المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء] - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد

[سليمان بن عبد الله آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌[كتاب التوحيد]

- ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

- ‌ باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]

- ‌ باب الخوف من الشرك]

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله

- ‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

- ‌ باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]

- ‌ باب ما جاء في الرقى والتمائم]

- ‌ باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما]

- ‌[باب ما جاء في الذبح لغير الله]

- ‌ باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله]

- ‌ باب من الشرك النذر لغير الله]

- ‌[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله]

- ‌ باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

- ‌ باب الشفاعة]

- ‌[باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

- ‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب ما جاء من التغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌ باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

- ‌ باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان]

- ‌ باب ما جاء في السحر]

- ‌باب بيان شيئ من أنواع السحر

- ‌ باب ما جاء في الكهان ونحوهم]

- ‌ باب ما جاء في النشرة]

- ‌ باب ما جاء في التطير]

- ‌ باب ما جاء في التنجيم]

- ‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

- ‌باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌ باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله]

- ‌ باب ما جاء في الرياء]

- ‌ باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]

- ‌ باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِ

- ‌ باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا

- ‌ باب قول الله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله

- ‌ باب قول: ما شاء الله وشئت]

- ‌ باب من سب الدهر فقد آذى الله]

- ‌ باب التسمي بقاضي القضاة]ونحوه

- ‌باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌ باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن أو الرسول]

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي

- ‌باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

- ‌ باب لا يقال: السلام على الله]

- ‌ باب قول اللهم اغفر لي إن شئت]

- ‌ باب لا يقول: عبدى وأمتي]

- ‌ باب لا يرد من سئل بالله]

- ‌ باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة]

- ‌باب ماجاء في "لو

- ‌ باب النهي عن سب الريح]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ

- ‌ باب ما جاء في منكري القدر]

- ‌ باب ما جاء في المصورين]

- ‌ باب ما جاء في كثرة الحلف]

- ‌باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله

- ‌ باب ما جاء في الإقسام على الله]

- ‌ باب لا يستشفع بالله على خلقه]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]

- ‌باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الفصل: ‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

الموحدين من النار ودخولهم الجنة، وحمله أكثر الشراح على من فعل ذلك مستحلاً، أو على معنى أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إن لم يتوبوا والله أعلم.

قوله: (مدمن الخمر)، أي: المداوم على شربها.

قوله: (وقاطع الرحم) . أي: القرابة كما قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} 1.

قوله: "ومصدق بالسحر"مطلقًا ويدخل فيه التنجيم لحديث: "من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس علمًا من السحر"2. وهذا وجه مطابقة الحديث للباب. قال الذهبي في "الكبائر": ويدخل فيه تعلم السيمياء وعملها، وهو محض السحر، وعقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة قال: وكثير من الكبائر بل عامتها إلا الأقل يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغه الزجر فيه، ولا الوعيد عليه، فهذا الضرب فيهم تفصيل، فينبغي للعالم أن لا يجهل على الجاهل، بل يرفق به ويعلمه سيما إذا قرب عهده بجهله، كمن أسر وجلب إلى أرض الإسلام وهو تركي فبالجهد أن يتلفظ بالشهادتين فلا يأثم أحد إلا بعد العلم بحاله وقيام الحجة عليه.

1 سورة محمّد آية: 22-23.

2 أبو داود: الطب (3905)، وابن ماجه: الأدب (3726) ، وأحمد (1/227 ،1/311) .

ص: 387

[24-‌

‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

أي: من الوعيد، والمراد نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر. قال أبو السعادات: وهي ثمانية وعشرون منْزلة ينزل القمر كل ليلة منْزلة منها ومنه قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} 1، يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنْزلة

1 سورة يس آية: 39.

ص: 387

وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها فيقولون: مطرنا بنوء كذا، وإنما سمي نوءًا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءًا، أي: نهض وطلع.

قال: وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1.

روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في "المختارة" عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} ، يقول: شكركم: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا" وهذا أولى ما فسرت به الآية. وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم. وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف بالآية على الترجمة، فالمعنى على هذا: وتجعلون شكركم لله على ما أنزل إليكم من الغيث والمطر والرحمة أنكم تكذبون، أي: تنسبونه إلى غيره. وقال ابن القيم: أي: وتجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيب به يعني: القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به. قلت: والآية تشمل المعنيين.

