الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشرق، فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من البيان لسحرًا"1. كما رواه مالك والبخاري وغيرهم.
وأما جنس البيان، فمحمود بخلاف الشعر فجنسه مذموم إلا ما كان حكمًا، ولكن لا يحمد البيان إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، أو تصوير الباطل في صورة الحق، فإذا خرج إلى هذا الحد فهو مذموم. وعلى هذا تدل الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها"2. رواه أحمد وأبو داود.
وقوله: (لقد رأيت أو لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير) . رواه أبو داود.
1 البخاري: النكاح (5146)، والترمذي: البر والصلة (2028)، وأبو داود: الأدب (5007) ، وأحمد (2/16 ،2/59 ،2/62 ،2/94)، ومالك: الجامع (1850) .
2 الترمذي: الأدب (2853)، وأبو داود: الأدب (5005) ، وأحمد (2/165 ،2/187) .
[20-
باب ما جاء في الكهان ونحوهم]
اعلم أن الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم، لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية، لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، ولم يبق من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب.
وأما ما يخبر به الجني مواليه من الإنس بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبًا فكثير جدًّا في أناس ينتسبون إلى الولاية والكشف، وهم من الكهان إخوان الشياطين لا من الأولياء.
ولما ذكر المصنف شيئًا مما يتعلق بالسحر ذكر ما جاء في الكهان ونحوهم كالعراف لمشابهة هؤلاء للسحرة.
والكهانة: ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب.
والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة، فتلقيه في أذن الكاهن، والكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب الحصى والمنجم. وقال في "المحكم": الكاهن: القاضي بالغيب.
وقال الخطابي: الكهان فيما علم بشهادة الامتحان: قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة، وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات.
] من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا] .
قال: وروى مسلم في " صحيحه " عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا"1.
ش: هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف، ولفظه: حدثنا محمد بن المثنى العنْزي، ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله - في نسخة: عبد الله - عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا وليلة"2. هكذا رواه، وليس فيه "فصدقه".
قوله: (عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . هي حفصة، على ما ذكره أبو مسعود الدمشقي، لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها وكذلك سماه بعض الرواة.
قوله: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء) . العراف سيأتي بيانه وهو من أنواع الكهان، وظاهر الحديث أن هذا الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله سواء صدقه، أو شك في خبره، لأن إتيان الكهان منهي عنه، كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي "قلت: يا رسول الله إن منا رجالاً يأتون الكهان قال: فلا تأتهم" 3. رواه مسلم. ولأنه إذا شك في خبره، فقد شك في أنه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله.
قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين يومًا) ، إذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسؤول؟ قال النووي وغيره: معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى
1 مسلم: السلام (2230) ، وأحمد (4/68 ،5/380) .
2 مسلم: السلام (2230) ، وأحمد (4/68 ،5/380) .
3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537)، والنسائي: السهو (1218)، وأبو داود: الصلاة (930) ، وأحمد (5/447) .
إعادة، ونظير هذه الصلاة في أرض مغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء، لكن لا ثواب له فيها، قاله جمهور أصحابنا. قالوا: فصلاة الفرض إذا أتى بها على وجهها الكامل، ترتب عليها شيئان: سقوط الفرض، وحصول الثواب. فإذا أداها في أرض مغصوبة، حصل له الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة فوجب تأويله، هذا كلامه. وهو مبني على الملازمة بين الإجزاء وعدم الإعادة.
والصواب أن عدم الإعادة لا يستلزم الإجزاء، لكن الصلاة في الأرض المغصوبة في إجزائها نزاع، والمشهور من مذهب أحمد أنها لا تجزئ وتجب إعادتها.
وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي: يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم على من يتعاطى شيئًا من ذلك من التعزيرات. وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور.
[من أتى كاهنًا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد]
قال: وعن أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"1. رواه أبو داود.
ش: هذا الحديث رواه أبو داود ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد. ح وحدثنا مسدد ثنا يحيى عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أتى كاهنًا قال موسى في حديثه: فصدقه بما يقول أو أتى امرأة، قال مسدد: امرأته حائضًا، أو أتى امرأة. قال مسدد: يعني: امرأته في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"، ورواه
1 الترمذي: الطهارة (135)، وأبو داود: الطب (3904)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/429 ،2/476)، والدارمي: الطهارة (1136) .
الترمذي والنسائي وابن ماجة بنحوه وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الأثرم، وضعف محمد هذا الحديث من جهة إسناده. وقال البغوي: سنده ضعيف، وقال الذهبي: ليس إسناده بالقائم.
