الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[22-
باب ما جاء في التطير]
مصدر تطير يتطير والطيرة أيضًا - بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن - مصدر تطير، يقال: تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما، وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح، والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم. فإذا أرادوا أمرًا، فإن رأوا الطير مثلاً طار يمنة، تيمنوا به، وإن طار يسرة، تشاؤموا به، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. قال المدائني: سألت رؤبة بن العجاج ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره. قال والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك هو القاعد والقعيد.
ولما كانت الطيرة بابًا من الشرك منافيًا للتوحيد أو لكماله، لأنها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، ذكره المصنف في كتاب "التوحيد" تحذيرًا منها وإرشادًا إلى كمال التوحيد بالتوكل على الله. واعلم أن ما كان معتنيًا بها قابلاً بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه، فالواجب على العبد التوكل على الله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يمضي لشأنه لا يرده شيء من الطيرة عن حاجته فيدخل في الشرك.
قال: وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. ش: أول الآية قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ
…
} 2 الآية. المعنى أن آل فرعون إذا أصابتهم {الْحَسَنَةُ} ، أي: الخصب والسعة والعافية
1 سورة الأعراف آية: 131.
2 سورة الأعراف آية: 131.
على ما فسره مجاهد وغيره قالوا: لنا هذه، أي: نحن الجديرون الحقيقون به، ونحن أهله وإن تصبهم سيئة، أي: بلاء وضيق وقحط يطيروا بموسى ومن معه، فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به. فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده فقال: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} 1. قال ابن عباس: طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم. وفى رواية ذكرها ابن جرير عنه قال: الأمر من قبل الله، وفي رواية: شؤمهم عند الله ومن قبله، أي: إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله. وقيل: المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي عند الله من عذاب النار لا هذا الذي أصابهم في الدنيا. والظاهر أن هذه الآية كقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 2، أي: أن الكل من الله لكن هذا الشؤم الذي أجراه عليهم من عنده هو بسبب أعمالهم لا بسبب موسى عليه السلام ومن معه. وكيف يكون ذلك وما جاء به خير محض؟ والطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3، أي: أن أكثرهم جهال لا يدرون، ولو فهموا أو عقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه السلام شيء يقتضي الطيرة.
وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ألا إنمّا طائر آل فرعون وغيرهم - وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من أنصباء الخير والشر - إلا عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك كذلك، فلجهلهم بذلك كانوا يتطيرون بموسى ومن معه.
قال: وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ
…
} 4 الآية.
ش: المعنى والله أعلم، أي: حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا، بل ببغيكم وعداوتكم فطائر الباغي الظالم معه وهو عند الله كما قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ
1 سورة الأعراف آية: 131.
2 سورة النساء آية: 78.
3 سورة الأنعام آية: 37.
4 سورة يس آية: 19.
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} 1. ولو فقهوا أو فهموا لما تطيروا بما جئت به، لأنه ليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الطيرة، كأنه خير محض لا شر فيه، وصلاح لا فساد فيه، وحكمة لا عيب فيها، ورحمة لا جور فيها. فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا، لأن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير المحض والحكمة والرحمة، بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم وهو عند الله كسائر حظوظهم، وأنصبائهم التي ينالونها منه بأعمالهم. ويحتمل أن يكون المعنى {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي: راجع عليكم، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم، وهذا من باب القصاص في الكلام ونظيره قوله عليه السلام:"إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم"2. ذكره ابن القيم.
وقوله: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} 3 أي: من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له قابلتمونا بهذا الكلام؟! وتوعدتمونا بل أنتم قوم مسرفون. وقال قتادة: أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا؟
ومطابقة الآيتين لمقصود الباب ظاهر، لأن الله تعالى لم يذكر الطير إلا عن أعدائه، فهو من أمر الجاهلية، لا من أمر الإسلام.
[لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر]
قال: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر"4. أخرجاه. زاد مسلم عن جابر: "ولا نوء ولا غول"5.