[أربع من أمر الجاهلية]

قال: عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"2. وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" 3 رواه مسلم.

ش: قوله: (عن أبي مالك الأشعري) اسمه الحارث بن الحارث الشامي صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام، وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا، جزم به الحافظ.

1 سورة الواقعة آية: 82.

2 مسلم: الجنائز (934) ، وأحمد (5/342 ،5/343 ،5/344) .

3 مسلم: الجنائز (934)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1581) ، وأحمد (5/342 ،5/343 ،5/344) .

ص: 388

قوله: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن". أي: من أفعال أهلها بمعنى أنها معاصي ستفعلها هذه الأمة، إما مع العلم بتحريمها، وإما مع الجهل بذلك كما كان أهل الجاهلية يفعلونها. والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث، سموا بذلك لفرط جهلهم، وكل ما يخالف ما جاءت به الأنبياء والمرسلون فهو جاهلية منسوبة إلى الجاهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل وإنما يفعله جاهل. قال شيخ الإسلام: أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذمًّا لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم، فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها. ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله تعالى:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 1 فإن في ذلك ذمًّا للتبرج، وذمًّا لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة.

قوله: "الفخر بالأحساب"، أي: التشرف بالآباء والتعاظم بعدِّ مناقبهم ومآثرهم وفضائلهم وذلك جهل عظيم، إذ لا شرف إلا بالتقوى كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً

} 2 الآية. وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3. وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون

1 سورة الأحزاب آية: 33.

2 سورة سبأ آية: 37.

3 سورة الحجرات آية: 13.

ص: 389

على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن" 1. والأحساب جمع حسب وهو ما يعده الإنسان له ولآبائه من شجاعة وفصاحة ونحو ذلك.

قوله: "والطعن في الأنساب". أي: الوقوع فيها بالذم والعيب أو يقدح في نسب أحد من الناس فيقول: ليس هو من ذرية فلان أو يعيره بما في آبائه من المطاعن، ولهذا لما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلاً بأمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:"أعيرته بأمه؟! إنك امرؤٌ فيك جاهلية"2. متفق عليه. فدل ذلك أن التعيير بالأنساب من أخلاق الجاهلية، وأن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره وفسقه. قاله شيخ الإسلام.

قوله: "والاستسقاء بالنجوم". أي: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى النجوم والأنواء، وهذا هو الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، كما روى الإمام أحمد وابن جرير عن جابر السوائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أخاف على أمتي ثلاثًا: استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبًا بالقدر"3.

إذا تبين هذا، فالاستسقاء بالنجوم نوعان:

أحدهما: أن يعتقد أن المنَزل للمطر هو النجم، فهذا كفر ظاهر، إذ لا خالق إلا الله، وما كان المشركون هكذا، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 4. وليس هذا معنى الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا لا يزال في أمته، ومن اعتقد أن النجم ينَزل المطر، فهو كافر.

الثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنَزل له، إلا أنه سبحانه وتعالى أجرى

1 الترمذي: المناقب (3955)، وأبو داود: الأدب (5116) .

2 البخاري: الإيمان (30)، ومسلم: الأيمان (1661)، وأبو داود: الأدب (5157 ،5158) ، وأحمد (5/161) .

3 أحمد (5/89) .

4 سورة العنكبوت آية: 63.

ص: 390

وكراهته، وصرح أصحاب الشافعي بجوازه، والصحيح أنه محرم، لأنه من الشرك الخفي، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أمر الجاهلية، ونفاه، وأبطله، وهو الذي كان يزعم المشركون، ولم يزل موجودًا في هذه الأمة إلى اليوم، وأيضًا فإن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حماية لجناب التوحيد وسدًّا لذرائع الشرك ولو بالعبادات الموهمة التي لا يقصدها الإنسان، كما قال لرجل قال له:"ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندًّا؟! بل ما شاء الله وحده"1.

