المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب ما جاء في المصورين] - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد

[سليمان بن عبد الله آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌[كتاب التوحيد]

- ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

- ‌ باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]

- ‌ باب الخوف من الشرك]

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله

- ‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

- ‌ باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]

- ‌ باب ما جاء في الرقى والتمائم]

- ‌ باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما]

- ‌[باب ما جاء في الذبح لغير الله]

- ‌ باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله]

- ‌ باب من الشرك النذر لغير الله]

- ‌[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله]

- ‌ باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

- ‌ باب الشفاعة]

- ‌[باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

- ‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب ما جاء من التغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌ باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

- ‌ باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان]

- ‌ باب ما جاء في السحر]

- ‌باب بيان شيئ من أنواع السحر

- ‌ باب ما جاء في الكهان ونحوهم]

- ‌ باب ما جاء في النشرة]

- ‌ باب ما جاء في التطير]

- ‌ باب ما جاء في التنجيم]

- ‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

- ‌باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌ باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله]

- ‌ باب ما جاء في الرياء]

- ‌ باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]

- ‌ باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِ

- ‌ باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا

- ‌ باب قول الله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله

- ‌ باب قول: ما شاء الله وشئت]

- ‌ باب من سب الدهر فقد آذى الله]

- ‌ باب التسمي بقاضي القضاة]ونحوه

- ‌باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌ باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن أو الرسول]

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي

- ‌باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

- ‌ باب لا يقال: السلام على الله]

- ‌ باب قول اللهم اغفر لي إن شئت]

- ‌ باب لا يقول: عبدى وأمتي]

- ‌ باب لا يرد من سئل بالله]

- ‌ باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة]

- ‌باب ماجاء في "لو

- ‌ باب النهي عن سب الريح]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ

- ‌ باب ما جاء في منكري القدر]

- ‌ باب ما جاء في المصورين]

- ‌ باب ما جاء في كثرة الحلف]

- ‌باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله

- ‌ باب ما جاء في الإقسام على الله]

- ‌ باب لا يستشفع بالله على خلقه]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]

- ‌باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الفصل: ‌ باب ما جاء في المصورين]

[55-‌

‌ باب ما جاء في المصورين]

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة"1. أخرجاه.

ولهما عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله"2.

ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم"3.

ولهما عنه مرفوعًا "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ"4.

ولمسلم عن"أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته" 5.

فيه مسائل:

الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.

الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله، لقوله:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي".

الثالثة: التنبيه على قدرته، وعجزهم، لقوله:"فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة".

الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابًا.

الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسًا يعذب بها المصور في جهنم.

السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.

السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.

ش: قوله: باب ما جاء في المصورين.

أي: من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة، وهي المضاهاة بخلق الله، لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال الله تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} 6. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهيًا لخلق الله، فصار ما صور عذابًا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ. فكان أشد الناس عذابًا، لأن ذنبه من أكبر الذنوب.

1 البخاري: التوحيد (7559)، ومسلم: اللباس والزينة (2111) ، وأحمد (2/232 ،2/259 ،2/391 ،2/451 ،2/527) .

2 البخاري: اللباس (5954) .

3 مسلم: اللباس والزينة (2110) .

4 البخاري: البيوع (2225) والتعبير (7042)، ومسلم: اللباس والزينة (2110)، والترمذي: اللباس (1751)، والنسائي: الزينة (5358 ،5359)، وأبو داود: الأدب (5024) ، وأحمد (1/216 ،1/241 ،1/246 ،1/308 ،1/350 ،1/359 ،1/360) .

5 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96) .

6 سورة السجدة آية: 7- 9.

ص: 609

فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه، وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟!

فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكًا له فيما اختص به تعالى وتقدس، هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به. ولهذا أرسل رسله، وأنزل كتبه، لبيان هذا الشرك والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى. فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2.

قال المصنف رحمه الله تعالى: ولمسلم (969) عن أبي الهياج، قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "ألاّ تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته".

قوله:"ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي" - حيان بن حصين -.

قال: قال لي علي رضي الله عنه. هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قوله:"ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".

فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًّا لذلك. أما الصور: فلمضاهاتها لخلق الله، وأما تسوية القبور، فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته.

ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت

1 سورة النساء آية: 48.

2 سورة الحج آية: 31.

ص: 610

الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطًا لرحال العابدين المعظمين لها، فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور، وغير ذلك من كل شرك محرّم محظور.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادًا للآخر، مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا.

فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا، ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.

وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في"صحيحه"عن أبي الهياج الأسدي

- فذكر حديث الباب - وحديث ثمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضًا قال:"كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها" 1. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، يرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في"صحيحه"عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه ونهى عن الكتابة عليها" 2.

كما روى أبو داود في"سننه"عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها"3. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير

1 مسلم: الجنائز (968)، والنسائي: الجنائز (2030)، وأبو داود: الجنائز (3219) ، وأحمد (6/18 ،6/21) .

2 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027 ،2028 ،2029)، وأبو داود: الجنائز (3225)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562) ، وأحمد (3/295 ،3/332 ،3/339 ،3/399) .

3 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2028 ،2029)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ،1563) ، وأحمد (3/295 ،3/332 ،3/339) .

ص: 611

ترابها؛ كما روى أبو داود عن جابر أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه"1. وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.

والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعيادًا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي:"ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام". قال: "ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا" 2. متفق عليه. ولأن تجصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى.

وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه"مناسك حج المشاهد"، مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه.

ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره. فمنها:

تعظيم الموقع في الافتتان بها.

ومنها: اتخاذها أعيادًا.

ومنها: السفر

1 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027)، وأبو داود: الجنائز (3225)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ،1563) ، وأحمد (3/295 ،3/332 ،3/339) .

2 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/146 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .

ص: 612

إليها.

ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسندانتها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها.

ومنها: النذر لها ولسدنتها.

ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنْزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك.

ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها.

ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.

ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما قال تغالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 1. وقال الله تعالى للمشركين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ

} 3.وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 4.

ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع.

ومنها: تفضيلها على خير

1 سورة الفرقان آية: 17-18.

2 سورة الفرقان آية: 19.

3 سورة المائدة آية: 116.

4 سورة سبأ آية: 40-41.

ص: 613

البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام، والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبًا منه.

ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنْزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدًّا للذريعة. فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجرًا، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً. وفي"صحيح مسلم"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت"1. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه. فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر" 2. رواه أحمد والترمذي وحسنه.

فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها. هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، أعرضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.

1 مسلم: الجنائز (976)، والنسائي: الجنائز (2034)، وأبو داود: الجنائز (3234)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1569 ،1572) ، وأحمد (2/441) .

2 الترمذي: الجنائز (1053) .

ص: 614

ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا. ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره مرفوعاً:"الدعاء هو العبادة"1. فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم.

وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. وإسناده جيد، ورواته ثقات مشاهير.

وقوله: "ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا"3. أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت، ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إن في تعظيم القبور، واتخاذها أعيادًا، من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.

فمن المفاسد: اتخاذها أعيادًا والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.

فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار

1 الترمذي: تفسير القرآن (2969 ،3247) والدعوات (3372)، وأبو داود: الصلاة (1479)، وابن ماجه: الدعاء (3828) ، وأحمد (4/267) .

2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/284 ،2/337 ،2/367 ،2/378 ،2/388) .

ص: 615

والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ما لم يحرزه من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعًا سجدًا، يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانًا. فلغير الله - بل للشيطان - ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضًا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام. فيقول: لا ولا بحجك كل عام!!

هذا، ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم.

وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما

ص: 616