المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب] - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد

[سليمان بن عبد الله آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌[كتاب التوحيد]

- ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

- ‌ باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]

- ‌ باب الخوف من الشرك]

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله

- ‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

- ‌ باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]

- ‌ باب ما جاء في الرقى والتمائم]

- ‌ باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما]

- ‌[باب ما جاء في الذبح لغير الله]

- ‌ باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله]

- ‌ باب من الشرك النذر لغير الله]

- ‌[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله]

- ‌ باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

- ‌ باب الشفاعة]

- ‌[باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

- ‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب ما جاء من التغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌ باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

- ‌ باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان]

- ‌ باب ما جاء في السحر]

- ‌باب بيان شيئ من أنواع السحر

- ‌ باب ما جاء في الكهان ونحوهم]

- ‌ باب ما جاء في النشرة]

- ‌ باب ما جاء في التطير]

- ‌ باب ما جاء في التنجيم]

- ‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

- ‌باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌ باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله]

- ‌ باب ما جاء في الرياء]

- ‌ باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]

- ‌ باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِ

- ‌ باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا

- ‌ باب قول الله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله

- ‌ باب قول: ما شاء الله وشئت]

- ‌ باب من سب الدهر فقد آذى الله]

- ‌ باب التسمي بقاضي القضاة]ونحوه

- ‌باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌ باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن أو الرسول]

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي

- ‌باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

- ‌ باب لا يقال: السلام على الله]

- ‌ باب قول اللهم اغفر لي إن شئت]

- ‌ باب لا يقول: عبدى وأمتي]

- ‌ باب لا يرد من سئل بالله]

- ‌ باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة]

- ‌باب ماجاء في "لو

- ‌ باب النهي عن سب الريح]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ

- ‌ باب ما جاء في منكري القدر]

- ‌ باب ما جاء في المصورين]

- ‌ باب ما جاء في كثرة الحلف]

- ‌باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله

- ‌ باب ما جاء في الإقسام على الله]

- ‌ باب لا يستشفع بالله على خلقه]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]

- ‌باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الفصل: ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

كما قال بعض: فأكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم. 7-وتخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. 8-وفضيلة معاذ، ومنْزلته من العلم، لكونه خص بما ذكر. 9-واستئذان المتعلم في إشاعة ما خص به من العلم. 10-والخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. 11-وأن الصحابة لا يعرفون مثل هذا إلا بتعليمه صلى الله عليه وسلم ذكره المصنف.

قوله: أخرجاه في "الصحيحين" أي: أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" وإنما أضمرهما للعلم بهما.

والبخاري هو: الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب "الصحيح"، و "التاريخ"، و "الأدب المفرد" وغير ذلك من مصنفاته.

روى عن الإمام أحمد بن حنبل، والحميدي، وابن المديني وطبقتهم. وروى عنه مسلم والترمذي، والنسائي، والفربري، راوي "الصحيح" وغيرهم. ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ومات سنة ست وخمسين ومائتين.

ومسلم هو: ابن الحجاج بن مسلم، أبو الحسين القشيري النيسابوري صاحب "الصحيح"، و "العلل"، و"الوحدان" وغير ذلك

روى عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبي خيثمة، وابن أبي شيبة، وطبقتهم. روى عنه الترمذي، وإبراهيم بن محمد بن سفيان. راوي "الصحيح" وغيرهم. ولد سنة أربع ومائتين، ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمه الله تعالى.

ص: 48

[م2‌

‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

باب: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا باب بيان فضل التوحيد، وبيان ما يكفر من الذنوب، و " ما " يجوز أن تكون

ص: 48

موصولة، أي: وبيان ما يكفره من الذنوب. ويجوز أن تكون مصدرية، أي: وبيان تكفيره الذنوب، وهذا أرجح، لأن الأول يوهم أن ثم ذنوبًا لا يكفرها التوحيد، وليس بمراد، ولما ذكر معنى التوحيد، ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب ترغيبًا فيه وتحذيرًا من الضد.

وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1.