وفيه التنبيه على ما هو أولى بالمنع من نسبة السقيا إلى الأنواء كدعاء الأموات، وسؤالهم الرزق والنصر والعافية ونحو ذلك من المطالب، فإن هذا من الشرك الأكبر، سواء قالوا: إنهم شفعاؤنا إلى الله، كما قال المشركون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، [يونس: من الآية: 18] ، أو اعتقدوا أنهم يخلقون، ويرزقون وينصرون استقلالاً على سبيل الكرامة، كما ذكره بعض عباد القبور في رسالة صنفها في ذلك، لأنه إذا منع من إطلاق نسبة السقيا إلى الأنواء مع عدم القصد والاعتقاد، فلأن يمنع من دعاء الأموات والتوجه إليهم في الملمات مع اعتقاد أن لهم أنواع التصرفات أولى وأحرى.

قوله: (والنياحة) . أي: رفع الصوت بالندب على الميت، لأنها سخط لقضاء الله ومعارضة لأحكامه وسوء أدب مع الله، ولا كذلك ينبغي أن يفعل المملوك مع سيده، فكيف يفعله مع ربه وسيده ومالكه وإلهه الذي لا إله له سواه! الذي كل قضائه عدل، وأيضًا ففيها تفويت الأجر مع ذهاب المصيبة.

وفي الحديث دليل على شهادة أن محمدًا رسول الله، لأن هذه الأخبار من أنباء الغيب، فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر.

1 ابن ماجه: الكفارات (2117) ، وأحمد (1/214) .

ص: 391

قوله: وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها". فيه تنبيه على أن الوعيد والذم لا يلحق مَنْ تاب من الذنب، وهو كذلك بالإجماع، فعلى هذا إذا عرف شخص بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد لم يجز إطلاق القول بلحوقه لذلك الشخص المعين، كما يظنه كثير من أهل البدع، فإن عقوبات الذنوب ترتفع بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيهم، وعفو الله عنهم.

وفيه أن مَنْ تاب قبل الموت ما لم يغرغر، فإن الله يتوب عليه، كما في حديث ابن عمر مرفوعًا:"إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"1. رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في "صحيحه".

قوله: "تقام يوم القيامة"، أي: تبعث من قبرها، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب. قال القرطبي: السربال. واحد السرابيل، وهي الثياب والقمص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيصير لهن كالقميص حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم ورائحتهن أنتن وألمها بسبب الجرب أشد. وروي عن "ابن عباس أن القطران هو النحاس المذاب"وروى الثعلبي في "تفسيره" عن "عمر بن الخطاب أنه سمع نائحة فأتاها، فضربها بالدرة حتى وقع خمارها، فقيل يا أمير المؤمنين: المرأة المرأة قد وقع خمارها. قال: إنها لا حرمة لها".

قال: ولهما عن زيد بن خالد قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس. فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر

1 الترمذي: الدعوات (3537)، وابن ماجه: الزهد (4253) .

ص: 392

بالكوكب، وأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 1.

ش: قوله: (عن زيد بن خالد) . أي: الجهني المدني، صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين بالكوفة، وقيل غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة.

قوله: (صلى لنا)، أي: صلى بنا، فاللام بمعنى الباء. قال الحافظ: وفيه جواز إطلاق ذلك مجازًا، وإنما الصلاة لله.

قوله: (بالحديبية) . بالمهملة والتصغير وتخفف ياؤها وتثقل.

قوله: (على إثر) . بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهورة، وهو ما يعقب الشيء.

قوله: (سماء) . أي: مطر، وأطلق عليه سماء لكونه ينْزل من جهة السماء.

قوله: (فلما انصرف) . أي: من صلاته لا من مكانه، كما يدل عليه.

قوله: (أقبل على الناس) . أي: التفت إليهم بوجهه الشريف، ففيه دليل على أنه لا ينبغي للإمام إذا صلى أن يجلس مستقبل القبلة، بل ينصرف إلى المأمومين، كما صحت بذلك الأحاديث.

قوله: (هل تدرون؟) ، لفظ استفهام، ومعناه التنبيه. وفي رواية النسائي "ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ " 2 وهذا من الأحاديث القدسية

قال الحافظ: وهي تحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله بواسطة أو بلا واسطة، وفيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليخبرهم، وإخراج العالم التعليم للمسألة بالاستفهام فيها ذكره المصنف.

