المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله] - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد

[سليمان بن عبد الله آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌[كتاب التوحيد]

- ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

- ‌ باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]

- ‌ باب الخوف من الشرك]

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله

- ‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

- ‌ باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]

- ‌ باب ما جاء في الرقى والتمائم]

- ‌ باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما]

- ‌[باب ما جاء في الذبح لغير الله]

- ‌ باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله]

- ‌ باب من الشرك النذر لغير الله]

- ‌[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله]

- ‌ باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

- ‌ باب الشفاعة]

- ‌[باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

- ‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب ما جاء من التغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌ باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

- ‌ باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان]

- ‌ باب ما جاء في السحر]

- ‌باب بيان شيئ من أنواع السحر

- ‌ باب ما جاء في الكهان ونحوهم]

- ‌ باب ما جاء في النشرة]

- ‌ باب ما جاء في التطير]

- ‌ باب ما جاء في التنجيم]

- ‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

- ‌باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌ باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله]

- ‌ باب ما جاء في الرياء]

- ‌ باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]

- ‌ باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِ

- ‌ باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا

- ‌ باب قول الله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله

- ‌ باب قول: ما شاء الله وشئت]

- ‌ باب من سب الدهر فقد آذى الله]

- ‌ باب التسمي بقاضي القضاة]ونحوه

- ‌باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌ باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن أو الرسول]

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي

- ‌باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

- ‌ باب لا يقال: السلام على الله]

- ‌ باب قول اللهم اغفر لي إن شئت]

- ‌ باب لا يقول: عبدى وأمتي]

- ‌ باب لا يرد من سئل بالله]

- ‌ باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة]

- ‌باب ماجاء في "لو

- ‌ باب النهي عن سب الريح]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ

- ‌ باب ما جاء في منكري القدر]

- ‌ باب ما جاء في المصورين]

- ‌ باب ما جاء في كثرة الحلف]

- ‌باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله

- ‌ باب ما جاء في الإقسام على الله]

- ‌ باب لا يستشفع بالله على خلقه]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]

- ‌باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الفصل: ‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

وفيه فضيلة الدعوة إلى الله، وفضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الفتية والقضاء والخبر، والحلف من غير استحلاف.

ص: 109

[م6‌

‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

ش: أي تفسير هاتين الكلمتين، والعطف لتغاير اللفظين، وإلا فالمعنى واحد. ولما ذكر المصنف في الأبواب السابقة التوحيد وفضائله، والدعوة إليه، والخوف من ضده الذي هو الشرك، فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة هذا الأمر الذي خلقت له الخليقة، والذي بلغ من شأنه عند الله أن من لقيه به غفر له، ـ وإن لقيه بملء الأرض خطايا ـ; بين رحمه الله في هذا الباب أنه ليس اسمًا لا معنى له، أو قولاً لا حقيقة له، كما يظنه الجاهلون الذين يظنون أن غاية التحقيق فيه هو النطق بكلمة الشهادة من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معنى الإله هو الخالق المتفرد بالملك، فتكون غاية معرفته هو الإقرار بتوحيد الربوبية، وهذا ليس هو المراد بالتوحيد، ولا هو أيضًا معنى " لا إله إلا الله " وإن كان لا بد منه في التوحيد بل التوحيد اسم لمعنى عظيم، وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني.

وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال بالقلب والعبادة على الله، وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، وهو معنى " لا إله إلا الله" كما قال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. وقال تعالى حكاية عن مؤمن يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ

1 سورة البقرة آية: 163.

2 سورة يس آية: 22-24.

ص: 109

أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 1.

وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} 2 والآيات في هذا كثيرة تبين أن معنى " لا إله إلا الله " هو البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد، وإفراد الله بالعبادة. فهذا هو الهدى، ودين الحق الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه.

أما قول الإنسان: " لا إله إلا الله " من غير معرفة لمعناها، ولا عمل به، أو دعواه أنه من أهل التوحيد، وهو لا يعرف التوحيد، بل ربما يخلص لغير الله من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات، فلا يكفي في التوحيد، بل لا يكون إلا مشركًا والحالة هذه، كما هو شأن عباد القبور. ثم ذكر المصنف آيات تدل على هذا فقال: وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 3 الآية.

قلت: يبين معنى هذه الآية التي قبلها، وهي قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ

} 4 الآية.

