الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: "إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم". أي: أنا لم أُكَنّ نفسي بهذه الكنية، وإنما كنت أحكم بين قومي فكنوني بها. وفيه جواز التحاكم إلى من يصلح للقضاء، وإن لم يكن قاضيًا، وأنه يلزم حكمه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما أحسن هذا". قال الخلخالي: للتعجب، أي: الحكم بين الناس حسن، ولكن هذه الكنية غير حسنة. وقال غيره: أي: الذي ذكرته من الحكم بالعدل. وقيل: ما أحسن هذا! أي: ما ذكرت من وجه الكنية. قال بعضهم: وهو الأولى. قلت: فعلى هذا يكون حكمه لقومه قبل إسلامه، إذ يبعد أن يكون قاضيًا لهم قبل أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه; لأن هذه القصة كانت بعد إسلامه بقليل، لأنه كان مع وفد قومه حين أسلموا، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَسِّنُ أمر حكام الجاهلية.
قوله: "قال: شريح ومسلم وعبد الله". صريح في أن الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي مطلق الجمع، فلذا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأكبر، إذ لو كانت دالة على الترتيب لم يحتج إلى سؤال عن أكبرهم.
قوله: "فأنت أبو شريح"، أي رعاية للأكبر منا في التكريم والإجلال، فإن الكبير أولى بذلك. قال في "شرح السنة": فيه أن يكنى الرجل بأكبر بنيه، فإن لم يكن له ابن، فبأكبر بناته. وكذلك المرأة تكنى بأكبر بنيها فإن لم يكن لها ابن فبأكبر بناتها. انتهى. وفيه تقديم الأكبر، وفيه أن استعمال اللفظ الشريف الحسن مكروه في حق من ليس كذلك، ومنه أن يقول المملوك لسيده وغيره:"ربي" نبه عليه ابن القيم.
[42-
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن أو الرسول]
ش: أي: إنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد. ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئًا من
ذلك فمن استهزأ بالله، أو بكتابه أو برسوله، أو بدينه، كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا.
قال: وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
…
} 1.
ش: يقول تعالى مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} ، أي: سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 2، أي: يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب، إنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 3، لم يعبأ باعتذارهم إما لأنهم كانوا كاذبين فيه، وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورًا، وعلى التقديرين فهذا عذر باطل، فإنهم أخطئوا موقع الاستهزاء.
وهل يجتمع الإيمان بالله، وكتابه، ورسوله، والاستهزاء بذلك في قلب؟! بل ذلك عين الكفر فلذلك كان الجواب مع ما قبله {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 4.
قال شيخ الإسلام: فقد أمره أن يقول: كفرتم بعد إيمانكم. وقول من يقول: إنهم قد كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح، لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر. فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد: إنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا ذلك إلا لخوضهم، وهم مع خوضهم ما زالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} ، [التّوبة، من الآية: 64] ، تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء، أي: صاروا كافرين بعد إيمانهم. ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين إلى أن قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 5، فاعترفوا ولهذا قيل:{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} 6، فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرًا، بل ظنوا أن ذلك ليس
1 سورة التوبة آية: 65.
2 سورة التوبة آية: 65.
3 سورة التوبة آية: 65.
4 سورة التوبة آية: 66.
5 سورة التوبة آية: 65.
6 سورة التوبة آية: 66.
بكفر. فتبين أن الاستهزاء بآيات الله ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم. ولكن لم يظنوه كفرًا وكان كفرًا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه.
وقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} 1. قال ابن كثير: أي: لا يعفى عن جميعكم، ولا بد من عذاب بعضكم بأنهم كانوا مجرمين بهذه المقالة الفاجرة. قيل: إن الطائفة مخشي بن حُمَير عفا الله عنه وتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم مقتله، فقتل يوم اليمامة، ولم يعلم مقتله، ولا من قتله، ولا يدرى له عين ولا أثر. وقيل: إن الطائفة زيد بن وديعة. والأول أشهر، ويحتمل أن الله عفا عنهما جميعًا.
وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك، بل يكفر، وعلى أن الشاك2 كافر بطريق الأولى نبه عليه شيخ الإسلام.
[النهي عن الخوض بآيات الله والاستهزاء بها]
قال: عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه "قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء. فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة3ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ما يلتفت إليه وما يزيد عليه".
1 سورة التوبة آية: 66.
2 في الطبعة السابقة: الساب.
3 بكسر فسكون: سير مضفور يجعل زماما للبعير.
ش: هذا الأثر ذكره المصنف مجموعًا من رواية ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة، وقد ذكره قبله كذلك شيخ الإسلام. فأما أثر ابن عمر فرواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما بنحو مما ذكره المصنف. وأما أثر محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة فهي معروفة لكن بغير هذا اللفظ.
قوله: "عن ابن عمر". هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ومحمد بن كعب هو محمد بن كعب بن سليم أبو حمزة القرظي المدني. قال البخاري: إن أباه كان ممن لم ينبت من بني قريظة، وهو ثقة عالم مات سنة عشرين ومئة.