قال بعض الحنفية في تفسيره: هذا ابتداء. قال [عبد الرّحمن] ابن زيد وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه. قال الزجاج: سأل إبراهيم وأجاب بنفسه. وعن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم؟ قال عليه السلام: " {إن الشرك لظلم عظيم} ". [البخاري 3636] وكذا عن أبي بكر الصديق أنه فسره بالشرك، فيكون الأمن من تأييد العذاب. وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي:{أولئك لهم الأمن} في الآخرة {وهم مهتدون} في الدنيا. انتهى. وإنما ذكرته، لأن فيه شاهدًا لكلام شيخ الإسلام الآتي في الحديث الذي ذكره حديث صحيح في "الصحيح"[البخاري 3636] ، و"المسند"[3588]، وغيرهما. وفي لفظ لأحمد عن عبد الله [بن مسعود] قال:" لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 2 شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون "، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:. يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم إنما هو الشرك ".

قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد لنفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانهم بهذا الظلم، فمن لم يلبس إيمانه به كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من

1 سورة الأنعام آية: 82.

2 البخاري: الإيمان (32) وأحاديث الأنبياء (3360 ،3428 ،3429) وتفسير القرآن (4629 ،4776) واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6918 ،6937)، ومسلم: الإيمان (124)، والترمذي: تفسير القرآن (3067) ، وأحمد (1/378) .

ص: 49

أهل الاصطفاء في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} 1. وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب، كما قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 2 وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " يا رسول الله، وأينا لم يعمل سوءًا؟ فقال: " يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به " 3. فبيَّن أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب التي تصيبه، قال: فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة، يعني: الظلم الذي هو الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلم نفسه كان له الأمن

والاهتداء مطلقًا، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة، كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء، بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، ليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" إنما هو الشرك " أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولا بد لهم من دخول الجنة. وقوله:"إنما هو الشرك"، إن أراد به الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله، فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وهو مهتد إلى ذلك، وإن كان مراده جنس الشرك فيقال: ظلم العبد نفسه، كبخله - لحب المال - ببعض الواجب وهو شرك أصغر، وحبه ما يبغض الله حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك، فهذا فاته من

1 سورة فاطر آية: 32.

2 سورة الزّلزلة آية: 7-8.

3 الترمذي: تفسير القرآن (3039) ، وأحمد (1/6) .

ص: 50

الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار. انتهى ملخصًا.

وبه تظهر مطابقة الآية للترجمة، فدلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب، لأن من أتى به تامًا فله الأمن التام والاهتداء التام، ودخل الجنة بلا عذاب، ومَن أتى به ناقصًا بالذنوب التي لم يتب منها، فإن كانت صغائر كفرت باجتناب الكبائر، لآية (النّساء: 31) ، و (النّجم: 32) وإن كانت كبائر فهو في حكم المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، ومآله إلى الجنة، والله أعلم.

عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} ، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " 1 أخرجاه.

عبادة هو ابن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد، أحد النقباء بدري مشهور من جلة الصحابة، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة. وقيل: عاش إلى خلافة معاوية.

قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله "، أي: من تكلم بهذه الكلمة عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطنًا وظاهرًا، كما دل عليه قوله:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} 2 وقوله: {إِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3. أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع.

وفي الحديث ما يدل على هذا، وهو قوله:" من شهد "، إذ كيف يشهد وهو لا يعلم، ومجرد النطق بشيء لا يسمى شهادة به. قال بعضهم: أداة الحصر لقصر الصفة على الموصوف قصر إفراد، لأن معناه: الألوهية في الله الواحد في مقابلة من يزعم اشتراك غيره معه،

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3435) ، ومسلم 28، وأحمد (5/313) .

2 سورة محمد آية: 19.

3 سورة الزخرف آية: 86.

ص: 51

وليس قصر قلب، لأن أحدًا من الكفار لم ينفها عن الله، وإنما أشرك معه غيره.

وقال النووي: هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع ـ أو من أجمع ـ الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها، فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم. انتهى.

ومعنى " لا إله إلا الله"، أي: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. فصح أن معنى الإله هو المعبود، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش:"قولوا لا إله إلا الله" قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3. وقال قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4. وهو إنما دعاهم إلى " لا إله إلا الله "، فهذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه، وهو الكفر بالطاغوت، وإيمان بالله.

فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهًا وحده، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهًا. وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي أو يستشهد من ليس أهلاً لذلك، ويدع مَنْ هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد، المفتي فلان، والشاهد فلان، فإن هذا أمر منه ونهي. وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة الصادرة عن تأله

1 سورة الأنبياء آية: 25.

2 سورة النحل آية: 36.

3 سورة ص آية: 5.

4 سورة الأعراف آية: 70.