قلت: أطال أبو الفتح اليعمري في بيان ضعفه وادعى أن متنه منكر، وأخطأ في إطلاق ذلك، فإن إتيان الكاهن له شواهد صحيحة، منها ما ذكره المصنف بعده، وكذلك إتيان المرأة في الدبر له شواهد، منها ما رواه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن طاووس "أن رجلاً سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال: تسألني عن الكفر؟ ". ومنها ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في "صحيحه". وصححه ابن حزم عن ابن عباس مرفوعًا: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر" 1.
والأحاديث في ذلك كثيرة. وغاية ما ينكر من متنه ذكر إتيان الحائض والله أعلم.
قال: وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن
…
"من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"2.
ش: هكذا بيض المصنف اسم الراوي. وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا ولفظ أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
فذكره. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري فقد روي عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة، حديث "أن موسى كان رجلاً حييا
…
" الحديث. قال العراقي في أماليه: حديث صحيح. وقال الذهبي: إسناده قوي. وعلى هذا فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك، فإنه لم يروه أحد منهم، وأظنه تبع في ذلك الحافظ، فإنه عزاه في "الفتح" إلى أصحاب السنن والحاكم فوهم، ولعله أراد الذي قبله.
قوله: "من أتى كاهنًا
…
" 3 إلى آخره. قال بعضهم: لا تعارض
1 الترمذي: الرضاع (1166) .
2 سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها (639)، وسنن الدارمي: كتاب الطهارة (1136) .
3 الترمذي: الطهارة (135)، وأبو داود: الطب (3904)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/429 ،2/476)، والدارمي: الطهارة (1136) .
بين هذا الخبر، وبين حديث:"من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"1. إذ الغرض في هذا الحديث أنه سأله معتقدًا صدقه وأنه يعلم الغيب فإنه يكفر، فإن اعتقد أن الجن تلقي إليه ما سمعته من الملائكة، أو أنه بإلهام فصدقه من هذه الجهة لا يكفر كذا قال، وفيه نظر. وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، لاعتقاده أنه يعلم الغيب، وسواء كان ذلك من قِبَل الشياطين، أو من قِبَل الإلهام لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين. وفي حديث رواه الطبراني عن واثلة مرفوعًا:"من أتى كاهنًا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال كفر". قال المنذري: ضعيف. فهذا - لو ثبت - نص في المسألة لكن ما تقدم من الأحاديث يشهد له، فإن الحديث الذي فيه الوعيد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه والأحاديث التي فيها إطلاق الكفر مقيدة بتصديقه.
قوله: "فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". قال الطيبي: المراد بالمنزل الكتاب والسنة، أي: من ارتكب هذه فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وسلم وما أُنزل عليه انتهى. وهل الكفر في هذا الموضوع كفر دون كفر أو يجب التوقف؟ فلا يقال: ينقل عن الملة. ذكروا فيها روايتين عن أحمد وقيل: هذا على التشديد والتأكيد، أي: قارب الكفر والمراد كفر النعمة، وهذان القولان باطلان.
قال: ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفًا.
ش: أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف ك: "المسند" وغيره روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق وكان من الأئمة الحفاظ مات سنة سبع وثلاثمائة. وهذا الأثر رواه البزار أيضًا وإسناده على شرط مسلم ولفظه: "من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"2. وفيه دليل على كفر
1 مسلم: السلام (2230) ، وأحمد (4/68 ،5/380) .
2 الترمذي: الطهارة (135)، وأبو داود: الطب (3904)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/408 ،2/429 ،2/476)، والدارمي: الطهارة (1136) .
الكاهن والساحر والمصدق لهما، لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضًا.
قال: وعن عمران بن الحصين مرفوعًا "ليس منا من تطير أو تطير له، [أو تكهن] أو تكهن له، [أو سحر] أو سحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". رواه البزار بإسناد جيد.
ورواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى
…
) إلى آخره.
ش: هذا الحديث رواه الطبراني كما قال "المصنف" في "الأوسط" قال المنذري: إسناد الطبراني حسن وإسناد البزار جيد.
قوله: (ليس منا) أي: ليس يفعل ذلك من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا المقتفين لشرعنا.
قوله: (من تطير) أي: فعل الطيرة أو تطير له، أي: أمر من يتطير له، وكذلك معنى تكهن أو تكهن له [أو سحر] أو سحر له.
قوله: (رواه البزار) . اسمه أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار البصري صاحب "المسند الكبير" الذي عزا إليه المصنف، روى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق. قال الدارقطني: ثقة يخطئ ويتكل على حفظه مات سنة اثنين وتسعين ومائتين.
[تعريف الكاهن والعراف]
قوله: قال البغوي [في شرح السّنة 3259] : "العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وقال أبو العباس ابن تيمية: "العرّاف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق".
ش: البغوى بفتحتين اسمه الحسين بن مسعود بن الفراء
المعروف بمحيي السنة الشافعي صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان وكان ثقة فقيهًا زاهدًا مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة.