قوله: "قالوا: الله ورسوله أعلم"فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم، وأنه يقول ذلك أو نحوه، ولا يتكلف ما لا يعنيه.

قوله: قال: "أصبح من عبادي". الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر.

1 البخاري: الجمعة (1038)، ومسلم: الإيمان (71)، والنسائي: الاستسقاء (1525)، وأبو داود: الطب (3906) ، وأحمد (4/117)، ومالك: النداء للصلاة (451) .

2 البخاري: الأذان (846) والجمعة (1038) والمغازي (4147) والتوحيد (7503)، ومسلم: الإيمان (71)، والنسائي: الاستسقاء (1525)، وأبو داود: الطب (3906) ، وأحمد (4/116)، ومالك: النداء للصلاة (451) .

ص: 393

فإن قيل: هذا يدل على أن المراد بالكفر هنا هو الأكبر. قيل: ليس فيه دليل إذ الأصغر يصدر من الكفار.

قوله: "مؤمن بي وكافر". المراد بالكفر هنا هو الأصغر بنسبة ذلك إلى غير الله وكفران نعمته، وإن كان يعتقد أن الله تعالى هو الخالق للمطر المنَزل له بدليل قوله في الحديث "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته

"إلى آخره، فلو كان المراد هو الأكبر، لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا، فأتى بباء السببية ليدل على أنهم نسبوا وجود المطر إلى ما اعتقدوه سببًا. وفي رواية: "فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي، فذاك من آمن بي" 1. فلم يقل فأما من قال: إني المنَزل للمطر، فذاك من آمن بي، لأن المؤمنين والكفار يقولون ذلك. فدل على أن المراد إضافة ذلك إلى غير الله، وإن كان يعتقد أن الفاعل لذلك هو الله. وروى النسائي والإسماعيلي نحوه. وقال في آخره:"وكفر بي أو كفر نعمتي" وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم: "قال الله تعالى: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين"2. وله من حديث ابن عباس "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر

" 3 الحديث. وفي حديث معاوية الليثي مرفوعًا: "يكون الناس مجدبين فينَزل الله عليهم رزقًا من رزقه فيصبحون مشركين، يقولون: مُطِرْنَا بنوء كذا" 4. رواه أحمد، فبين الكفر والشرك المراد هنا بأن نسبة ذلك إلى غيره تعالى، بأن يقال: مطرنا بنوء كذا، قال ابن قتيبة: كانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم، وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم، وجعله كفرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك، فكفره كفر شرك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة، فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة، لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين.

1 البخاري: الأذان (846) والجمعة (1038) والمغازي (4147)، ومسلم: الإيمان (71)، والنسائي: الاستسقاء (1525)، وأبو داود: الطب (3906) ، وأحمد (4/116 ،4/117)، ومالك: النداء للصلاة (451) .

2 أحمد (1/283) .

3 البخاري: الشروط (2729)، ومسلم: العتق (1504)، وأبو داود: العتق (3929)، ومالك: العتق والولاء (1519) .

4 أحمد (2/169)، والدارمي: الرقاق (2721) .

ص: 394

وقال الشافعي: من قال: مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا، فلا يكون كفرًا، وغيره من الكلام أحب إلي منه.

قلت: قد يقال: إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك، وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك، وغيره من الكلام أحسن منه. أما كونه يجوز إطلاق ذلك أو لا يجوز، فالصحيح أنه لا يجوز، لما تقدم أن معنى الحديث هو نسبة السقيا إلى الأنواء لفظًا، وإن كان القائل لذلك يعتقد أن الله هو المنَزل للمطر، فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ، كقوله: لولا فلان لم يكن كذا، وفيه معنى قوله تعالى:{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} 1. فإن كثيرًا من النعم قد تجر الإنسان إلى شر، كالذين قالوا: مطرنا بنوء كذا بسبب نزول النعمة.

وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع. ذكره المصنف، يشير إلى أن المراد به هنا نسبة النعمة إلى الله وحمده عليها، كما في قوله تعالى:"فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك مَنْ آمن بي"، وقوله:"فأما من قال: مُطِرْنَا بفضل الله ورحمته" الحديث.