ص: 52

القلب لله بالحب والخضوع والانقياد له وحده لا شريك

له، فيجب إفراد الله تعالى بها، كالدعاء والخوف والمحبة، والتوكل والإنابة، والتوبة، والذبح، والنذر، والسجود، وجميع أنواع العبادة فيجب صرف جميع ذلك لله وحده لا شريك له، فمن صرف شيئًا مما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله، فهو مشرك ولو نطق بـ: لا إله إلا الله، إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص.

ذكر نصوص العلماء في معنى الإله، قال ابن عباس رضي الله عنه: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال الوزير أبو المظفر [بن هبيرة] في "الإفصاح"، قوله:" شهادة أن لا إله إلا الله "، يقتضي أن يكون الشاهد عالمًا بأن: لا إله إلا الله، كما قال: الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} 1.

وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدًا فيها، فقد قال الله عز وجل ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالمًا بما شهد به، فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله تعالى:{إِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. قال: واسم الله تعالى مرتفع بعد " إلا " من حيث إنه الواجب له الإلهية. فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث، فإنه لا يكون إلهًا، فإذا قلت: لا إله إلا الله، فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله، فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده.

قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.

وقال أبو عبد الله القرطبي في" التفسير": {لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} ، أي. لا معبود إلا هو. وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس - كالرجل والفرس - اسم يقع على كل معبود بحق أو بباطل، ثم غلب على المعبود بحق.

1 سورة محمد آية: 19.

2 سورة الزخرف آية: 86.

ص: 53

وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع. وقال أيضا في (لا إله إلا الله) : إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد. فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.

وقال ابن القيم رحمه الله: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكرامًا وتعظيمًا وذلاً وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكلاً.

وقال ابن رجب رحمه الله: - الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً ومحبة، وخوفًا ورجاء، وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك.

وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيمًا أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية

من أهوال الساعة، وإنما يكون علمًا إذا كان نافعًا، وإنما يكون نافعًا إذا كان الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.

وقال الطيبي: الإله فِعَالٌ بِمعنى: مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة، أي: عبد عبادة.

وهذا كثير جدًا في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود، خلافًا لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات، ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى، فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى، ولو

ص: 54

فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله، كدعاء الأموات، والاستغاثة بهم في الكربات، وسؤالهم قضاء الحاجات، والنذر لهم في الملمات، وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسموات، إلى غير ذلك من أنواع العبادات، وما شعروا أن إخوانهم من كفار العرب يشاركونهم في هذا الإقرار، ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع، ويعبدونه بأنواع من العبادات، فليهن أبو جهل وأبو لهب ومن تبعهما بحكم عباد القبور، وليهن أيضًا إخوانُهم عباد ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، إذ جعل هؤلاء دينهم هو الإسلام المبرور.

ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال، لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته، ويلبون دعوته، إذ يقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله، بمعنى: أنه لا قادر على الاختراع إلا الله. فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا.

قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 2. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ

} 3 الآية، إلى غير ذلك من الآيات.

لكنَ القومَ أهلُ اللسان العربي، فعلموا أنها تهدم عليهم دعاء الأموات والأصنام من الأساس، وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير الله، وصرف الإلهية لغيره لأم الرأس، فقالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4. {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5. {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 6. فتبًا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منه بـ: " لا إله إلا الله ". قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 7. فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بالعبادة، وهكذا يقول عباد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة لله وحده: أنترك سادتنا وشُفعاءنا في

1 سورة الزخرف آية: 87.

2 سورة الزخرف آية: 9.

3 سورة يونس آية: 31.

4 سورة الزمر آية: 3.

5 سورة يونس آية: 18.

6 سورة ص آية: 5.

7 سورة الصّافات آية: 35-36.

ص: 55

قضاء حوائجنا؟! فيقال لهم: نعم وهذا الترك والإخلاص هو الحق، كما قال تعالى:{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 1. فـ: " لا إله إلا الله " اشتملت على نفي وإثبات، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم، فليس بإله، ولا له من العبادة شيء، وأثبتت الإلهية لله وحده، بمعنى أن العبد لا يأله غيره، أي: لا يقصده بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة، كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك

وبالجملة فلا يأله إلا الله، أي: لا يعبد إلا هو، فمن قال هذه الكلمة عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها، من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به، فهذا هو المسلم حقًا، فإن عمل به ظاهرًا من غير اعتقاد، فهو المنافق، وإن عمل بخلافها من الشرك، فهو الكافر ولو قالها، ألا ترى أن المنافقين يعملون بها ظاهرًا وهم {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار} ، [النّساء، من الآية: 145] ، واليهود يقولونها وهم على ما هم عليه من الشرك والكفر، فلم تنفعهم، وكذلك من ارتد عن الإسلام بإنكار شيء من لوازمها وحقوقها، فإنها لا تنفعه، ولو قالها مائة ألف، فكذلك من يقولها ممن يصرف أنواع العبادة لغير الله، كعباد القبور والأصنام، فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها، وما أشبهه من الأحاديث.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: " وحده لا شريك له "، تنبيهًا على أن الإنسان قد يقولها وهو مشرك، كاليهود والمنافقين وعباد القبور، لما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى قول:" لا إله إلا الله "، ظنوا أنه إنما دعاهم إلى النطق بها فقط، وهذا جهل عظيم، وهو عليه السلام إنما دعاهم إليها ليقولوها ويعملوا بمعناها، ويتركوا عبادة غير الله، ولهذا قالوا:{أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 2. وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} 3. فلهذا أبوا عن النطق بها، وإلا فلو قالوها

1 سورة الصافات آية: 37.

2 سورة الصافات آية: 36.

3 سورة ص آية: 5.

ص: 56

وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين، ولقاتلهم عليه السلام حتى يخلعوا الأنداد، ويتركوا عبادتها، ويعبدوا الله وحده لا شريك له، وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والإجماع.

وأما عبادة القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة، ولا عرفوا الإلهية المنفية عن غير الله الثابتة له وحده لا شريك له، بل لم يعرفوا من معناها إلا ما أقرّ به المؤمن والكافر، اجتمع عليه الخلق كلهم من أن معناها: لا قادر على الاختراع، أو أن معناها: الإله، هو الغني عما سواه، الفقير إليه كل ما عداه، ونحو ذلك، فهذا حق، وهو من لوازم الإلهية، ولكن ليس هو المراد بمعنى:" لا إله إلا الله "، فإن هذا القدر قد عرفه الكفار، وأقروا به، ولم يدعوا في آلهتهم شيئًا من ذلك، بل يقرون بفقرهم، وحاجتهم إلى الله، وإنما كانوا يعبدونهم على معنى أنهم وسائط وشفعاء عند الله في تحصيل المطالب ونجاح المآرب، وإلا فقد سلموا الخلق والملك والرزق والإحياء والإماتة، والأمر كله لله وحده لا شريك له، وقد عرفوا معنى:" لا إله إلا الله "، وأبوا على النطق والعمل بها، فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الإلهية، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1.وعباد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها، وأبوا عن الإتيان به، فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها، ولا يعملون به، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بالحب والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء عند الكرب، ويقصده بأنواع العبادة الصادرة عن تأله قلبه لغير الله مما هو أعظم مما يفعله المشركون الأولون، ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الإيمان صادقًا أو كاذبًا، ولو قيل له: احلف بحياة الشيخ فلان، أو بتربته ونحو ذلك، لم يحلف إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظم في قلبه من رب الأرباب، وما كان الأولون هكذا، بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا بالله تعالى، كما في قصة

1 سورة يوسف آية: 106.

ص: 57

القسامة التي وقعت في الجاهلية، وهي في "صحيح البخاري [3845] ".

وكثير منهم وأكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجح من الاستغاثة بالله في المسجد، ويصرحون بذلك، والحكايات عنهم بذلك فيها طول، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب، وهتفوا بأسمائهم، ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب في البر والبحر والسفر والإياب، وهذا أمر ما فعله الأولون، بل هم في هذه الحال يخلصون ل {الكبير المتعال} ، فاقرأ قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

} 1 الآية، وقوله:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 2.وكثير منهم قد عطلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد، فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، أخذ في دعاء صاحبه باكيًا خاشعًا ذليلاً خاضعًا، بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات وقيام الليل وإدبار الصلوات، فيسألونهم مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب والنجاة من النار، وأن يحطوا عنهم الأوزار، فكيف يظن عاقل ـ فضلاً عن عالم ـ أن التلفظ بـ: " لا إله إلا الله " مع هذه الأمور تنفعهم؟! وهم إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم؟! ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضًا بشهادة أن محمدا رسول الله ولم يعرف معنى الإله ولا معنى الرسول، وصلى وصام وحج، ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئًا من الشرك، فإنه لا يشك أحد في عدم إسلامه.

وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب " الدر الثمين في شرح المرشد المعين [ميارة] " من المالكية، ثم قال شارحه: وهذا الذي أفتوا به جلي في غاية الجلاء، لا يمكن أن يختلف فيه اثنان انتهى. ولا ريب أن عباد القبور أشد من هذا؟ لأنهم اعتقدوا الإلهية في أرباب متفرقين.

1 سورة العنكبوت آية: 65.

2 سورة آية: 53-54.

ص: 58

فإن قيل: قد تبين معنى الإله والإلهية، فما الجواب عن قول من قال: بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة؟

قيل: الجواب من وجهين:

أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة، وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلاً.

الثاني: على تقدير تسليمه، فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقًا قادرًا على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك، فليس بإله حق وإن سمي إلهًا، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع، فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين، ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية.

قوله: "وأن محمدًا عبده ورسوله"، أي: وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله، فتكون الشهادة واقعة على هذه الجملة وما قبلها وما بعدها، فإن العامل في المعطوف وما عطف عليه واحد، ومعنى " العبد" هنا يعني المملوك العابد، أي: مملوك لله تعالى، وليس له من الربوبية والإلهية

شيء، إنما هو عبد مقرب عند الله ورسوله، أرسله الله كما قال تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَاّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 1.قيل: وقدم العبد هنا على الرسول ترقيًا من الأدنى إلى الأعلى، وجمع بينهما لدفع الإفراط والتفريط الذي وقع في شأن عيسى عليه السلام، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " 2 رواه البخاري عن عمر بن الخطاب. وذلك يتضمن تصديقه فيما

1 سورة الجن آية: 19-23.

2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23) .

ص: 59

أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر، فلا يكون كامل الشهادة له بالرسالة من ترك أمره وأطاع غيره، وارتكب نهيه.

[تفسير قوله تعالى وروح منه] .

قوله: " وإن عيسى عبد الله ورسوله"، وفي رواية "وابن أمته"، أي: خلافًا لما يعتقده النصارى أنه الله، أو ابن الله، تعالى الله عن ذلك {علوًا كبيرا} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 فيشهد بأنه عبد الله، أي: عابد مملوك لله، لا مالك، فليس له من الربوبية ولا من الإلهية شيء.

ورسول صادق، خلافًا لقول اليهود: إنه ولد بغي، بل يقال فيه ما قال عن نفسه كما قال تعالى:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} 2.

وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 3 قال القرطبي: ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم.

قوله: " {وَكَلِمَتُهُ} "، إنما سمي عليه السلام كلمة الله، لصدوره بكلمة {كن} بلا أب.

قاله قتادة وغيره من السلف.

قال الإمام أحمد فيما أملاه في الرد على الجهمية: الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: {كن} فكان عيسى بـ {كن} ، وليس عيسى هو كن، ولكن ب: كن كان، فـ: كن من الله قول، وليس: كن، مخلوقًا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالت: عيسى روح الله وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة.

وقالت النصارى، عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب.

وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليسى عيسى هو الكلمة. انتهى. يعني به ما قال قتادة وغيره.

1 سورة المؤمن آية: 91-92.

2 سورة مريم آية: 30-34.

3 سورة النساء آية: 172.

ص: 60

قوله: " {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ، [النّساء، من الآية: 171]، قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام إلى مريم، فنفخ فيها في روحه بإذن ربه عز وجل،

فكان عيسى بإذن الله عز وجل، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها، بمنزلة لقاح الأب الأم، والجميع مخلوق لله عز وجل. ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له: كن، فكان، والروح التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام.

قوله: {وروح منه} قال أبي بن كعب: عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله عز وجل واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1، بعثه الله إلى مريم فدخل مَن فيها.

رواه عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد "المسند"[2124] وابن جرير، وابن أبي حاتم وغيرهم.

وقال أبو روق [عطية بن الحارث]{وروح منه} ، أي: نفخة منه، إذ هي من جبرائيل بأمره، وسمي روحًا، لأنه حدث من نفخة جبرائيل عليه السلام.

وقال الإمام أحمد: {وَرُوحٌ مِنْهُ} ، يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2 يقول: من أمره.