قال ابن كثير: يقول تعالى: قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه من الأنداد، وارغبوا إليهم، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم، أي: بالكلية، ولا تحويلاً، أي: أن يحولوه إلى غيركم، والمعنى: إن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له.

قال العوفي عن ابن عباس في الآية: "كان أهل الشرك يقولون: نعبد

1 سورة الزمر آية: 11-14.

2 سورة غافر آية: 41-43.

3 سورة الإسراء آية: 57.

4 سورة الإسراء آية: 56-57.

ص: 110

الملائكة والمسيح والمسيح وعزيرًا وهم الذين يدعون يعني: الملائكة وعزيرًا".

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ

} 1 الآية. وروى البخاري عن ابن مسعود في الآية قال: "ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا". وفي رواية: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم".

وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية: قال: عيسى وأمه وعزير. وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية هم: عيسى وعزير والشمس والقمر.

وقال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة.

وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2، لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء.

وفي التفسير المنسوب إلى الطبري الحنفي قل للمشركين: يدعون أصنامهم دعاء استغاثة فلا يقدرون كشف الضر عنهم، ولا تحويلا إلى غيرهم أولئك الذين يدعون، أي: الملائكة المعبودة لهم يتبادرون إلى طلب القرية إلى الله، فيرجون رحمته، ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورًا، أي: مما يحذره كل عاقل.

وعن الضحاك وعطاء، أنهم الملائكة. وعن ابن عباس: أولئك الذين يدعون عيسى وأمه وعزيرًا.

قال شيخ الإسلام: وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم من كان معبوده عابدًا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز؟ فيريه رغيفًا، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا دون الله مدعوًا.

وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه. فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن، ومعلوم أن هؤلاء كلهم

1 سورة الإسراء آية: 57.

2 سورة الإسراء آية: 57.

ص: 111

يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال:{وَلا تَحْوِيلاً} ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل فكل من دعا ميتًا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة أو دعا الجن، فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويله انتهى.

وبنحو ما تقدم من كلام هؤلاء قال جميع المفسرين: فتبين أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: هو ترك ما عليه المشركون من دعوة الصالحين، والاستشفاع بهم إلى الله في كشف الضر وتحويله، فكيف ممن أخلص لهم الدعوة، وأنه لا يكفي في التوحيد دعواه، والنطق بكلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين، وأن دعاء الصالحين لكشف الضر أو تحويله هو الشرك الأكبر نبه عليه المصنف.

قال: وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي

} 1 الآية.

قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: إنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 2 أي: هذه الكلمة؛ وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله أي: جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام. لعلهم يرجعون، أي: إليها.

قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 3 يعني لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها. وقال ابن زيد: كلمة الإسلام، وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة.

1 سورة الزّخرف آية: 26-27.

2 سورة الزّخرف آية: 26-28.

3 سورة الزخرف آية: 28.

ص: 112

قلت: وروى ابن جرير عن قتادة في قوله: {إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي} 1. قال: خلقني: وعنه {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي} 2. قال: إنهم يقولون: إن الله ربنا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، فلم يبرأ من ربه. رواه عبد بن حميد. قلت: يعني أن قوم إبراهيم يعبدون الله ويعبدون غيره، فتبرأ مما يعبدون إلا الله،

لا كما يظن الجهال أن الكفار لا يعرفون الله، ولا يعبدونه أصلاً. وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 4 قال: الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده.

فتبين بهذا أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة مما يُعْبَدُ من دون الله، وإفراد الله بالعبادة، وذلك هو التوحيد لا مجرد الإقرار بوجود الله وملكه وقدرته وخلقه لكل شيء، فإن هذا يقرُّ به الكفار وذلك هو معنى قوله:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 5 فاستثنى من المعبودين ربه وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله. قاله المصنف.

قال: وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ

} 6.

ش: الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، وذلك أنه "لما جاء مسلمًا دخل على رسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذاك عبادتهم إياه" رواه أحمد والترمذي وحسنه وعبد بن حميد وابن سعد وابن أبي حاتم والطبراني وغيرهم من طرق. وهكذا قال جميع المفسرين.

قال السدي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، ولهذا قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} 7، أي: الذي إذا حرم شيئًا فهو الحرام وما حلله حل، وما شرعه اتبع.