ش: قوله: (لا عدوى) . قال أبو السعادات: العدوى اسم من الأعداء كالدعوى والبقوى من الادعاء والإبقاء. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء. وذلك أن يكون ببعير جرب مثلاً يتقي مخالطته بإبل أخرى حَذَار أن يتعدى ما به من الجرب إليها، فيصيبها ما أصابه. انتهى.
1 سورة النساء آية: 78.
2 البخاري: الاستئذان (6258)، ومسلم: السلام (2163)، والترمذي: تفسير القرآن (3301)، وأبو داود: الأدب (5207)، وابن ماجه: الأدب (3697) ، وأحمد (3/212) .
3 سورة يس آية: 19.
4 البخاري: الطب (5757)، ومسلم: السلام (2220)، وأبو داود: الطب (3911) ، وأحمد (2/267 ،2/327 ،2/397 ،2/434) .
5 البخاري: الطب (5717 ،5757 ،5771)، ومسلم: السلام (2220)، وأبو داود: الطب (3911 ،3912) ، وأحمد (2/267 ،2/397) .
وفي بعض روايات هذا الحديث: "فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب، فيدخل فيها فيجربها كلها؟ قال: فمن أعدى الأول"1. وفي رواية في "مسلم" أن أبا هريرة كان يحدث بحديث: "لا عدوى" ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يورد ممرِض على مصِح" 2. ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث "لا يورد ممرض على مصح" 3 وأمسك عن حديث: "لا عدوى"، فراجعوه فيه، فقالوا: سمعناك تحدثه، فأبى أن يعترف به. قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر.
وقد روى حديث: "لا عدوى"، جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد وابن عمر وغيرهم، فنسيان أبي هريرة له لا يضر. وفي بعض روايات هذا الحديث:"وفر من المجذوم كما تفر من الأسد".
وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا.
فردت طائفة حديث: "لا عدوى"، بأن أبا هريرة رجع عنه. قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر فالمصير إليها أولى، وهذا ليس بشيء، لأن حديث:"لا عدوى"، قد رواه جماعة كما تقدم.
وعكست طائفة هذا القول، ورجحوا حديث:"لا عدوى"، وزيفوا ما سواه من الأخبار، وأعلوا بعضها بالشذوذ كحديث:"فر من المجذوم فرارك من الأسد"4. وبأن عائشة أنكرته كما روى ابن جرير عنها: أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: "لا عدوى" 5. وقال: "فمن أعدى الأول"6. قالت: وكان لي مولى به
1 البخاري: الطب (5717 ،5771 ،5775)، ومسلم: السلام (2220)، وأبو داود: الطب (3911) ، وأحمد (2/267 ،2/327) .
2 مسلم: السلام (2221)، وابن ماجه: الطب (3541) ، وأحمد (2/434) .
3 مسلم: السلام (2221)، وابن ماجه: الطب (3541) ، وأحمد (2/434) .
4 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم: الحج (1337)، والنسائي: مناسك الحج (2619)، وابن ماجه: المقدمة (1 ،2) ، وأحمد (2/247 ،2/258 ،2/313 ،2/355 ،2/428 ،2/447 ،2/456 ،2/467 ،2/482 ،2/495 ،2/508) .
5 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518)، والنسائي: الأشربة (5711) ، وأحمد (1/200)، والدارمي: البيوع (2532) .
6 البخاري: الجمعة (1014)، ومسلم: صلاة الاستسقاء (897)، والنسائي: الاستسقاء (1518) .
هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي. وهذا أيضًا ليس بشيء، فإن الأحاديث في الاجتناب ثابتة.
