)، أي: شهدوا وانقادوا لذلك.
قوله: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) ، فيه أن الصلاة ـ بعد التوحيد والإقرار بالرسالة ـ أعظم الواجبات وأحبها، واستُدِلَ به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع؛ حيث دعاهم أولًا إلى التوحيد فقط، ثم دعوا إلى العمل ورتب ذلك عليها بالفاء، وأيضًا فإن قوله:"فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم"، يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لم يجب عليهم شيء.
قال النووي: وهذا الاستدلال ضعيف، فإن المراد أعلمهم بأنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا، والمطالبة في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة، قال: ثم اعلم أن المختار أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه، هذا قول المحققين والأكثرين.
قلت: ويدل عليه قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 1 الآيات.
وفيه دليل على أن الوتر ليس بفرض إذ لو كان فرضًا لكان صلاة سادسة لا سيما وهذا في آخر الأمر.
قوله: "فإن هم أطاعوك" لذلك، أي: آمنوا بأن الله افترضها عليهم وفعلوها.
قوله: "فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة، وأنها تؤخذ من الأغنياء، وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء بالذكر ـ مع أنها تدفع إلى المجاهد والعامل ونحوهما وإن كانوا أغنياء ـ؛ لأن الفقراء - والله أعلم - هم أكثر من تدفع إليهم، أو لأن حقهم آكد. وفيه أن الإمام هو الذي يتولى قبض
1 سورة المدثّر آية: 43-48.
الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرًا.
قيل: وفيه دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد. وعلى ما تقدم لا يكون فيه دليل. وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا كافر، وأن الفقير لا زكاة عليه، وأن من ملك نصابًا لا يعطى من الزكاة من حيث إنه جعل المأخوذ منه غنيًا وقابله بالفقير. ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثني، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور لعموم قوله: من أغنيائهم.
قوله: "فإياك وكرائمَ أموالهم"1 هو بنصب كرائم على التحذير، والكرائم جمع كريمة، أي: نفيسة. قال صاحب " المطالع [ابن قلقل] ". وهي جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة، أو كثرة لحم وصوف. ذكره النووي. وفيه أنه يحرم على العامل أخذ كرائم المال في الزكاة، بل يأخذ الوسط، ويحرم على صاحب المال إخراج شر المال، بل يخرج: الوسط، فإن طابت نفسه بإخراج الكريمة جاز.
قوله: "واتق دعوة المظلوم" أي: احذر دعوة المظلوم واجعل بينك وبينهم وقاية بفعل العدل وترك الظلم، لئلا يدعو عليك المظلوم. وفيه
تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم إشارة إلى أن أخذها ظلم، ذكره الحافظ.
قوله: فإنه- أي الشأن - ليس بينها وبين الله حجاب. أي: لا تحجب عن الله تعالى، بل ترفع إليه فيقبلها وإن كان عاصيًا، كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعًا:"دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه"2. وإسناده حسن، قاله
1 البخاري: الزكاة (1496)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/233)، والدارمي: الزكاة (1614) .
2 أحمد (2/367) .
الحافظ.
وقال أبو بكر بن العربي: هذا وإن كان مطلقًا، فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له [في الآخرة] أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذا كما قيد مطلق قوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 1. بقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} 2.وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل ووجوب العمل به، وأن الإمام يبعث العمال لجباية الزكاة وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله، ويعلمهم ما يحتاجون إليه، وينهاهم عن الظلم، ويعرفهم قبح عاقبته والتنبيه على التعليم بالتدريج، ذكره المصنف.
واعلم أنه لم يذكر في هذا الحديث ونحوه الصوم والحج، مع أن بعث معاذ كان في آخر الأمر كما تقدم، فأشكل ذلك على كثير من العلماء.
قال شيخ الإسلام: أجاب بعض الناس أن الرواة اختصر بعضهم الحديث وليس الأمر كذلك، فإن هذا طعن في الرواة، لأن هذا إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث عبد القيس ـ حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره ـ. فأما الحديثان المنفصلان، فليس الأمر فيهما كذلك، ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتان. ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث إنما جاء في الأحاديث المتأخرة. قلت: وهذا من الأحاديث المتأخرة ولم يذكر فيها الجواب.
الثاني: أنه كان صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة الصلاة والصيام إن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصيام، فإما أن يكون قبل فرض الحج، كما في حديث عبد القيس ونحوه، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه.
1 سورة النمل آية: 62.
2 سورة الأنعام آية: 41.