وفيه أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة. ذكره المصنف.

قوله: (فأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بفضل الله ورحمته) . أي: من نسبه إلى الله واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه وأثنى به عليه، فقال: مطرنا بفضل الله ورحمته، وفي الرواية الأخرى:"فأما مَنْ حمدني على سقياي، وأثنى علي فذاك من آمن بي"2. وهكذا يجب على الإنسان أن لا يضيف نعم الله إلى غيره ولا يحمدهم عليها بل يضيفها إلى خالقها ومقدرها الذي أنعم بها على العبد بفضله ورحمته، ولا ينافي ذلك الدعاء لمن أحسن بها إليك، وذكر ما أولاكم من المعروف إذا سلم لك دينك، والسر في ذلك -والله أعلم- أن العبد يتعلق قلبه بمن يظن حصول الخير له من جهته وإن كان لا صنع له في ذلك، وذلك نوع شرك خفي فمنع من ذلك.

1 سورة البقرة آية: 216.

2 البخاري: الأذان (657) ، وأحمد (2/472 ،2/479) .

ص: 395

قوله: (وأما من قال: مُطِرْنَا بنوء كذا

) إلى آخره. كالصريح فيما ذكرنا أن المراد نسبة ذلك إلى غير الله، وإن كان يعتقد أن المنَزل للمطر هو الله. ولهذا لم يقل: فأما من قال: أنزل علينا المطر أو أمطرنا بنوء كذا. قال المصنف: وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع، يشير إلى أن المراد بالكفر هنا هو نسبة النعمة إلى غير الله كالنوء ونحوه على ما تقدم، ولما كان إنزال الغيث من أعظم نعم الله وإحسانه إلى عباده لما اشتمل عليه من منافعهم، فلا يستغنون عنه أبدًا كان من شكره الواجب عليهم أن يضيفوه إلى البر الرحيم المنعم، ويشكروه فإن النفوس قد جبلت على حب من أحسن إليها، والله تعالى هو المحسن المنعم على الإطلاق الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده، كما قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 1.

[تفسير قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم]

قال: ولهما من حديث ابن عباس معناه.

وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ

} 2 إلى قوله: {

تُكَذِّبُونَ} .

ش قوله: (ولهما) . الحديث لمسلم فقط، ولفظه عن ابن عباس قال: "مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، قال فنَزلت هذه الآية:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 3 حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .

قوله: (قال بعضهم) : ذكر الواقدي في "مغازيه" عن أبي قتادة أن عبد الله بن أبي هو القائل في ذلك الوقت: مطرنا بنوء الشعرى، وفي صحة ذلك نظر.

قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 4. هذا قسم

1 سورة النحل آية: 53.

2 سورة الواقعة آية: 75.

3 مسلم: الإيمان (73) .

4 سورة الواقعة آية: 75.

ص: 396

من الله عز وجل يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمة المقسم به وتشريفه.

وتقديره: أقسم بمواقع النجوم، ويكون جوابه:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 1، فعلى هذا تكون "لا" صلة لتأكيد النفي، فتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة، بل هو قرآن كريم.

قال ابن جرير: "قال بعض أهل العربية: معنى قوله: {فلا أقسم} ، فليس الأمر كما تقولون، ثم استؤنف القسم بعد، فقيل: أقسم ; ومواقع النجوم. قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقًا في السنين بعد، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية. ومواقعها: نزولها شيئًا بعد شيء، وقيل: النجوم هي الكواكب، ومواقعها: مساقطها عند غروبها، قال مجاهد: مواقع النجوم يقال: مطالعها ومشارقها، واختاره ابن جرير. وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن من وجوه:

أحدها: أنّ النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الغي والجهل، فتلك هداية في الظلمات الحسية، وآيات القرآن هداية في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة للعالم وفي القرآن من الزينة الباطنة، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين، وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الإنس والجن، والنجوم آياته المشهودة العيانية، والقرآن آياته المتلوة السمعية مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النّزول، ذكره ابن القيم.

وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 2. قال ابن كثير: أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم عليه.

1 سورة الواقعة آية: 77.

2 سورة الواقعة آية: 76.