وزيد بن أسلم هو مولى عمر بن الخطاب، والد عبد الرحمن وإخوته، يكنى أبا عبد الله، ثقة مشهور مات سنة ست وثلاثين ومئة.
وقتادة هو ابن دعامة وتقدم.
قوله: "دخل حديث بعضهم في بعض"، أي: إن الحديث مجموع من رواياتهم، فلذلك دخل بعضه في بعض.
قوله: "إنه قال رجل في غزوة تبوك"، لم أقف على تسمية القائل لذلك أبهم اسمه في جميع الروايات التي وقفت عليها. ولكن قد ورد تسمية جماعة ممن نزلت فيهم الآية مع اختلاف الرواية فيما قالوه من الكلام. ففي بعض الروايات أنهم قالوا ما ذكره المصنف.
وعن مجاهد في الآية: "قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد أن ناقة فلان بواد كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب؟! ". رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وعن قتادة قال:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك، وبين يديه أناس من المنافقين، فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟! هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم احبسوا علي الركب. فأتاهم فقال: "قلتم كذا، وقلتم كذا. قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب" فأنزل الله فيهم ما تسمعون. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وفي رواية جابر بن عبد الله عند ابن
مردويه: " كان فيمن تخلف من المنافقين بالمدينة وداعه بن ثابت أحد بني عمرو بن عوف، فقيل له: ما خلفك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الخوض واللعب، فأنزل الله فيه وفي أصحابه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
…
} ".
وسمى ابن عباس في رواية عند ابن مردويه منهم: وديعة بن ثابت ومخشي بن حمير، وأنهم قالوا: أتحسبون أن قتال بني الأصفر كقتال غيرهم، والله لكأنكم غدًا تفرون في الجبال. القصة بكمالها. فيحتمل أنهم قالوا ذلك كله، فإن المنافقين إذا خلوا إلى شياطينهم أخذوا في الاستهزاء بالله وآياته ورسوله والمؤمنين، فلا يبعد أنهم قالوا ذلك. فكل ذكر بعض كلامهم، والآية تعم ذلك.
وفي هذه الروايات ذكر أسماء القائلين لبعضهم ذلك، منهم: وديعة بن ثابت وقيل وداعة، وزيد ابن وديعة، ومخشي بن حمير الذي تاب الله عليه، لكنه لم يقل ذلك إنما حضره.
وفي بعض الروايات أن عبد الله بن أُبَيّ هو الذي قال ذلك، لكن ردّه ابن القيم1 بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك.
وذكر ابن إسحاق أسماء الذين هموا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فعد جماعة، فيحتمل أنهم من المستهزئين، ويحتمل أنهم غيرهم. ولهذا قال تعالى في المستهزئين:{قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2 وفي الآخرين: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 3.
قوله: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء". القراء جمع قارئ وهم عند السلف الذين يقرؤون القرآن ويعرفون معانيه، أما قراءته من غير فهم لمعناه، فلا يوجد في ذلك العصر، وإنما حدث بعد ذلك من جملة البدع.
قوله: "أرغب بطونًا"، أي: أوسع بطونًا. الرغب والرغيب: الواسع يقال: جوف رغيب وواد رغيب يصفونهم بسعة البطون، وكثرة الأكل، كما روى أبو نعيم عن شريح بن عبيد "أن رجلاً قال لأبي الدرداء: ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لقمًا إذا
1 كان هنا في الأصل سقط استدركناه من "فتح المجيد" للشيخ عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ رحمهم الله تعالى.
2 سورة التوبة آية: 66.
3 سورة التوبة آية: 74.
أكلتم، فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه شيئًا، وأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك، فأخذه بثوبه وخنقه، وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إنما كنا نخوض ونلعب".
قوله: "فقال له عوف بن مالك": كذبت ولكنك منافق. فيه المبادرة في الإنكار والشدة على المنافقين، وجواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه.
قوله: "لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم". فيه أن هذا وما أشبهه لا يكون غيبة ولا نميمة، بل هو من النصح لله ورسوله، فينبغي الفرق بين الغيبة والنميمة، وبين النصيحة لله ورسوله، فذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور; ليزجروهم، ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة. انتهى.
قوله: "فوجد القرآن قد سبقه"، أي: جاءه الوحي من الله بما قالوه في هذه الآية {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 1، وفيه دلالة على علم الله سبحانه، وعلى قدرته وإلهيته، وعلى أن محمدًا رسول الله.
قوله: "فجاء ذلك الرجل"، قد تقدم أنه ابن أبي كما رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عمر، لكن ردّه ابن القيم2 [بأن ابن أُبَيّ تخلف عن غزوة تبوك] .
وفي هذا الحديث من الفوائد:
أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به، وأشدها خطرًا إرادات القلوب فهي كالبحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء
1 سورة التوبة آية: 65.
2 كان هنا في الأصل سقط استدركناه من "فتح المجيد" للشيخ عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ رحمهم الله تعالى.