وحملت طائفة أخرى الإثبات والنفي على حالتين مختلفتين، فحيث جاء (لا عدوى) كان المخاطب بذلك من قوي يقينه، وصح توكله بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل واحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا كما أن قوة الطبيعة تدفع العلة وتبطلها. وحيث جاء الإثبات كان المراد به ضعيف الإيمان والتوكل ذكره بعض أصحابنا واختاره وفيه نظر. وقال مالك لما سئل عن حديث "فر من المجذوم": ما سمعت فيه بكراهية وما أرى ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء. ومعنى هذا أنه نفى العدوى أصلاً، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة، لئلا يحدث للمخاطب شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع. وإلى هذا ذهب أبو عبيد وابن جرير والطحاوي وذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد.
قلت: وأحسن من هذا كله ما قاله البيهقي، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله:(لا عدوى) على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَنْ به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك. ولهذا قال:"فر من المجذوم كما تفر من الأسد" وقال: "لا يورد ممرض على مصح". وقال في الطاعون: "من سمع به بأرض فلا يقدم عليه"1. وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال: "فمن أعدى الأول" 2.
1 البخاري: الجمعة (1013)، ومسلم: صلاة الاستسقاء (897)، والنسائي: الاستسقاء (1518)، وأبو داود: الصلاة (1174) ، وأحمد (3/104 ،3/187 ،3/194 ،3/245 ،3/261 ،3/271) .
2 البخاري: الجمعة (1014)، ومسلم: صلاة الاستسقاء (897)، والنسائي: الاستسقاء (1518) .
يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده. وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعًا:"لا يعدي شيء قالها ثلاثًا. فقال الأعرابي: يا رسول الله، النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أجرب الأول؟ لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها"، فأخبر عليه السلام أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} 1.
وأما أمره بالفرار من المجذوم، ونهيه عن إيراد الممرض على المصح، وعن الدخول إلى موضع الطاعون، فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى، وجعلها أسبابًا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو تحت الهدم أو نحو ذلك مما جرت العادة بأنه يهلك ويؤذي، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، وقدوم بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره.
وأما إذا قوي التوكل على الله، والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما إذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال: كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه"2. وقد أخذ
1 سورة الحديد آية: 22.
2 الدارمي: المقدمة (649) .
به الإمام أحمد. وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم. ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد من أكل السم، ومن مشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر قاله ابن رجب.
قوله: "ولا طيرة"قال ابن القيم: هذا يحتمل أن يكون نفيًا أو يكون نهيًا، أي: لا تتطيروا، ولكن قوله في الحديث:"ولا عدوى ولا صفر ولا هامة" 1 يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها. والنفي في هذا أبلغ من النهي، لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه وفي "صحيح مسلم" عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومنا أناس يتطيرون؟ فقال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدَّنَّكم"2. فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه، فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ونزل بها كتبه، وخلق لأجلها السموات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم، لئلا يبقى فيها علق منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة.
فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها. قال عكرمة:"كنا جلوسًا عند ابن عباس فمر طائر يصيح. فقال رجل من القوم: خير خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر"فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر. وخرج طاووس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأي خير عند هذا لا تصحبني انتهى. ملخصًا.
1 البخاري: الطب (5717)، ومسلم: السلام (2220 ،2221 ،2220)، وأبو داود: الطب (3911) ، وأحمد (2/267 ،2/327 ،2/397) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537)، وأبو داود: الصلاة (930) ، وأحمد (5/447) .
ولكن يشكل عليه ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس مرفوعًا: "لا طيرة، والطيرة على من تطير" فظاهر هذا أنها تكون سببًا لوقوع الشر بالمتطير.
وجوابه: أن المراد بذلك من تطير تطيرًا منهيًّا عنه، وهو أن يعتمد على ما يسمعه ويراه حتى يمنعه مما يريده من حاجته، فإنه قد يصيبه ما يكرهه عقوبة له، فأما من توكل على الله، ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفًا ورجاء، وقطعه عن الالتفات إلى غير الله. وقال: وفعل ما أمر به فإنه لا يضره ذلك. وأما من اتقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالأسباب المنهي عنها، فإنه لا ينفعه ذلك غالبًا كمن ردته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به، فإنه كثيرًا ما يصاب بما يخشى به.
وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة.
