المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك] - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد

[سليمان بن عبد الله آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌[كتاب التوحيد]

- ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

- ‌ باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]

- ‌ باب الخوف من الشرك]

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله

- ‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

- ‌ باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]

- ‌ باب ما جاء في الرقى والتمائم]

- ‌ باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما]

- ‌[باب ما جاء في الذبح لغير الله]

- ‌ باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله]

- ‌ باب من الشرك النذر لغير الله]

- ‌[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله]

- ‌ باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

- ‌ باب الشفاعة]

- ‌[باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

- ‌باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب ما جاء من التغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌ باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

- ‌ باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان]

- ‌ باب ما جاء في السحر]

- ‌باب بيان شيئ من أنواع السحر

- ‌ باب ما جاء في الكهان ونحوهم]

- ‌ باب ما جاء في النشرة]

- ‌ باب ما جاء في التطير]

- ‌ باب ما جاء في التنجيم]

- ‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

- ‌باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌ باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله]

- ‌ باب ما جاء في الرياء]

- ‌ باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]

- ‌ باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله]

- ‌ باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِ

- ‌ باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا

- ‌ باب قول الله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله

- ‌ باب قول: ما شاء الله وشئت]

- ‌ باب من سب الدهر فقد آذى الله]

- ‌ باب التسمي بقاضي القضاة]ونحوه

- ‌باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌ باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن أو الرسول]

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي

- ‌باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}

- ‌ باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

- ‌ باب لا يقال: السلام على الله]

- ‌ باب قول اللهم اغفر لي إن شئت]

- ‌ باب لا يقول: عبدى وأمتي]

- ‌ باب لا يرد من سئل بالله]

- ‌ باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة]

- ‌باب ماجاء في "لو

- ‌ باب النهي عن سب الريح]

- ‌ باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ

- ‌ باب ما جاء في منكري القدر]

- ‌ باب ما جاء في المصورين]

- ‌ باب ما جاء في كثرة الحلف]

- ‌باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله

- ‌ باب ما جاء في الإقسام على الله]

- ‌ باب لا يستشفع بالله على خلقه]

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]

- ‌باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الفصل: ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

وابن ماجة، والترمذي وصححه، وضعفه عبد الحق، وحسنه ابن القطان. ولا يعارض هذا حديث:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه مسلم وغيره; لأن هذا إن سلم دخول النساء فيه، فهو عامّ والأول خاص، والخاص مقدم عليه، وأيضا ففي دخول النساء في خطاب الذكور خلاف عند الأصوليين.

قوله: "والمتخذين عليها المساجد" 1 تقدم في الباب قبله شرحه وتعليله.

قوله: (والسرج) . هذا دليل على تحريم اتخاذ السرج على القبور.

قال أبو محمد المقدسي: لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، لأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور، أشبه تعظيم الأصنام. وقال ابن القيم: اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر.

ووجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب دون الذي قبله، هو أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، وقرن بينهما، فهما قرينان في اللعنة، فدل ذلك على أنه ليس المنع من اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، بل لأجل نجاسة الشرك، ولذلك قرن بينه وبين من لا سراج عليها، وليس النهي عن الإسراج لأجل النجاسة، فكذلك البناء.

قوله: (رواه أهل "السنن") يعني هنا أبا داود، وابن ماجة، والترمذي فقط، ولم يروه النسائي.

1 الترمذي: الإيمان (2641) .

ص: 292

[16-‌

‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

الجناب: هو الجانب. واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئًا من حمايته صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته

ص: 292

الخاصة. ولقد بالغ صلى الله عليه وسلم وحذر وأنذر، وأبدأ وأعاد، وخص وعم في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، كما قال بعض العلماء: هي أشد الشرائع في التوحيد والإبعاد عن الشرك، وأسمح الشرائع في العمل.

قال: وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ

} 1.

ش: قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} 2. هذا خطاب من الله تعالى للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديده نعمه عليهم، إذ جاءهم بلسانهم، وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة، وشرفوا به أبد الآبدين.

وقوله: رسول، أي: رسول عظيم أرسله الله إليكم من أنفسكم، أي: ترجعون معه إلى نفس واحدة، لأنه وأنتم من أب قريب، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة، وأبعد من المحْكِ واللجاجة، وهذا يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب.

قال جعفر بن محمد في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.

وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} 4 أي: شديد عليه جدا ما عنتم، أي: عنتكم وهو لحاق الأذى الذي يضيق به الصدر، ولا يهتدي للمخرج، وهي هنا لفظ عام أي: ما شق عليكم من كفر وضلال وقتل وأسر وامتحان بسبب الحق. و"ما" مصدرية وهي مبتدأ، و "عزيز" خبر مقدم، ويجوز أن يكون "ما عنتم" فاعلاً ب "عزيز" و "عزيز" صفة للرسول، وهذا أصوب.

