الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجب؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرًا فيتسلسل الأمر، فسدَّ الباب بقوله ذلك، وهذا أولى من قول من قال: كان منافقًا لوجهين:
أحدهما: أن الأصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح.
والثاني: أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح، ويقين بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وكيف يصدر ذلك من منافق؟!
قلت: هذا أولى ما قيل في تأويله، وإليه مال شيخ الإسلام. قال المصنف: وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
[م4
باب الخوف من الشرك]
ش: لما كان الشرك أعظم ذنب عُصِيَ الله به، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه; نبه المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه، ولهذا قال حذيفة:"كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن أقع فيه". رواه البخاري. وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكره كما ينكره الذي عرفه، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ".
قال شيخ الإسلام: وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف، فلم يعرف غيره، فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند مَنْ عَلِمَهُ، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم; ولهذا يوجد [في] الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز
عنه والجهاد لهم ما ليس عند غيره، ولهذا كان الصحابة أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح، وقُبْح حال الكفر والمعاصي.
قال: وقول الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1.
قال ابن كثير: أخبر تعالى أنه {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، أي:{لا يَغْفِرُ} لعبد لقيه وهو مشرك به، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ، أي: من الذنوب {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} من عباده.
قلت: فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره، أي: إلا بالتوبة منه، وما عداه، فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة وإن شاء عذب به. وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله، وإنما كان كذلك؟ 1-لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به كما قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2. 2-ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر منافٍ له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك. فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله" 3 رواه مسلم.
ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق ـ تعالى وتقدس ـ في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده. فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه {ضرًا ولا نفعًا ولا
…
موتًا ولا حياة ولا نشورًا} [الفرقان]_ فضلاً عن غيره ـ شبيهًا بمن {لَهُ الْخَلْقُ}
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة الأنعام آية: 1.
3 مسلم: الإيمان (148)، والترمذي: الفتن (2207) ، وأحمد (3/107 ،3/201 ،3/259) .
كله، {وَلَهُ الْمُلْكُ} كله وبيده الخير كله، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} . فَأَزِمَّة الأمور كلها بيديه سبحانه، ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس {رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات القادر الغني بالذات، ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستعانة وغاية الحب مع غاية الذل، كل ذلك يجب عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره، فمن فعل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، فهذا معنى كلام ابن القيم.
وفي الآية رد على الخوارج المكفِّرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد، ولا يخرجون منها، وهم أصحاب المنْزلة بين المنْزلتين. ووجه ذلك أن الله تعالى جعل مغفرة ما دون الشرك معلقة بالمشيئة، ولا يجوز أن يحمل هذا على التأكيد، فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره. كما قال تعالى في الآية الأخرى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 1. فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به ما لم يتب. قاله شيخ الإسلام.
قوله: وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 2.
(الصنم) : ما كان منحوتًا على صورة البشر. والوثن: ما كان منحوتًا على غير ذلك. ذكره الطبري عن مجاهد. والظاهر أن الصنم ما كان مصورًا على أي صورة، والوثن بخلافه كالحجر والبينة، وإن
1 سورة الزمر آية: 53.
2 سورة إبراهيم آية: 35.
كان الوثن قد يطلق على الصنم، ذكر معناه غير واحد، ويروى عن بعض السلف ما يدل عليه. وقوله:{وَاجْنُبْنِي} ، أي: اجعلني {وَبَنِيَّ} في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيني وبينها. قيل: وأراد بذلك بنيه وبناته من صلبه، ولم يذكر البنات لدخولهم تبعا في البنين، وقد استجاب الله دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام، وإنما دعا إبراهيم عليه السلام بذلك، لأن كثيرًا من الناس افتتنوا بها، كما قال:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. فخاف من ذلك ودعا الله أن يعافيه وبنيه من عبادتها، فإذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره؟ كما قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن من البلاء بعد إبراهيم؟! رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك، لا كما يقول الجهال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه، وهذا وجه مناسبة الآية للترجمة.
[بيان أن الرياء من الشرك الأصغر]
قال: وفي الحديث "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء"2.
ش: هكذا أورد المصنف هذا الحديث مختصرًا غير معزوّ، وقد رواه الإمام أحمد والطبراني، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في " الزهد" ; وهذا لفظ أحمد قال: حدثنا يونس، ثنا ليث عن يزيد، يعني ابن الهاد، عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء"3.
قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى. وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة. قال: وقال أبي: لا تعرف له صحبة، ورجح ابن عبد البر والحافظ أن له صحبة وقال: جل روايته عن الصحابة. وقد
1 سورة إبراهيم آية: 36.
2 أحمد (5/428) .
3 أحمد (5/428) .
رواه الطبراني بإسناد جيد عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج.
وقيل: إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع. مات محمود سنة ست وتسعين. وقيل: سنة سبع، وله تسع وتسعون سنة. قوله:"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"1. هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم لأمته وشفقته عليهم، وتحذيره مما يخاف عليهم، فإنه ما من خير إلا دلهم عليه وأمر به، وما من شر إلا وأخبرهم به وحذرهم عنه. كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"2. ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنْزلة في قلوب الخلق إلا من سلم الله، كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين، لقوة الداعي إلى ذلك، والمعصوم مَنْ عَصَمَهُ الله، وهذا بخلاف الداعي إلى الشرك الأكبر، فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين، ولهذا يكون. الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر. وإما ضعيف، هذا مع العافية، وإما مع البلاء، ف {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . فلذلك صار خوفه صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء أشد لقوة الداعي وكثرته، دون الشرك الأكبر لما تقدم، مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته، فدل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر، إذا كان الأصغر مخوفًا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم، فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر لنقصان إيمانه ومعرفته بالله، فهذا وجه إيراد المصنف له هنا مع أن الترجمة تشمل النوعين.
قال المصنف: وفيه أن الرياء من الشرك، وأنه من الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين، وفيه قرب الجنة والنار، والجمع بين قربهما في حديث واحد على عمل واحد متقارب في الصورة.
1 أحمد (5/428) .
2 مسلم: الإمارة (1844)، والنسائي: البيعة (4191)، وابن ماجه: الفتن (3956) ، وأحمد (2/191) .
قال: وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار"1. رواه البخاري.
ش: قال ابن القيم: (الند) : الشبه، يقال: فلان ند فلان ونديده، أي: مثله وشبهه انتهى. وهذا كما قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. وقال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 3.
أي: من مات وهو يدع لله ندًا، أي: يجعل لله ندًا فيما يختص به تعالى ويستحقه من الربوبية والإلهية، دخل النار، لأنه مشرك، فإن الله تعالى هو المستحق للعبادة لذاته، لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر إليه، مقهور بالعبودية له، تجري عليه أقداره وأحكامه {طوعًا وكرهًا} ، فكيف يصلح أن يكون ندًا؟ قال الله تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} 4. وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} 5. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 6. فبطل أن يكون له نديد من خلقه، تعالى عن ذلك {علوًا كبيرًا} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 7.
واعلم أن دعاء الند على قسمين: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو الشرك الأكبر. والأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك. فقد ثبت "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده" 8. رواه أحمد وابن أبي شيبة، والبخاري في " الأدب المفرد " والنسائي، وابن ماجة، وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد.
1 البخاري: تفسير القرآن (4497) ، وأحمد (1/374 ،1/402 ،1/407 ،1/462 ،1/464) .
2 سورة البقرة آية: 22.
3 سورة الزمر آية: 8.
4 سورة الزخرف آية: 15.
5 سورة مريم آية: 93-95.
6 سورة فاطر آية: 15.
7 سورة المؤمنون آية: 91-92.
8 أحمد (1/214) .
[من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار]
قال: ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار"1.
ش: جابر: هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام ـ بمهملتين ـ الأنصاري ثم السلمي بفتحتين، صحابي جليل مكثر، ابن صحابي، له ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما. مات بالمدينة بعد السبعين، ـ وقد كف بصره ـ وله أربع وتسعون سنة.
قوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا". قال القرطبي: أي: من لم يتخذ معه شريكًا في الإلهية ولا في الخلق، ولا في العبادة. ومن المعلوم ـ من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة ـ أن من مات على ذلك، فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة، وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد، وهذا معلوم ضروري من الدين، مجمع عليه بين المسلمين.
وقال النووي: أما دخول المشرك إلى النار، فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة، فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًا عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرًا عليها، فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخل الجنة أولاً، وإلا عذب في النار ثم أخرج فيدخل الجنة.
وقال غيره: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسل الله، فقد كذب الله، ومن كذب الله، فهو مشرك، وهو قولك: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط، فالمراد من مات حال كونه مؤمنًا بجميع
1 مسلم: الإيمان (93) ، وأحمد (3/374) .