منها: قوله عليه السلام: "الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار"1. وفي رواية: "لا عدوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث
…
". الحديث وفي حديث آخر "إن كان ففي الفرس، والمرأة، والمسكن". رواهما البخاري فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك وقالت:"كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم من حدث بها ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في المرأة والدار والدابة" ثم قرأت عائشة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] . رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه بمعناه. وقال الخطابي وابن قتيبة: هذا مستثنى من الطيرة، أي: الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه، ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فإنه شؤم.
وقالت طائفة: لم يجزم النبي صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة، بل
1 النسائي: قطع السارق (4877)، وأبو داود: الحدود (4380)، وابن ماجه: الحدود (2597) ، وأحمد (5/293)، والدارمي: الحدود (2303) .
علقه على الشرط كما ثبت ذلك في الصحيح، ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد بمفردها، قالوا: والراوي غلط.
قلت: لا يصح تغليطه مع إمكان حمله على الصحة، ورواية تعليقه بالشرط لا تدل على نفي رواية الجزم.
وقالت طائفة أخرى: الشؤم بهذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها فيكون شؤمها عليه، ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشئومة عليه، قالوا: ويدل عليه حديث أنس: "الطيرة على من تطير". وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه، كما يجعل الثقة به والتوكل عليه، وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر. وقال ابن القيم: إخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة، ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعيانًا منها مشئومة على من قاربها وسكنها، وأعيانًا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر. وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدًا مشئومًا يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها. فكذلك الدار والمرأة والفرس. والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له، ويخلق بعضها نحوسًا يتنحس بها من قاربها، وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة، ولذذ بها من قاربها من الناس، وخلق ضدها وجعلها سببًا لألم من قاربها من الناس، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل فهذا لون والطيرة الشركية لون. انتهى.
قلت: ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة، أن يسأل الله من خيرها وخير ما جبلت عليه، ويستعيذ من شرها وشر ما جبلت عليه، وكذلك ينبغي لمن سكن دارًا أن يفعل ذلك
ولكن يبقى على هذا أن يقال: هذا جار في كل مشئوم فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ وجوابه أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصت بالذكر لذلك، ذكره في "شرح السنن".
ومنها ما روى مالك عن يحيى بن سعيد قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة"1. رواه أبو داود عن أنس بنحوه.
وجوابه أن هذا ليس من الطيرة المنهي عنها، بل أمرهم بالانتقال لأنهم استثقلوها واستوحشوا منها، لما لحقهم فيها ليتعجلوا الراحة مما دخلهم من الجزع، لأن الله قد جعل في غرائز الناس استثقال ما نالهم الشر فيه، وإن كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يديه الخير لهم، وإن لم يردهم به، ولأن مقامهم فيها قد يقودهم إلى الطيرة، فيوقعهم ذلك في الشرك، والشر الذي يلحق المتطير بسبب طيرته، وهذا بمنْزلة الخارج من بلد الطاعون غير فار منه، ولو منع الناس الرحلة من الدار التي تتوالى عليهم فيها المصائب والمحن، وتعذر الأرزاق مع سلامة التوحيد في الرحلة، للزم كل من ضاق عليه رزق في بلد أو قلة فائدة صناعته أو تجارته فيها أن لا ينتقل عنها إلى غيرها.
ومنها فإن قيل: ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء حيث رخص في الارتحال عن الدار دون موضع البلاء؟ أجاب بعضهم أن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا يقع التطير منه إلا نادرًا، أو إلا مكررًا، فهذا لا يصغى إليه كنعي الغراب في السفر، وصراخ بومة في دار، وهذا كانت العرب تعتبره.
ثانيها: ما يقع به ضرر، ولكنه يعم ولا يخص ويندر ولا يتكرر كالوباء، فهذا لا يقدم عليه ولا يفر منه.
وثالثها: سبب محض ولا يعم ويلحق به الضرر لطول الملازمة كالمرأة، والفرس والدار فيباح له الاستبدال، أو التوكل على الله، والإعراض عما يقع في النفس ذكره في "شرح السنن".