1 سورة التوبة آية: 128.

2 سورة التوبة آية: 128.

3 سورة البقرة آية: 129.

4 سورة التوبة آية: 128.

ص: 293

وقوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: بليغ الحرص عليكم، أي: على نفعكم وإيمانكم وهداكم. والمعنى: شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه.

وروى الطبراني بإسناد جيد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهوى إلا وهو يذكر لنا منه علمًا. قال: وقال: "ما بقي شيء يقرِّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم".

وروى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال: "فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار. هَلُمَّ عن النار، هَلُمَّ عن النار، فتغلبونني وتَقَحَمُّون فيها" 1.

وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ} ، أي: لا بغيرهم، كما يفيده تقديم الجار رؤءوف، أي: بليغ الشفقة. قال أبو عبيدة: الرأفة أرق الرحمة (رحيم) . أي: بليغ الرحمة، كما هو اللائق بشريف منصبه، وعظيم خلقه، فتأمل هذه الآية وما فيها من أوصافه الكريمة ومحاسنه الجمة التي تقتضي أن ينصح لأمته، ويبلغ البلاغ المبين، ويسد الطرق الموصلة إلى الشرك، ويحمي جناب التوحيد غاية الحماية، ويبالغ أشد المبالغة في ذلك لئلا تقع الأمة في الشرك، وأعظم ذلك الفتنة بالقبور، فإن الغلو فيها هو الذي جر الناس في قديم الزمان وحديثه إلى الشرك، لا جرم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وحمى جناب التوحيد حتى في قبره الذي هو أشرف القبور، حتى نهى عن جعله عيدًا، ودعا الله أن لا يجعله وثنًا يعبد.

وفي الآية مسائل:

منها: التنبيه على هذه النعمة العظيمة، وهي

1 أبو داود: الملاحم (4339)، وابن ماجه: الفتن (4009) .

ص: 294

إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فينا، كما قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1.

ومنها: كونه منا نعمة أخرى عظيمة.

ومنها: كونه بهذه الصفات نعم متعددة.

ومنها: مدح نسبه صلى الله عليه وسلم فهو أشرف العرب بيتًا ونسبًا.

ومنها: رأفته بالمؤمنين.

ومنها: غلظته على الكفار والمنافقين.

قال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلُّوا عَلَيَّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. رواه أبو داود بإسناد حسن. رواته ثقات.

ش قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا"3. قال شيخ الإسلام نور الله ضريحه: أي: لا تعطّلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم.

وفي "الصحيحين" عن ابن عمر مرفوعا "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا"4.

وفي "صحيح مسلم" عن ابن عمر مرفوعًا "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه"5.

وفيه أن الصلاة في المقبرة لا تجوز، وأن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد. وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرنا كراهة القراءة في المقابر، وكل هذا إبعاد لأمته عن الشرك.

قوله: "ولا تجعلوا قبري عيدًا"6. قال شيخ الإسلام: "العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك وتقدم ذلك".

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "العيد ما يعتاد مجيئه

1 سورة آل عمران آية: 164.

2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

4 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598)، وأبو داود: الصلاة (1448) ، وأحمد (2/16 ،2/122) .

5 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780)، والترمذي: فضائل القرآن (2877) ، وأحمد (2/284 ،2/337 ،2/378 ،2/388) .

6 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

ص: 295

وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإن كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدًا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدًا، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوّض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام مني، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر".

وقال غيره: "هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه كالعيد الذي يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت".

قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا مراغمة ومحادة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التلبيس والتدليس بعد التناقض، فقاتل الله أهل الباطل أنَّى يؤفكون. ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: لا تجعلوا عيدًا، فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان، وهكذا غُيِّرَت أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابّين عنه، لجرى عليه، ما جرى على الأديان قبله. ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها؟! ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا، وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري

ص: 296

عيدًا، وصلُّوا عليّ حيثما كنتم" 1. وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟! وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنهما، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا. انتهى.

قلت: وكيف يريد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ويعبر عنه بهذا الكلام، مع أنه أفصح الخلق وأنصحهم، وكان يمكنه أن يقول: أكثروا زيارة قبري، أو اجعلوه عيدًا تعتادون المجيء إليه والعبادة عنده؟! فظهر بطلان هذا القول.

إذا تبين ذلك، فمعنى الحديث نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، واجتماع معهود كالعيد الذي يكون على وجه مخصوص، في زمان مخصوص. وذلك يدل على المنع في جميع القبور وغيرها، لأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان. قال المصنف: وفيه النهي عن الإكثار من الزيارة.

قوله: "وصلُّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. قال شيخ الإسلام: يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا. انتهى.

وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من أحد يسلِّم عَلَيَّ إلا رد الله عَلَيَّ روحي حتى أرد عليه السلام" 3؟ وعن أوس بن أوس مرفوعًا: "أكثروا من الصلاة علي يوم

1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

3 أبو داود: المناسك (2041) ، وأحمد (2/527) .

ص: 297

الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "إن الله حرّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء" 1. رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة.

فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن صلاتنا عليه تبلغه سواء كنا عند قبره أو لم نكن، فلا مزية لمن سلم عليه أو صلى عند قبره، كما قال الحسن بن الحسن: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.

وأما حديث:. فرواه البيهقي [في حياة الأنبياء ص: 15]، وغيره من حديث العلاء بن عمرو الحنفي: حدثنا أبو عبد الرحمن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا، هو محمد بن مروان السدي فيما أرى، وفيه نظر.

قلت: محمد بن مروان السدي الصغير قال فيه يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال الجوزجاني: ذاهب الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وكذلك قال أبو حاتم الرازي والأزدي.

وقال صالح بن محمد: كان يضع الحديث على أن معناه صحيح معلوم من أحاديث أخر، كإخباره بسماع الموتى لسلام من يسلم عليهم إذا مر على قبورهم.

فإن قيل: إذا سمع سلام المسلم عليه عند قبره حصلت المزية بسماعه.

قيل: هذا لو حصل الوصول إلى قبره، أما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران، فلا تحصل مزية، فسواء سلم عليه عند قبره أو في مسجده إذا دخله، أو في أقصى المشرق والمغرب، فالكل يبلغه، كما وردت به الأحاديث، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر به الله، سواء صلى عليه في مسجده أو في مدينته أو في مكان آخر، فعلم أن

1 النسائي: الجمعة (1374)، وأبو داود: الصلاة (1047 ،1531)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1636) ، وأحمد (4/8)، والدارمي: الصلاة (1572) .

ص: 298

ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه، وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه، ولكن لا يوصل إلى قبره صلى الله عليه وسلم.

قال: وعن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه. وقال ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، فإنّ تسليمكم يبلغني أين كنتم"1. رواه في " المختارة".

ش: هذان الحديثان جيدان، حسنا الإسنادين، أما الحديث الأول فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة

فذكره. ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع فيه لين لا يمنع الاحتجاج به. قال ابن معين: هو ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ تعرف وتنكر. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومثال هذا قد يخاف أن يغلط أحيانًا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة.

وقال الحافظ ابن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة.

وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء في "المختارة".

قال أبو يعلى: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب ثنا جعفر بن إبراهيم من "ولد" ذي الجناحين ثنا علي بن عمر عن

1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

ص: 299

أبيه عن علي بن حسين

فذكره.

وعلي بن عمر: هو علي بن عمر بن علي بن الحسين. قال شيخ الإسلام: فانظر كيف هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا أضبط.

قلت: وللحديثين شواهد، منها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سهيل عن جبير بن حنين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"1. وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل [المدني العابد] ، قال: أتى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2. ما أنتم ومَنْ بالأندلس إلا سواء. ورواه القاضي إسماعيل في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 3. ولم يذكر: ما أنتم ومَنْ بالأندلس إلا سواء.

وقال سعيد: أيضًا حدثنا حبان ابن علي ثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني"4. قال شيخ الإسلام: "فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي

1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

3 وقد طبع لأول مرة في المكتب الإسلامي.

4 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

ص: 300

ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندًا".

قوله: (عن علي بن الحسين) . أي: ابن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين رضي الله عنه وهو أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم.

قال الزهري: "ما رأيت قرشيًّا أفضل منه. مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح، وأبوه الحسين سبط النبي صلى الله عليه وسلم وريحانته، وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة".

قوله: (إنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة) -هو بضم الفاء وسكون الراء واحدة الفرج- وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما.

قوله: (فيدخل فيها فيدعو فنهاه إلى آخر الحديث) . وهذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها كما تقدم بعض ذلك، لأن ذلك من اتخاذها عيدًا كما فهمه علي بن الحسين من الحديث. فنهى ذلك الرجل عن المجيء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء عنده، فكيف بقبر غيره؟!

ويدل أيضًا على أن قصد الرجل القبر لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذه عيدًا المنهي عنه، ولهذا لما رأى الحسن بن الحسن سهيلا عند القبر نهاه عن ذلك وذكر له الحديث مستدلا به، وأمر بالسلام عليه عند دخول المسجد. قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدًا، أي: من علماء السلف رخص فيه، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدًا، ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه، لأن ذلك من اتخاذه عيدًا، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك.