ص: 397

وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 1. هذا هو المقسم عليه، وهو القرآن أي: إنه وحي الله وتنْزيله وكلامه، لا كما يقول الكفار: إنه سحر وكهانة أو شعر، بل هو قرآن كريم، أي: عظيم كثير الخير، لأنه كلام الله. قال ابن القيم: فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته، فإن الكريم هو البهي الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أحسنه وأفضله، والله سبحانه وصف نفسه بالكرم [الانفطار 6، والنّحل 40] ، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه [المؤمنون 16] ، ووصف به ما كثر خيره، وحسن منظره من النبات وغيره، ولذلك فسر السلف الكريم بالحسن، قال الأزهري: الكريم: اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال، إنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان، والعلم والحكمة.

وقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 2. قال ابن كثير: أي: معظم في كتاب معظم محفوظ موقر. وقال ابن القيم: اختلف المفسرون في هذا فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة وهو المذكور في قوله:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 3. ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} 4. فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه.

1 سورة الواقعة آية: 77.

2 سورة الواقعة آية: 78.

3 سورة عبس آية: 13-16.

4 سورة الواقعة آية: 79.

ص: 398

وقوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} 1. قال "ابن عباس: {لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} 2. قال: الكتاب الذي في السماء"وفي رواية:"{لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} 3، يعني: الملائكة وقال قتادة: لا يمسه عند الله إلا المطهرون". أما في الدنيا، فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس. قال: وهي في قراءة ابن مسعود: ما يمسه إلا المطهرون. واختار هذا القول كثيرون منهم: ابن القيم ورجحه. وقال ابن زيد: زعمت قريش أن هذا القرآن تنَزلت به الشياطين فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ

} 4 إلى قوله: {لَمَعْزُولُون} . وقال ابن كثير: وهذا قول جيد وهو لا يخرج عن القول قبله.

وقال البخاري في "صحيحه" في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به. قال ابن القيم: وهذا من إشارة الآية وتنبيهها وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقًا، وأنزله على رسوله وحيًا، ولا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه منه حرج بوجه من الوجوه.

وقال آخرون: {لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} ، [الواقعة: 79] ، أي: من الجنابة والحدث قالوا: ولفظ الآية خبر ومعناه الطلب. قالوا: والمراد بالقرآن هنا المصحف، كما في حديث ابن عمر مرفوعًا:"نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو"5. واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في "الموطأ" عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "أن لا يمس القرآن إلا طاهر".

وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 6. قال ابن كثير: أي: هذا القرآن منَزل من الله رب العالمين، وليس كما يقولون: إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق

1 سورة الواقعة آية: 79.

2 سورة الواقعة آية: 79.

3 سورة الواقعة آية: 79.

4 سورة الشعراء آية: 210.

5 البخاري: الجهاد والسير (2990)، ومسلم: الإمارة (1869)، وأبو داود: الجهاد (2610)، وابن ماجه: الجهاد (2879 ،2880) ، وأحمد (2/6 ،2/7 ،2/10 ،2/63 ،2/76 ،2/128)، ومالك: الجهاد (979) .

6 سورة الواقعة آية: 80.

ص: 399

نافع. وفي هذه الآية 1-إثبات أنه كلام الله تكلم به. قال ابن القيم: ونظيره {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 1 وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 2. 2-وإثبات علو الله سبحانه على خلقه، فإن النّزول والتنْزيل الذي تعقله العقول، وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} 3. لأنا نقول: إن الذي أنزلها من فوق سماواته قد أنزلها لنا بأمره. قال ابن القيم: وذكر التنْزيل مضافًا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم، وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملاً، ويخلقهم عبثًا، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟! فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن نزله على رسوله، واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به. وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس، وتلك إنما تكون لخواص العقلاء.

وقوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} 4 قال مجاهد: أي: أتريدون أن تمالؤوهم فيه وتركنوا إليهم. قال ابن القيم: ثم وبخهم سبحانه على وضعهم الأدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به، ويفرق به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوي عنه يمنة ولا يسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به. فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر، فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه؟! ولم

1 سورة السجدة آية: 13.

2 سورة النحل آية: 102.

3 سورة الزمر آية: 6.

4 سورة الواقعة آية: 81.

ص: 400