وأما الصلاة والزكاة، فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما، لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم، فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة: ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرًا، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، بخلاف الصلاة والزكاة، وهو صلى الله عليه وسلم يذكر في الإعلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها، ويصيرون مسلمين بفعلها، فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان واجبًا كما في آيتي (براءة11) فإن (براءة) نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس.
وكذلك لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصيام؛ ـ لأنه تبع وهو باطن ـ ولا ذكر الحج، لأن وجوبه خاص ليس بعام، وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة. انتهى ملخصًا بمعناه
قوله: أخرجاه، أي: أخرجه البخاري [4347] ومسلم [19] في " الصحيحين " وأخرجه أيضًا أحمد [2070] وأبو داود [1584] والترمذي [629] والنسائي [2284] وابن ماجة [1784] .
إعطاء الرسول الراية لعلي بن أبي طالب يوم خيبر.
قال: ولهما عن سهل بن سعد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله; يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم يرجو أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجَع، فأعطاه الراية. وقال: انفذ على رسلك حتى تنْزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم"1. يدوكون أي: يخوضون.
1 البخاري: الجهاد والسير (3009)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406) ، وأحمد (5/333) .
ش: قال شيخ الإسلام: هذا الحديث أصح ما روي لعلي رضي الله عنه من الفضائل أخرجاه في " الصحيحين " من غير وجه.
قوله: (عن سهل) . هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضًا. مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة.
قوله: (قال يوم خيبر)، أي: في غزوة خيبر. في " الصحيحين " واللفظ لمسلم عن سلمة بن الأكوع قال: "كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمدًا، فقال: أنا تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية، أو ليأخذن بالراية غدًا رجل يحبه الله ورسوله أو قال: يحب الله ورسوله يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي وما نرجوه. فقالوا: هذا علي: فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية، ففتح الله عليه"1. وهذا يبين أن عليًا رضي الله عنه لم يشهد أول خيبر، وأنه عليه السلام قال هذه المقالة مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها.
قوله: "لأعطين الراية". قال الحافظ في رواية بريدة: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله"2. والراية بمعنى اللواء، وهو العلم الذي يحمل في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر. وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، لكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض. ومثله عند الطبراني عن بريدة، وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو ظاهر في التغاير فلعل التفرقة بينهما عرفية.
1 البخاري: الجهاد والسير (2975)، ومسلم: فضائل الصحابة (2407) .
2 البخاري: الجهاد والسير (2975)، ومسلم: فضائل الصحابة (2407) .
قوله: "يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك، ولكن ليس هذا من خصائصه. قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصًا بعلي ولا بالأئمة، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذي يتبرؤون منه ولا يتولونه، بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج. لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرًا. وفيه إثبات صفة المحبة لله، وفيه إشارة إلى أن عليًا تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحبه الله، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق ذكره. الحافظ بمعناه.
قوله: "يفتح الله على يديه". صريح في البشارة بحصول الفتح على يديه، فكان الأمر كذلك، ففيه دليل على شهادة أن محمدًا رسول الله.
قوله: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) ، هو بنصب " ليلتهم " على الظرفية، ويدوكون. قال المصنف: يخوضون. والمراد أنهم باتوا تلك الليلة في خوض واختلاف فيمن يدفعها إليه، وفيه حرص الصحابة على الخير ومزيد اهتمامهم به، وذلك يدل على علو مراتبهم في العلم والإيمان.
قوله: أيهم يعطاها. فهو برفع " أي " على البناء.
قوله: "فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها"1. وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: "أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ".
فإن قلت: إن كانت هذه الفضيلة لعلي رضي الله عنه
1 البخاري: المناقب (3701)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406) ، وأحمد (5/333) .
ليست من خصائصه; فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك؟ قيل الجواب كما قال شيخ الإسلام أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنًا وظاهرًا، وإثبات لموالاته لله ورسوله، ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة، ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير، وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس، وعبد الله بن سلام وغيرهما، ـ وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين ـ، والشهادة لمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر. قلت: وفي هذه الجملة أيضًا حرص الصحابة على الخير.
قوله: فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ ". قال بعضهم: كأنه صلى الله عليه وسلم استبعد غيبته عن حضرته في مثل ذلك الموطن، لا سيما وقد قال:"لأعطين الراية"، إلى آخره وقد حضر الناس وكلهم طمع بأن يكون هو الذي يفوز بذلك الوعد. وفيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقده أحوالهم وسؤاله عنهم في مجامع الخير.
قوله: (فقيل له: هو يشتكي عينيه)، أي: من الرمد كما في " صحيح مسلم " عن سعد بن أبي وقاص فقال: "ادعوا لي عليًا، فأتي به أرمد فبصق في عينيه"1.