قال: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، بل كان الصحابة والتابعون

ص: 301

يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا، أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل. وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم بقوله:"لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني"1. فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام. ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر. وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه لا لسلام ولا لصلاة ولا لدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلامًا أو سلامًا فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجًا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم، فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.

والمقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل. قال عبيد الله بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف. قال عبيد الله: ما نعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.

وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير. قال شيخ الإسلام: إن ذلك لم ينقل عن أحد من

1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

ص: 302

الصحابة، فكان بدعة محضة. وفي "المبسوط" قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليسلم ويمضي. والحكاية التي رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك في قصته مع المنصور وأنه قال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك. فهذه الرواية ضعيفة، أو موضوعة لأن في إسنادها من يتهم محمد بن حميد ومن يجهل حاله.

ونص أحمد أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته والسلام عليه، فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السلام. وذكر أصحاب مالك أنه يدعو مستقبلاً القبلة يوليه ظهره.

وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ ومن الحجة في ذلك ما روى ابن زبالة وهو في "أخبار المدينة" عن عمر بن هارون، عن سلمة بن وردان وهما ساقطان قال: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو.

وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركًا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك.

هذه المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم ونقل فيها اختلاف العلماء في الإباحة والمنع، فمن مبيح لذلك كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور نص عليه مالك ولم يكن يخالفه أحد من الأئمة وهو الصواب.

فقام عليه بعض

ص: 303

المعاصرين له كالسبكي ونحوه فنسبه إلى إنكار الزيارة مطلقًا وهو لم ينكر منها إلا ما كان بشد رحل، كما أنكره جمهور العلماء قبله، أو الزيارة التي يكون فيها دعاء الأموات والاستغاثة بهم في الملمات، مع ما ينضم إلى ذلك من أنواع المنكرات.

ومما يدل على النهي عن شد الرحال إلى القبور ونحوها ما أخرجاه في "الصحيحين" عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"1. فدخل في ذلك شدها لزيارة القبور والمشاهد فإما أن يكون نهيًا، وإما أن يكون نفيًا للاستحباب.

وقد جاء في رواية في "الصحيح" بصيغة النهي صريحًا فتعين أن يكون للنهي. ولهذا فهم منه الصحابة المنع، كما في "الموطأ" و "السنن" عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"2. وروى الإمام أحمد وعمر بن شبه في "أخبار المدينة" بإسناد جيد عن قزعة. قال: أتيت ابن عمر فقلت: "إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته".

وروى أحمد وعمر بن شبه أيضًا عن شهر بن حوشب. قال: سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"3.

فأبو سعيد جعل الطور مما نهي عن شد الرحال إليه، مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد، فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي. والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة وأن الله تعالى سماه

1 البخاري: الجمعة (1189)، ومسلم: الحج (1397)، والنسائي: المساجد (700)، وأبو داود: المناسك (2033)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، وأحمد (2/238)، والدارمي: الصلاة (1421) .

2 النسائي: الجمعة (1430) ، وأحمد (6/7)، ومالك: النداء للصلاة (243) .

3 الترمذي: الصلاة (326)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) ، وأحمد (3/64) .

ص: 304

{الْوَادِ الْمُقَدَّسِ} و {الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} هناك.

وهذا ظاهر لا يخفى على أحد ممن يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه، وهم الجمهور والأئمة الأربعة وأتباعهم ولهذا لم يوجبوا على من نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم الوفاء بذلك، بل لو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعًا باتفاق الأئمة الأربعة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبًا وماشيًا، وإن كان في وجوب الوفاء بنذر إتيانه خلاف والجمهور على أنه لا يجب.

وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفَّى بنذره، وإن كان مقصوه مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره. قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد"1. ذكره إسماعيل ابن إسحاق في "المبسوط" ومعناه في "المدونة" و "الجلاب" وغيرهما من كتب أصحاب مالك.

وبالجملة فقد تنازع العلماء في جواز شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، فالجمهور على المنع، وطائفة من المتأخرين على الجواز، فاستحباب شد الرحال إلى القبور والمشاهد والتقرب به إلى الله كما ظنه السبكي وغيره، قول مبتدع مخالف للإجماع قبله، والأحاديث التي احتج بها كحديث:"من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"، ونحوها لا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه البتة، بل هي ما بين ضعيف وموضوع، أو كلها موضوعة كما قد بين عِلَلَها شيخ الإسلام وغيره. وكثير منها لا يدل على محل النّزاع إذ ليس فيه إلا مطلق الزيارة.

وذلك لا ينكره شيخ الإسلام ولا غيره من العلماء، لأنه

1 النسائي: الجمعة (1430) ، وأحمد (6/7)، ومالك: النداء للصلاة (243) .

ص: 305