قوله: (العراف الذي يدعي معرفة الأمور
…
) إلى آخره. هذا تفسير حسن وظاهره يقتضي أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالمسروق والضالة، وأحسن منه كلام شيخ الإسلام: أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف. وقال أيضًا:"والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو في معناه". وقال أيضًا: "والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين من جنس الكاهن وأسوء حالاً منه، فيلحق به من جهة المعنى"، وقال الإمام أحمد:"العراف طرف من السحر والساحر أخبث". وقال أبو السعادات: "العراف المنجم والحازر الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به".
وقال ابن القيم: "من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفًا وعرافًا. والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف. ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر ونحو هذا من علوم الجاهلية. ونعني بالجاهلية: كل من ليس من أتباع الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فإن هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنًا أو عرافًا أو في معناهما فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد.
وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة، ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي لله ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسبابًا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان:"فيكذبون معها مائة كذبة"1. فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه، لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 2. وليس هذا من شأن الأولياء، بل شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم.
فكيف يأتون الناس يقولون: اعرفوا أنا أولياء، وأنا نعلم الغيب. وفي ضمن ذلك طلب المنْزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور؟! وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟! لا والله. بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق. وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعوده الناس، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفًا من النار، ثم يقوم إلى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد [20، 22، 28] ، والمؤمنين [1، 9، 57، 61] ، والفرقان [63، 74] ، والذاريات [16، 19] ، والطور [26، 28] ، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء لا أهل الدعوى
1 البخاري: بدء الخلق (3210)، ومسلم: السلام (2228) ، وأحمد (6/87) .
2 سورة النجم آية: 32.
والكذب، ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة، وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك وليًّا لله؟! ولقد عظم الضرر، واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش البصائر. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة".
فإن قلت: كيف يكون علم الخط من الكهانة؟ وقد روى أحمد ومسلم عن "معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا رجال يخطون فقال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك"1.
قلت: قال النووي: "معناه أن من وافق خطه، فهو مباح له، لكن لا طريق لنا إلى العلم باليقين بالموافقة، فلا يباح. والقصد أنه لا يباح إلا بيقين الموافقة وليس لنا يقين". وقال غيره: "المراد به النهي عنه والزجر عن تعاطيه، لأن خط ذلك النبي كان معجزة وعَلَمًا لنبوته، وقد انقطعت نبوته ولم يقل: فذلك الخط حرام دفعًا لتوهم أن خط ذلك النبي حرام".
قلت: ويحتمل أن المعنى أن سبب إصابة صاحب الخط هو موافقته لخط ذلك النبي، فمن وافق خطه أصاب. وإذا كان كذلك وكانت الإصابة نادرة بالنسبة إلى الخط، ولا طريق إلى اليقين بالموافقة صار ذلك بالنسبة إلى من يتعاطاه من أنواع الكهانة لمشاركته لها في المعنى إذا علمت ذلك، فاعلم أن مذهب الإمام أحمد أن حكم الكاهن والعراف الاستتابة، فإن تابا وإلا قتلا. ذكره غير واحد من الأصحاب.
فأما المعزم الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه، والذي يحل السحر، فقال في "الكافي" ذكرهما أصحابنا في السحرة الذين ذكرنا حكمهم. وقد توقف أحمد لما سئل عن الرجل يحل السحر، فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟!. قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل؟ قال: ما أدري
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537)، وأبو داود: الطب (3909) ، وأحمد (5/448) .
ما هذا؟!. قال: وهذا يدل على أنه لا يكفر صاحبه، ولا يقتل.
قلت: إن كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك والتقرب إلى الجن، فإنه يكفر ويقتل، ونص أحمد لا يدل على أنه لا يكفر، فإنه قد يقول مثل هذا في الحرام البين.
قوله: وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم: ما أَُرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
ش: هذا الأثر ذكره المصنف عن ابن عباس، ولم يعزه، وقد رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا، وإسناده ضعيف، ولفظه:"رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله من خلاق يوم القيامة". ورواه أيضًا حميد بن زنجويه عنه بلفظ "رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق".
قوله: (ما أَُرى) . يجوز فتح الهمزة من "أرى" بمعنى: لا أعلم له عند الله من خلاق، أي: من نصيب، ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن ذلك لاشتغاله بما فيه من اقتحام الخطر والجهالة وادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به، وكتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها معرفة علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف. ولبعض المبتدعة فيه مصنف، فأما تعليمها للتهجي وحساب الجمل، فلا بأس بذلك.
قوله: (وينظرون في النجوم) . هذا محمول على علم التأثير لا التسيير، كما سيجيء في باب التنجيم، وفيه عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 1.
1 سورة غافر آية: 83.