قوله: قال: "فأرسلوا إليه". بهمزة قطع، أمر من الإرسال، أمرهم بأن يرسلوا إليه فيدعوه له. ولمسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: "فأرسلني إلى علي
…
، فجئت به أقوده
…
أرمد
…
، فبصق في عينيه فبرأ".
قوله: " فبصق "، بفتح الصاد، أي: تفل.
قوله: "ودعا له فبرأ". وهو بفتح الراء والهمزة، بوزن ضرب،
1 البخاري: الجهاد والسير (2942)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406) ، وأحمد (5/333) .
ويجوز الكسر بوزن علم، أي: عوفي في الحال عافية كاملة، كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر أصلاً. وعند الطبراني من حديث علي: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية. وفيه دليل على الشهادتين.
قوله: "فأعطاه الراية". قال المصنف: فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع، ومنعها عمن سعى، وفيه التوكل على الله، والإقبال بالقلب إليه، وعدم الالتفات إلى الأسباب، وإن فعلها لا ينافي التوكل.
قوله: "وقال انفُذ على رسلك". أما " انفذ " فهو بضم الفاء، أي: امض لوجهك. ورسلك: ـ بكسر الراء وسكون السين ـ، أي: على رفقك ولينك من غير عجلة، يقال لمن يعمل الشيء برفق. وساحتهم: فناء أرضهم، وهو حواليها. وفيه الأدب عند القتال، وترك الطيش والأصوات المزعجة التي لا حاجة إليها، وفيه أمر الإمام عماله بالرفق واللين من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة كما يشير إليه قوله:"حتى تنْزل بساحتهم".
قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام"، أي: الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومن هذا الوجه طابق الحديث الترجمة.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، فأعطاه الراية. وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ فقال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"1.
1 مسلم: فضائل الصحابة (2405) .
وفيه أن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، المراد بها الدعوة إلى الإخلاص بها وترك الشرك وإلا فاليهود يقولونها، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب، فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها، واعتقاد معناها، والعمل به، وذلك هو معنى قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 1.
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} ، [الرّعد، من الآية: 36] . وذلك هو معنى قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام " الذي هو الاستسلام لله تعالى، والانقياد له بفعل التوحيد وترك الشرك. وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وتستحب دعوتهم لهذا الحديث وما في معناه، وإن كانوا لم تبلغهم وجبت دعوتهم.
وقوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه". أي.: في الإسلام، أي: إذا أجابوا إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقوقه التي لا بد من فعلها، كالصلاة، والزكاة، وهذا كقوله في حديث أبي هريرة:" فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 2 وقد فسره أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما لما قاتل أهل الردة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقال له عمر: "كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟! قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها"3.
1 سورة آل عمران آية: 64.
2 مسلم: فضائل الصحابة (2405) .
3 البخاري: الصلاة (393)، والترمذي: الإيمان (2608)، والنسائي: تحريم الدم (3966 ،3967) والإيمان وشرائعه (5003)، وأبو داود: الجهاد (2641) ، وأحمد (3/199 ،3/224) .
وحاصله أنهم إذا أجابوا إلى الإسلام الذي ـ هو التوحيد ـ فأخبرهم بما
يجب عليهم بعد ذلك من حق الله تعالى في الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه؛ فإن أجابوا إلى ذلك فقد أجابوا إلى الإسلام حقًا، وإن امتنعوا عن شيء من ذلك فالقتال باق بحاله إجماعًا. فدل على أن النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل، يدل على ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} 1 الآية، ولو كان النطق بالشهادتين عاصمًا لم يكن للتثبت معنى، يدل على ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا} ، أي: عن الشرك وفعلوا التوحيد {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 فدل على أن القتال يكون على هذه الأمور.
وفيه أن لله تعالى حقوقًا في الإسلام من لم يأت بها لم يكن مسلمًا، كإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه. وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون. وفيه تعليم الإمام أمراءه وعماله ما يحتاجون إليه.
قوله: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم"3 أن: هي المصدرية، واللام قبلها مفتوحة، لأنها لام القسم، ومدخولها مسبوك بمصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره " خير ".
وحمر بضم المهملة وسكون الميم. والنعم بفتح النون والعين المهملة. أي: خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء. قيل: المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها. وقيل تقتنيها وتملكها. قلت: هذا هو الأظهر، والأول لا دليل عليه. أي أنكم تحبون متاع الدنيا، وهذا خير منه.
قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها، وأمثالها معها.
1 سورة النساء آية: 94.
2 سورة التوبة آية: 5.
3 البخاري: الجهاد والسير (3009)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406)، وأبو داود: العلم (3661) ، وأحمد (5/333) .