وقال شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره المخلوقات، وجب أن يكون صفة لله تعالى، قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإن كان المضاف عينًا قائمة بنفسها، كعيسى وجبرائيل عليه السلام وأرواح بني آدم، امتنع أن يكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره، لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين:

أحدهما: أن تكون تضاف إليه لكونه خلقها

وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماه الله، وأرض الله، ومن هذا الباب، فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله، وجميع البيوت والنوق لله.

1 سورة الأعراف آية: 172.

2 سورة الجاثية آية: 13.

ص: 61

الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره، وكما يقال عن مال الفيء والخمس: هو مال الله ورسوله، ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره، فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. انتهى ملخصًا.

والمقصود منه أن إضافة روح إلى الله هو من الوجه الثاني، والله أعلم.

قوله: "والجنة حق والنار حق" أي: وشهد أن الجنة ـ التي أخبر بها الله في كتابه أنه أعدها لمن آمن به وبرسوله حق، أي: ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار ـ التي أخبر الله في كتابه أنه أعدها للكافرين به وبرسله حق كذلك، كما قال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 2.وفيهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافًا لأهل البدع الذين قالوا: لا يخلقان إلا في يوم القيامة، وفيه دليل على المعاد وحشر الأجساد.

قوله:"أدخله الله الجنة على ما كان، من العمل"، هذه الجملة جواب الشرط وفي رواية:" أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية " قال القاضي عياض: وما ورد في حديث عبادة يكون خصوصا لمن قال ما ذكره صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.

[فضل من قال لا إله إلا الله]

قال: ولهما من حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".

قوله: ولهما، أي للبخاري [425] ن ومسلم [263] في "صحيحيهما".

1 سورة الحديد آية: 21.

2 سورة البقرة آية: 24.

ص: 62

وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان كما قال المصنف.

وعتبان - بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة - ابن مالك بن عمر بن العجلان الأنصاري من بني سالم بن عوف صحابي شهير، مات في خلافة معاوية.

قوله: "فإن الله حرم على النار. الحديث".

اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار، كهذا الحديث، وحديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، فقال:"يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال. "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، إلا حرمه على النار." قال: يا رسول الله ألا أخبر بها الناس فيستبشروا.؟ قال: "إذًا يتكلوا"1. فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا. أخرجاه.

ولمسلم عن عبادة مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، حرم الله عليه النار." 2

ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة، وليس فيها أنه يحرم على النار.

منها حديث عبادة الذي تقدم قبل هذا، وحديث أبي هريرة أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم: في غزوة تبوك

الحديث. وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيحجب عن الجنة" 3 رواه مسلم.

وحديث أبي ذر في " الصحيحين " مرفوعًا: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة

" 4.وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام وغيره: إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة، وقالها خالصًا من قلبه مستيقنًا بها قلبه، غير شاك فيها بصدق ويقين، فإن

1 البخاري: العلم (128)، ومسلم: الإيمان (32) .

2 البخاري: العلم (128)، ومسلم: الإيمان (32) ، وأحمد (3/131 ،3/157 ،3/244) .

3 مسلم: الإيمان (27) ، وأحمد (2/421) .

4 البخاري: اللباس (5827)، ومسلم: الإيمان (94) .

ص: 63

حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، دخل الجنة، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك؛ فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيرا ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: - سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 1. وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذه الحال مصرًا على ذنب أصلاً، فإنه كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذًا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم من النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة وهذا اليقين، لا يتركون له ذنبًا إلا يُمحى كما يُمحى الليل بالنهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به

1 سورة الزخرف آية: 23.

ص: 64

على الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصرًا على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال: لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصًا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصرًا على سيئة، فإن مات على ذلك دخل الجنة، وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة يضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف بذلك قول: لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويموتون على ذلك ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة، وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل واستحلى الرفث ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدق عمله، كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في

ص: 65

القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيرا وعمل خيرًا قبل منه، ومن قال شرًا وعمل شرًا لم يقبل منه.

وقال بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه. فمن قال: لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبًا وسيئات، وكان صادقًا في قولها موقنًا بها، لكن ذنوبه أضعاف أضعاف صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، رجحت هذه الأشياء على هذه الحسنة، ومات مصرًا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق تام، فإنه لا يموت مصرًا على الذنوب، إما أن لا يكون مصرًا على سيئة أصلاً أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.