1 البخاري: التوحيد (7410)، ومسلم: الإيمان (193)، وابن ماجه: الزهد (4312) ، وأحمد (3/116 ،3/244 ،3/247) .
ومنها: "حديث اللقحة لما منع النبي صلى الله عليه وسلم حربًا ومرة من حلبها وأذن ليعيش". رواه مالك.
وجوابه: أن ابن عبد البر قال: ليس هذا عندي من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله، وإنما هو من طلب الفأل الحسن. وقد كان أخبرهم عن أقبح الأسماء أنه حرب ومرة. فالمراد بذلك حتى لا يتسمى بهما أحد. وقد روى ابن وهب في "جامعه" ما يدل على هذا فإنه قال في هذا الحديث:"فقام عمر بن الخطاب فقال: أتكلم يا رسول الله أم أصمت؟ فقال: بل اصمت وأخبرك بما أردت، ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير إلا طيره، ولا خير إلا خيره، ولكن أحب الفأل الحسن".
وعلى هذا تجري بقية الأحاديث التي توهم بعضهم أنها من باب الطيرة.
قوله: "ولا هامة"بتخفيف الميم على الصحيح. قال الفراء: الهامة طائر من طير الليل كأنه يعني: البومة قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدًا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر الصدى، وبه جزم ابن رجب قال: وهذا شبيه باعتقاد أهل التناسخ أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من غير بعث ولا نشور، وكل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها وتكذيبها. ولكن الذي جاءت به الشريعة أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها إلى أن يردها الله إلى أجسادها. وذكر الزبير بن بكار في "الموفقيات" أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل، ولم يؤخذ بثأره، خرجت من رأسه هامة، وهي دودة فتدور حول قبره وتقول: اسقوني. وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي
…
أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
قال: وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب.
قوله: "ولا صفر"، بفتح الفاء. روى أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث " له عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب. فعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، ويكون عطفه على العدوى من عطف الخاص على العام. وممن قال بهذا: سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري وابن جرير، وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم، ويحرمون صفر مكانه. وهذا قول مالك وفيه نظر. وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: إن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر ويقولون: إنه شهر مشؤوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينتهي عن السفر فيه. والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام، كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة.
قوله: "ولا نوء"النوء واحد الأنواء. وسيأتي الكلام عليه في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.
قوله: "ولا غول". هو بالفتح مصدر معناه: البعد والهلاك وبالضم الاسم، وجمعه أغوال وغيلان وهو المراد هنا. قال أبو السعادات: الغول واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولاً، أي: تتلون تلونًا في صور شتى وتُغْوِلُهم، أي: تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله.
وقيل: قوله: لا غول ليس نفيًا لعين الغول ووجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله. فيكون المعنى بقوله:"لا غول"، أنها لا تستطيع أن تضل أحدًا ويشهد له الحديث الآخر: "لا غول ولكن السعالي سحرة
الجن" أي: ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، ومنه الحديث: "إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان" 1. أي: ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها، ومنه حديث أبي أيوب: كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ.
[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل]
قال: ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة"2.
ش قوله: "ويعجبني الفأل". قال أبو السعادات: الفأل مهموز فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر، يقال: تفاءلت بكذا، وتفألت على التخفيف والقلب. وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفًا، وإنما أحب الفأل، لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير، ولو غلطوا في جهة الرجاء، فإن الرجاء لهم خير، وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر.
وأما الطيرة، فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء. ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض، فيتفاءل بما يسمع من كلام فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة، فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه برئ من مرضه ويجد ضالته ومنه الحديث قيل:"يا رسول الله ما الفأل؟ فقال: الكلمة الصالحة"3.
قوله: "قالوا وما الفأل؟ قال الكلمة الطيبة"4. بين لهم صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه فدل أنه ليس من الطيرة المنهي عنها.