1 سورة الزخرف آية: 27.

2 سورة آية: 26-27.

3 سورة الزخرف آية: 87.

4 سورة الزخرف آية: 28.

5 سورة الزّخرف آية: 26-28.

6 سورة التوبة آية: 31.

7 سورة التوبة آية: 31.

ص: 113

{سُبْحَانَهُ} وتعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، أي: تعالى وتقدس عن الشركاء والنظراء والأضداد، والأندا، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ،، ولا رب سواه.

ومراد المصنف رحمه الله بإيراد الآية هنا أن الطاعة في تحريم الحلال، وتحليل الحرام، من العبادة المنفية من غير الله تعالى، ولهذا فسرت العبادة بالطاعة، وفسر الإله بالمعبود المطاع، فمن أطاع مخلوقًا في ذلك فقد عبده، إذ معنى التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله يقتضي إفراد الله بالطاعة، وإفراد الرسول بالمتابعة، فإن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، وهذا أعظم ما يبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، لأنها تقتضي نفي الشرك في الطاعة، فما ظنك بشرك العبادة، كالدعاء والاستغاثة والتوبة وسؤال الشفاعة وغير ذلك من أنواع الشرك في العبادة، وسيأتي مزيد لهذا إن شاء الله تعالى في باب من أطاع العلماء والأمراء (= 469) .

قال وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ

} 1.

ش: قال المصنف رحمه الله في مسائله: ومنها، أي: من الأمور المبينة لتفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2. وذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبًا عظيما، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند حبًا أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله؟! قلت: مراده أن معنى التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، هو إفراد الله بأصل الحب الذي يستلزم إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل، وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة.

فمن أشرك بالله تعالى في ذلك، فهو المشرك، لهذه الآية، أخبر تعالى عن أهل

1 سورة البقرة آية: 165.

2 سورة البقرة آية: 167.

ص: 114

هذا الشرك أنهم يقولون لآلهتهم وهم في الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الخلق والرزق والملك، وإنما ساووهم به في المحبة والإلهية والتعظيم والطاعة. فمن قال لا إله إلا الله، وهو مشرك بالله في هذه المحبة، فما قالها حق القول وإن نطق بها، إذ هو قد خالفها بالعمل، كما قال المصنف. فكيف بمن أحب الند حبًا أكبر من حب الله؟! .وسيأتي الكلام على هذه الآية في بابها إن شاء الله تعالى (=401) .

[شرح حديث من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه]

قال في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله"2.

ش: قوله في " الصحيح " أي: " صحيح مسلم" عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأبو مالك اسمه سعد بن طارق كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة، وأبوه طارق بن أشيم ـ بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر ـ ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث. قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه.

قوله: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله"3. اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين: الأول: قول: لا إله إلا الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها

قال المصنف: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها! ويا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!

قلت: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلا بدّ في العصمة

1 سورة الشّعراء آية: 97-97.

2 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .

3 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .

ص: 115

من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1 والفتنة هنا: الشرك، فدل على أنه إذا وجد الشرك، فالقتال باق بحاله كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 2 وقال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3 فأمر بقتالهم على فعل التوحيد، وترك الشرك، وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلي سبيلهم، ومتى أبوا عن فعلها أو فعل شيء منها، فالقتال باق بحاله إجماعًا. ولو قالوا: لا إله إلا الله.

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم علق العصمة بما علقها الله به في كتابه كما في هذا الحديث. وفي " صحيح مسلم ". عن أبي هريرة مرفوعًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"4. وفي "الصحيحين " عنه قال: "لما توفي رسول الله وكفر من كفر من العرب، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"5 لفظ مسلم. فانظر كيف فهم صديق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بها من غير إلزام لمعناها وأحكامها، فكان ذلك هو الصواب، واتفق عليه الصحابة، ولم يختلف فيه منهم اثنان إلا ما كان من عمر

1 سورة الأنفال آية: 39.

2 سورة التوبة آية: 36.

3 سورة التوبة آية: 5.

4 البخاري: الجهاد والسير (2946)، ومسلم: الإيمان (21)، والترمذي: الإيمان (2606)، والنسائي: الجهاد (3090 ،3095) وتحريم الدم (3972 ،3974 ،3976 ،3977)، وأبو داود: الجهاد (2640)، وابن ماجه: الفتن (3927 ،3928) ، وأحمد (2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528 ،3/332 ،3/339 ،3/394) .