والذين يدخلون النار ممن يقولها قد فاتهم أحد هذين الشرطين: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التامين المنافيين للسيئات، أو لرجحان السيئات، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فَقَوْلُها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات بل ترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصًا.

وقد ذكر معناه غيره كابن القيم، وابن رجب، والمنذري، والقاضي عياض، وغيرهم.

وحاصله: أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار، ومقتض لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع.

ولهذا قيل للحسن إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة

وقال وهب بن منبه، لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح.

ص: 66

ويدل على ذلك أن الله رتب دخول الجنة على الإيمان والأعمال الصالحة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيحين" عن أبي أيوب:"أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة. فقال: "تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم" 1. وفي " المسند " عن بشر بن [معبد] بن الخصاصية قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أوتي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله. فقلت: يا رسول الله، أما اثنتين، فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها وقال: "فلا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذًا؟! "قلت: يا رسول الله أبايعك عليهن كلهن" 2 ففي الحديث: أن الجهاد والصدقة شرط في دخول الجنة مع حصول التوحيد، والصلاة، والحج، والصيام. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد، وبالعكس.

وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصًا لله تعالى.

[فضل لا إله إلا الله ورجحانها في الميزان]

قال: وعن أبي سعيد الخدري عن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى: يارب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله" رواه ابن حبان، والحاكم وصححه.

أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأبوه أيضًا كذلك، استصغر أبو سعيد بأحد، ثم شهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ـ ثلاث أو أربع أو خمس ـ وستين. وقيل: أربع وسبعين.

1 البخاري: الزكاة (1396)، ومسلم: الإيمان (13)، والنسائي: الصلاة (468) ، وأحمد (5/417 ،5/418) .

2 أحمد (5/224) .

ص: 67

قوله: (أذكرك) . هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أنا أذكرك. وقيل: بل هو صفة، وأدعوك معطوف عليه، أي: أثني عليك وأحمدك به، وأدعوك، أي: أتوسل به إليك إذا دعوتك.

قوله: "قل يا موسى: لا إله إلا الله". فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة كما يفعله جهال المتصوفة، ولا يقول أيضًا: هو كما يقوله غلاة جهالهم، فإذا أرادوا الدعاء قالوا: يا هو، فإن ذلك بدعة وضلالة. وقد صنف جهالهم في المسألتين، وصنف ابن عربي كتابًا سماه بـ:"الهو".

قوله: "كل عبادك يقولون هذا"، هكذا ثبت في المصنف، يقولون بالجمع مراعاة لمعنى كل، والذي في الأصول:(يقول) بالإفراد مراعاة للفظها دون معناها، لكن قد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو هذا الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف أطول منه.

وفي " سنن النسائي [10670] " و " الحاكم " و " شرح السنة [1273] " بعد قوله: (كل عبدك يقولون هذا) وإنما أريد أن تخصني به"، أي: بذلك الشيء من بين

عموم عبادك فإن من طبع الإنسان أن لا يفرح فرحا شديدًا إلا بشيء يختص به دون غيره، كما إذا كانت عنده جوهرة ليست موجودة عند غيره. مع أن من رحمة الله وسنته المطردة أن ما اشتدت إليه الحاجة والضرورة، كان أكثر وجودًا، كالبر والملح، والماء ونحو ذلك دون الياقوت واللؤلؤ، ولما كان بالناس ـ بل بالعالم كله ـ من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية في الضرورة فوقه كانت أكثر الأذكار وجودًا، وأيسرها حصولاً، وأعظمها معنى. والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الأسماء الغريبة،

ص: 68

والدعوات المبتدعة التي لا أصل لها في الكتاب والسنة كالأحزاب والأوراد التي ابتدعها جهلة المتصوفة.

قوله: "وعامرهن غيري"، هو بالنصب عطف على السماوات، أي: لو أن السماوات السبع ـ ومن فيهم من العمار غير الله والأرضين السبع ومن فيهن ـ وضعوا في كفة الميزان، ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله.

وروى الإمام أحمد [6580] عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته: " آمرك بـ: " لا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله ". وفيه دليل على أن الله تعالى فوق السماوات.

قوله: (في كفة) بكسر الكاف وتشديد الفاء من كفة الميزان. قال بعضهم: ويطلق لكل مستدير.

قوله: "مالت بهن لا إله إلا الله"، أي: رجحت عليهن، وذلك لما اشتملت عليه من توحيد الله الذي هو أفضل الأعمال، وأساس الملة، ورأس الدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها، واستقام على ذلك، فهو من {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، [البقرة، من الآية: 62]، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} 1.