قال ابن القيم:"ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، ومن حب الفطرة الإنسانية التي
1 أحمد (3/381) .
2 البخاري: الطب (5776)، ومسلم: السلام (2224)، والترمذي: السير (1615)، وأبو داود: الطب (3916)، وابن ماجه: الطب (3537) ، وأحمد (3/118 ،3/130 ،3/154 ،3/173 ،3/178 ،3/251 ،3/275 ،3/277) .
3 البخاري: الطب (5754)، ومسلم: السلام (2223) ، وأحمد (2/266 ،2/387 ،2/406 ،2/453 ،2/507 ،2/524) .
4 البخاري: الطب (5754)، ومسلم: السلام (2223)، وابن ماجه: الطب (3536) ، وأحمد (2/266 ،2/387 ،2/406 ،2/453 ،2/524) .
تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب. وكان يحب الحلوى والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه ويحب معالي الأخلاق، ومكارم الشيم، وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما. والله سبحانه وتعالى قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع، استبشرت بها النفس، وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها، أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفًا وطيرة وانكماشًا وانقباضًا عما قصدت له وعزمت عليه، فأورت لها ضررًا في الدنيا، ونقصًا في الإيمان، ومقارفة للشرك"
وقال الحليمي: "إنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال"
قال: ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: "ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك" 1.
ش: قوله: (عن عقبة بن عامر) ، هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد بن حنبل في روايته: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره الجهني، واختلف في صحبته فقال البارودي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال المزي: لا صحبة له تصح.
1 أبو داود: الطب (3919) .
قوله: فقال: "أحسنها الفأل". قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل. وروى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح يا راشد" 1 وروى أبو داود عن بريدة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه فإذا أعجبه، فرح به وإن كره اسمه، رئي كراهيته ذلك في وجهه"2. وإسناده حسن. فهذا في استعمال الفأل. قال ابن القيم في الكلام على الحديث المشروح: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها، ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر، ونظير هذا منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة.
قوله: "ولا ترد مسلمًا". قال الطّيْبِي: تعريض بأن الكافر بخلافه.
قوله: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت"، أي: لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات، بل أنت
وحدك لا شريك لك، الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات. وهذا دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًّا، ويعد من اعتقدها سفيهًا مشركًا.
قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بك"، استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببًا لوقوع المكروه وعقوبة لفاعلها، وذلك إنما يصدر من تحقيق التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات، ودفع المكروهات. والحول: التحول والانتقال من حال إلى حال، والقوة على ذلك، أي: لا حول ولا قوة على ذلك الحول إلا بك، وذلك يفيد التوكل على الله لأنه علم وعمل، فالعلم معرفة القلب بتوحد الله بالنفع والضر، وعامة
1 الترمذي: السير (1616) .
2 أبو داود: الطب (3920) ، وأحمد (5/347) .
المؤمنين بل كثير من المشركين يعلمون ذلك، والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كل ما سواه، وهذا عزيز ويختص به خواص المؤمنين، وهو داخل في هذه الكلمة، لأن فيها التبرؤ من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته والإقرار بقدرته على كل شيء، وبعجز العبد عن كل شيء إلا ما أقدره عليه ربه، وهذا نهاية توحيد الربوبية الذي يثمر التوكل وتوحيد العبادة.
[الطيرة شرك]
قال: وعن ابن مسعود مرفوعًا: "الطيرة شرك الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل"1. رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ش: هذا الحديث رواه أيضًا ابن ماجة وابن حبان ولفظ أبي داود: "الطيرة شرك الطيرة شرك ثلاثًا"2.
قوله: "الطيرة شرك"، صريح في تحريم الطيرة وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله. وقال ابن حمدان في "الرعاية": تكره الطيرة، وكذا قال غير واحد من أصحاب أحمد. قال ابن مفلح: والأولى القطع بتحريمها. ولعل مرادهم بالكراهة التحريم.