5 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924)، ومسلم: الإيمان (20)، والترمذي: الإيمان (2607)، والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ،3092)، وأبو داود: الزكاة (1556) ، وأحمد (1/19 ،1/47) .

ص: 116

حتى رجع إلى الحق.

وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة. وفي " الصحيحين " أيضا عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"1. فهذا الحديث كآية براءة بيّن فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء، فإذا فعلوه، وجب الكف عنهم إلا بحقه، فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله، بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها، وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه، ـ أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا أو الزنا أو نحو ذلك ـ وجب قتالهم إجماعًا، ولم تعصمهم لا إله إلا الله ولا ما فعلوه من الأركان.

وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، وأنه ليس المراد منها مجرد النطق، فإذا كانت لا تعصم من استباح محرمًا، أو أبى عن فعل الوضوء مثلاً بل يقاتل على ذلك حتى يفعله، فكيف تعصم من دان بالشرك وفعله وأحبه ومدحه، وأثنى على أهله، ووالى عليه، وعادى عليه، وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله، وتبرأ منه، وحارب أهله، وكفرهم، وصد عن سبيل الله كما هو شأن عباد القبور، وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلا الله، وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد.

ذكر التنبيه على كلام العلماء في ذلك فإن الحاجة داعية إليه لدفع شبه عباد القبور في تعلقهم بهذه الأحاديث وما في معناها مع أنها حجة عليهم بحمد الله لا لهم.

قال أبو سليمان الخطابي في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"2. معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون

1 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .

2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924)، ومسلم: الإيمان (20)، والترمذي: الإيمان (2607)، والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ،3092)، وأبو داود: الزكاة (1556) ، وأحمد (1/19 ،1/47) .

ص: 117

أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف.

وقال القاضي عياض: اختصاص عصم المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر:"ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"1.

وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان لجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في الرواية الأخرى:"ويؤمنوا بي وبما جئت به"2.

وقال شيخ الإسلام: لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام، فقال: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم قال: فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء.

قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام بمنْزلة مانعي الزكاة.

1 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .

2 مسلم: الإيمان (21) .

ص: 118

ومثل هذا كثير في كلام العلماء.

والمقصود التنبيه على ذلك، ويكفي العاقل المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد، فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو أتى بجميع الدين. وهو صريح في كفر عباد القبور، ووجوب قتالهم إن لم ينتهوا حتى يكون الدين لله وحده، فإذا كان من التزام شرائع الدين كلها إلا تحريم الميسر أو الربا أو الزنا يكون كافرًا يجب قتاله، فكيف بمن أشرك بالله ودعي إلى إخلاص الدين لله والبراءة والكفر بمن عبد غير الله، فأبى عن ذلك، واستكبر وكان من الكافرين؟!

قوله: "وحسابه على الله" أي: إلى الله تبارك وتعالى، هو الذي يتولى حسابه، فإن كان صادقًا من قلبه جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا، فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرًا، وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.

واستدل الشافعية بالحديث على قبول توبة الزنديق، وهو الذي يظهر الإسلام، ويسر الكفر. والمشهور في مذهب أحمد ومالك أنها لا تقبل، لقوله تعالى:{إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} 1 والزنديق لا يتبين رجوعه، لأنه مظهر الإسلام، مسر للكفر، فإذا أظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها. والحديث محمول على المشرك. ويتفرع على ذلك سقوط القتل وعدمه، أما في الآخرة فإن كان دخل في الإسلام صادقًا قبلت.

وفيه وجوب الكف عن الكافر إذا دخل في الإسلام ولو في حال القتال حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.

وفيه أن الإنسان قد يقول: لا إله إلا الله، ولا يكفر بما يعبد من دون الله.

وفيه أن شرط الإيمان الإقرار بالشهادة، والكفر بما يعبد من دون الله مع اعتقاد ذلك واعتقاد جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفيه أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن مال المسلم ودمه حرام إلا في حق، كالقتل قصاصًا ونحوه، وتغريمه قيمة ما يتلفه.

1 سورة البقرة آية: 160.

ص: 119