والحديث يدل على أن: " لا إله إلا الله " أفضل الذكر، كما في حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير

1 سورة فصلت آية: 30-32.

ص: 69

ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" 1. رواه أحمد والترمذي. وعنه أيضًا مرفوعًا:"يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة، فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة". رواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن

حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

وقال الذهبي في "تلخيصه": صحيح. قال ابن القيم: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العمل واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض.

قال: تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه. وعن أبي هريرة مرفوعًا:"ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصًا قط إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر" 2 رواه الترمذي وحسنه والنسائي، والحاكم وقال: على شرط مسلم.

قوله: (رواه ابن حبان، والحاكم) . (ابن حبان) : اسمه محمد بن حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كـ " الصحيح "

1 الترمذي: الدعوات (3585) .

2 الترمذي: الدعوات (3590) .

ص: 70

و " التاريخ " و " الضعفاء " و " الثقات " وغير ذلك. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال، مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست بالمهملة.

وأما الحاكم، فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد الضبي النيسابوري أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بابن البيِّع. ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف كـ " المستدرك " و " تاريخ نيسابور " وغيرهما، مات سنة خمس وأربعمائة.

[بيان سعة مغفرة الله تعالى]

قال: وللترمذي وحسنه عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة "1.

الترمذي، اسمه: محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - ابن موسى ابن الضحاك السلمي أبو عيسى صاحب " الجامع " وأحد الأئمة الحفاظ، كان ضرير البصر. روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق، ومات سنة تسع وسبعين ومائتين.

وأنس هو: ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة " 2 ومات سنة اثنتين ـ وقيل: ثلاث ـ وتسعين. وقد جاوز المائة.

والحديث قطعة من حديث رواه الترمذي من طريق كثير بن فائد: حدثنا سعيد بن عبيد، سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول: حدثنا أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض.... " 3 الحديث.

1 الترمذي: الدعوات (3540) .

2 البخاري: الدعوات (6334)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (660) .

3 الترمذي: الدعوات (3540) .

ص: 71

قال ابن رجب: وإسناده لا بأس به.

وسعيد بن عبيد: هو الْهُنَائِي: ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال الدارقطني: تفرد به كثير بن فائد عن سعيد بن عبيد مرفوعًا.

قال ابن رجب: وتابعه على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم، فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعًا، وقد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يقول الله: من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا" 1 الحديث. وفيه: "ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة، لا يشرك بي شيئًا لقيته بقرابها مغفرة"2.

قوله: " لو أتيتني بقراب الأرض ". قراب الأرض، بضم القاف، وقيل بكسرها، والضم أشهر، وهو ملؤها أو ما يقارب ملءها.

قوله: " ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا ". شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله، وذلك هو القلب السليم. كما قال تعالى:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 3.

قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة، فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإن

1 البخاري: التوحيد (7405)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675)، والترمذي: الدعوات (3603)، وابن ماجه: الأدب (3822) ، وأحمد (2/251 ،2/509 ،2/524 ،2/534) .

2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2687)، وابن ماجه: الأدب (3821) ، وأحمد (5/148 ،5/167 ،5/169 ،5/172 ،5/180)، والدارمي: الرقاق (2788) .

3 سورة الشّعراء آية: 88-89.

ص: 72

هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات.

وقال شيخ الإسلام: الشرك نوعان: أكبر، وأصغر، فمن خلص منهما

وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر، وجبت له النار، ومن خلص من الأكبر، وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه، دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الأكبر، ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار، فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرًا أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به.

وفي هذه الأحاديث: 1-كثرة ثواب التوحيد. 2-وسعة كرم الله، وجوده ورحمته، حيث وعد عباده أن العبد لو أتاه بملء الأرض خطايا وقد مات على التوحيد فإنه يقابله بالمغفرة الواسعة التي تسع ذنوبه. 3-والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة الذين يقولون بالمنْزلة بين المنزلتين وهي منْزلة الفاسق، فيقولون: ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار والصواب في ذلك قول أهل السنة أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاصٍ أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.

وقال المصنف: 1-تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قول لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين.2- وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على معنى قول لا إله إلا الله. 3- وفيه التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه. 4-وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: "إن الله حرم

ص: 73