قلت: بل الصواب القطع بتحريمها، لأنها شرك وكيف يكون الشرك مكروهًا الكراهة الاصطلاحية؟! فإن كان القائل بكراهتها أراد ذلك فلا ريب في بطلانه. قال في "شرح السنن": وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعًا، أو يدفع عنهم ضرًّا إذا عملوا بموجبه فكأنهم شركوه مع الله تعالى.
قوله: "وما منا إلا
…
". قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: في الحديث إضمار والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك انتهى. وحاصله: وما منا إلا من يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه. فحذف ذلك اعتمادًا على فهم السامع. وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة وهذا نوع من أدب الكلام.
1 الترمذي: السير (1614)، وأبو داود: الطب (3910)، وابن ماجه: الطب (3538) ، وأحمد (1/389 ،1/438 ،1/440) .
2 الترمذي: السير (1614)، وأبو داود: الطب (3910)، وابن ماجه: الطب (3538) ، وأحمد (1/389 ،1/438 ،1/440) .
قوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل"أي: ما منا إلا من يقع في قلبه ذلك، ولكن لما توكلنا على الله وآمنا به، واتبعنا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدنا صدقه، أذهب الله ذلك عنا، وأقر قلوبنا على السنة واتباع الحق.
قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود) . قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا: "وما منا" هذا عندي من قول ابن مسعود، فالترمذي نقل ذلك عن سليمان بن حرب ووافقه على ذلك العلماء. قال ابن القيم: وهو الصواب، فإن الطيرة نوع من الشرك.
قال: ولأحمد من حديث ابن عمرو "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك"1.
ش: هذا الحديث رواه الإمام أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا وفي إسناده ابن لهيعة وفيه اختلاف، وبقية رجاله ثقات.
قوله: (من حديث ابن عمرو) . هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف.
قوله: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك". وذلك أن التطير هو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها عن سفره، وامتنع بها عما عزم عليه، فقد قرع باب الشرك، بل ولجه وبرئ من التوكل على الله، وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله، وذلك قاطع له عن مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فيصير قلبه متعلقًا بغير الله، وذلك شرك،
1 أحمد (2/220) .
فيفسد عليه إيمانه، ويبقى هدفًا لسهام الطيرة. ويقيض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه، وكم ممن هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة!
قوله: (فما كفارة ذلك
…
) إلى آخر الحديث. هذا كفارة لما يقع من الطيرة، ولكن يمضي مع ذلك ويتوكل على الله، وفيه الاعتراف بأن الطير خلق مسخر مملوك لله، لا يأتي بخير ولا يدفع شرًّا، وأنه لا خير في الدنيا والآخرة إلا خير الله، فكل خير فيهما فهو من الله تعالى تفضلاً على عباده، وإحسانًا إليهم وأن الإلهية كلها لله ليس فيها لأحد من الملائكة والأنبياء عليهم السلام شركة، فضلاً عن أن يشرك فيها ما يراه ويسمعه مما يتشاءم به.
قوله: وله من حديث الفضل بن العباس "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"1.
ش: هذا الحديث رواه أحمد في "المسند" ولفظه حدثنا حماد بن خالد قال: ثنا ابن علاثة عن مسلمة الجهني قال: سمعته يحدث عن الفضل بن عباس قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فبرح ظبي فمال في شقه فاحتضنته فقلت: يا رسول الله تطيرت قال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"2. هكذا رواه أحمد وفي إسناده نظر. وقرأت بخط المصنف: فيه رجل مختلف فيه، وفيه انقطاع أي: بين مسلم وبين الفضل وهو ابن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر ولد العباس. قال ابن معين: قتل يوم اليرموك في عهد أبي بكر رضي الله عنه. وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر، سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. قال أبو داود: قتل بدمشق كان عليه درع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الواقدي وابن سعد: مات في طاعون عمواس.
قوله: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"3. هذا حد للطيرة المنهي
1 أحمد (1/213) .
2 أحمد (1/213) .
3 أحمد (1/213) .